Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

“أوبرا القروش الثلاثة” لبريخت في ليلة "الما قبل" و"المابعد"

ملوك الفساد والسياسة على خشبة مضحكة ماكرة

من تقديم معاصر لـأوبرا القروش الثلاثة" (غيتي)

بشكل من الأشكال هناك في تاريخ المسرح في القرن العشرين نقطة فاصلة بين زمنين للخشبة تجعلنا نقول "ما قبل" و"ما بعد". والمعني هنا هو بالتحديد، ماقبل مسرحية الألماني برتولد بريخت "أوبرا القروش الثلاثة" وما بعدها. ويقع ذلك الفاصل الزمني تحديدا في اليوم  الأخير من آب (اغسطس) 1928 : موعد العرض الاول لمسرحية بريخت هذه.

ومما لا شك فيه ان تلك الليلة، ظلت الليلة التي يذكرها بريخت طوال حياته اكثر مما يذكر اية ليلة اخرى. وهي على اي حال ستظل في مدونات تاريخ المسرح الاوروبي بوصفها الليلة التي شهدت العرض الأول للمسرحية التي إعتبرت "واحدة من اجمل واقسى اعمال القرن العشرين المسرحية".

بداية مسرح سياسيّ

وتأتي اهمية التوقف عند العرض الاول لتلك المسرحية من واقع انها تعتبر حقاً فاتحة لنوع معين من المسرح السياسي الحديث، ولصراخ اطلقه المسرح ضد الظلم الاجتماعي والكذب السائد. ومع هذا لم تكن «اوبرا القروش الثلاثة» العمل الاول لمؤلفها، الذي كان في  ذلك الحين في الثلاثين من عمره، بل كانت مسرحيته السابعة. وكانت عملا ساخراً موسيقياً وضع الحانه كورت فايل، واقتبسه بريخت اصلاً عن مسرحية انكليزية قديمة لجون غاي عنوانه «اوبرا الصعاليك». وكانت، اكثر من هذا، مجازفة فنية خطيرة يقوم بها بريخت وفرقته، اذ قبل ذلك كان من الصعب على المسرح ان يقدم كل ذلك البؤس وكل تلك الصفاقة التي تملأ المسرحية في قالب غنائي فكاهي ساخر، بل لا يخلو من تفاؤل.

بالنسبة إلى بريخت ورفاقه، كان من المتوقع ألا يحصد العرض سوى قدر كبير من الفشل. وهو ما عبرت عنه الممثلة لوت لينيا - التي شاركت في العمل -، في مذكراتها قائلة: "عشية العرض الاول لم يكن ثمة ما ينبىء بأن النجاح سيكون حليفنا، بل على العكس كانت كل المؤشرات تجمع على ان الامر سوف ينتهي بكارثة. ففي تلك الاثناء حدثت جملة من الصعوبات - امراض، نزوات ممثلين... الخ -، لتثير برلين كلها، وتضع بطل المسرحية أفرخت على شفير الانهيار العصبي: الممثلة كارولا نيهير اضطرت للبقاء مع زوجها الذي كان يعاني من المرض في مدينة بعيدة. والممثلة هيلينا فايغل، زوجة بريخت، اصيبت بالتهاب الزائدة الدودية، وروزا فاليتي، مغنية الكاباريه الشهيرة رأت، فجأة، ان أغنياتها في المسرحية فاحشة اكثر من اللازم... وهكذا، في امسية العرض الاول امتلأت الصالة بجمهور برليني اتى معظمه بحثاً عن الفضيحة. اطفئت الانوار، وعلى الخشبة، امام الستارة ظهر مغني شوارع جوال ليلقي اول اغنية شاكية (وهي اغنية سوف ترددها برلين كلها منذ صبيحة اليوم التالي). كان الجمهور ينصت وينتظر. وبعد دقائق اخذ ماكي، بطل المسرحية وأزعرها، وتايغر براون، رئيس الشرطة ورفيقه السابق في جيش عموم الهند، اخذا ينشدان سوياً في أحد المواخير اغنية المدافع. وهنا حدث امر مباغت: اندلع في الصالة صخب غريب لا سابق له. واخذ الجمهور يصرخ مقرظاً، وابتداء من تلك اللحظة لم يعد بإمكان اي شيء ان يبدو سيّئاً. كان الجمهور معنا ولم يُبد اي تحفظ في مناصرتنا. اما نحن فكان من المستحيل علينا ان نصدق عيوننا وآذاننا».

ذلك الشرط الإنساني

اذن، في تلك الليلة، تدفق الجمهور ليشاهد واحدة من أكثر الفضائح المسرحية قوة. لكنه خرج من الصالة وقد شهد ولادة واحد من أهم الأعمال الفنية في القرن العشرين. دخل بريخت الصالة يومها خائفاً. ثم خرج منها بعد ساعات منتصرا. ومن هنا ما قاله النقاد يومها، من ان ولادة برتولد بريخت الحقيقية كانت في تلك اللحظة بالذات. ومعه ولد الالتباس في فن المسرح السياسي، حيث ان النقاد اجمعوا، وتبعهم المؤرخون بعد ذلك ان «أوبرا القروش الثلاثة» كانت من الثراء بحيث رأى فيها كل واحد ما يريده. فهي بالنسبة إلى البعض نزول جريء إلى حضيض الجريمة والدعارة، وبالنسبة إلى البعض الآخر، كانت المسرحية حافلة بعناصر اللؤم والقبح وتستخدم كلمات وموسيقى متطايرة الشرر، اما بالنسبة إلى الكثيرين فكانت مسرحية ثورية تفضح الشرط الإنساني في محاولة للحض على تغييره. والطريف ما قاله احد النقاد من ان التنديد بالشروط الإنسانية في  هذه المسرحية «أتى اكثر عمومية من ان يمس شخصاً بمفرده. فكل متفرج كان بإمكانه ان ينظر إلى جاره نظرة فريسية ويهمهم. أما دعوات بيتشام إلى التسامح والرأفة، فكان بالإمكان قبولها من دون عناء». وفي جميع الاحوال، ولدت في تلك الليلة مسرحية كبيرة، ترجمت بعد ذلك إلى شتى اللغات، ونقلتها الشاشة الكبيرة، وفتحت فتحاً كبيراً في عالم المسرح السياسي الساخر في القرن العشرين.

على أية حال، قد لا تكون “أوبرا القروش الثلاثة” أجمل أعمال بريخت. ولكن من المؤكد، في المقابل، انها الأشهر والأكثر اقتباساً وترجمة. ومع هذا يمكن أن نقول أن “أوبرا القروش الثلاثة” كما قدمت في معظم الأحيان ، كانت في الوقت عينه خليطا من “الفودفيل” و”الميلودراما البوليسية” و”التهكم الاجتماعي” و”الشاعرية الشعبية”... ما يعني انها كانت أشبه بـ “احتفال أسود” متكيف تماماً مع مناخ الأزمات التي كانت تعصف بأوروبا في ذلك الحين، مناخ الركود الاقتصادي الأميركي وانهيار البورصات وصعود النازية وتفاقم الستالينية... الخ وفي الأحوال كافة ظلت المسرحية تتأرجح  بين “بؤسوية” تشارلز ديكنز، والتعبيرية الألمانية، والفكاهة الانكليزية السوداء.

تحالف ما

تدور أحداث المسرحية، في الأصل في مدينة لندن، عند حقبة زمنية معاصرة بعض الشيء وإن كان من غير الممكن تحديدها بدقة. ومنذ البداية يطالعنا مغن جوال، هو أقرب الى الحكواتي، يحدثنا في نشيده عن مآثر اللص الظريف ماكي، الذي سيقال لنا ثم سرعان ما سنكتشف، انه يتزعم حي سوهو بأكمله. وحي سوهو اللندني كان في زمن الفيلم، ملكوت الفساد واللصوص والقمار والعاهرات والقوادين وكل ضروب الحثالات الاجتماعية. وماكي، بالطبع، يتزعم هذا العالم ويسيّره وفقاً لمشيئته، يتحكم في الأعمال والأيام ورقاب العباد. ومن هنا نراه حين يتخلى عن صديقته جيني، يستبدلها سريعاً بحسناء أخرى هي بولي بيتشام، التي يريد اغواءها، وهي أصلاً ابنة ملك الشحاذين. وبالفعل يتمكن ماكي من عقد قرانه من بولي، عند منتصف اليل، وسط مرفأ مهجور، يطل على نهر التيمس. غير ان هذه الزيجة ما كان من شأنها ابداً ان ترضي بيتشام لذلك يستبد به الغضب ما ان يتناهى الخبر اليه، ويقرر ان يحارب ماكي، مطالباً رجال الشرطة بأن يبادروا الى اعتقاله على الفور... غير ان هؤلاء - في الحقيقة - لا يحركون ساكناً، لأنهم في الأصل مرتشون فاسدون، يوزعون ولاءهم بين ماكي وبيتشام ولكن من دون ان يفضلوا احدهما على الآخر. وهكذا لا يعود أمام بيتشام إلا ان ينشر رجاله في الأزقة لكي ينالوا من “صهره” غير المرغوب فيه. غير ان ماكي لن يقع ابداً في قبضة رجال بيتشام، ولا طبعاً في قبضة رجال الشرطة، بخاصة أن هؤلاء لا يتورعون عن مساعدة ماكي حين يضيّق رجال بيتشام الخناق عليه. واذ تنتهي الصراعات بالتعادل، بينما كان بيتشام يرجو ان يتمكن رجاله من إلحاق الهزيمة بماكي في اليوم نفسه الذي كان قد تقرر ان يشهد تتويج بولي ملكة لسوهو، تنتهي الامور نفسها نهاية سعيدة اذ، تحت رعاية رجال الشرطة، لا يجد ملك اللصوص وملك الشحاذين بداً من ان يتصالحا، ومن ان يتقاسما الهيمنة على حي الحثالة، بعدما صارا الآن نسيبين. ويعود الهدوء بينهما، ليعيش الزوجان الجديدان بسعادة حبهما، وهيمنتهما على تلك الزاوية التي تشكل امبراطوريتهما الحقيقية.

اذاً على خلفية هذه الحبكة البسيطة، كما تبدو للوهلة الأولى، رسمت هذه المسرحية  مناخات زمن استشرى فيه الفساد واللصوصية والتسوّل، وصار الحكم لمن هو أكثر فساداً. ومن هنا لم يكن غريباً ان تخلد، طالما ان الأزمان سرعان ما تعود مستعيدة الخلفيات نفسها، في تواطؤ على الحكم بين لص ومتسوّل، ورجل أمن ينظم العلاقة بينهما.

وبالتالي فإن في وسعنا اليوم طبعاً، ان ننسى كل الإشكالات التي دارت من حول هذا العمل، وأن نشاهد “أوبرا القروش الثلاثة”، بمتعة، فكرية وشعورية، تكاد تضاهيها، محلياً في لبنان، تلك المتعة الخالصة التي استشعرها الجمهور حين شاهد في بيروت السبعينات، اقتباساً للعمل نفسه حققه تحت اسم “آخ يا بلدنا” المسرحي روجيه عساف من بطولة الفنان الكوميدي الراحل شوشو. يومها أيضاً، من خلال متعة الفرجة وشاعريتها، أحسّ المتفرجون انهم أمام عمل واقعي يفضح ذلك النوع من السلطة.

 

المزيد من ثقافة