Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غي بودوس أضحك الملايين ورحل تاركاً كلمته الحرة

  الفرنسي الجزائري المولد عمل في السينما والميوزيك هول وقدم مونودراما

الممثل والكاتب الفرنسي غي بودوس (موقع الفنان)

أضحك الممثّل الفكاهي الفرنسي الكبير غي بودوس الملايين من الفرنسيين والمتحدثّين باللغة الفرنسية. رسم علامات البهجة على وجوه أجيال عدة منهم، طوال نحو ستة عقود، قبل أن يرحل عن 85 سنة، الخميس الماضي. ابنه، المخرج نيكولا بودوس، هو الذي أعلن خبر الوفاة. بهذه الكلمات ودّع والده: "كان جميلاً، طريفاً، حراً وشجاعاً. كم إني أشعر بالفخر بأنك كنت والدي، قبلاتي لدبروج ودابادي (رفاق دربه)، جميعهم في الجنّة الآن". 

عمل بودوس كوميدياً، كاتباً، فنّان ميوزيك هول، وممثّلاً في العديد من الأفلام الفرنسية بدءاً من الخمسينيات، أشهرها دوره في "الفيل يخون كثيراً" (1972) و"كلنا ذاهبون إلى الجنّة" (1977) وكلاهما من إخراج إيف روبير، إضافة إلى مشاركته في أفلام لمارسيل كارنيه وجان رونوار وكلود بيري وباتريس شيرو. إلا أنه، بعد أكثر من نصف قرن من مسيرة حافلة فيها صعود وهبوط، اعتزل الفنّ في عام 2013، في حفل "وان مان شو" في مسرح الأولمبيا، ولكنه استمر في اعتلاء خشبة المسرح، الذي كان شغوفاً به. 

في بلد مثل فرنسا التي شهدت على مر تاريخها عدداً لا بأس به من الفكاهيين محنكي اللغة والأسلوب الذين استطاعوا إضحاك الجمهور وهم يقفون وحدهم على الخشبة، كان لبودوس مكان خاص في قلوب الكثيرين، على غرار المكان الذي كان سابقاً لكولوش وتييري لو لورون. فهو الرجل الخفيف الظلّ، السليط اللسان، الملتزم سياسياً الذي يدافع عن حقوق المهاجرين غير الشرعيين ويتظاهر من أجلهم. وأخيراً، المثقّف، الذي يعرف من أين يأتي بالكلمة التي تصفع وتضحك وتحض على التفكير. كان يعرف كيف يصنع تلك الكلمة، وكيف يقدّمها، ويعي ما مدى تأثيرها. كلمته، كما قال، بمثابة عزاء أكثر من كونها بناء. 

مواليد الجزائر

بودوس هو من "الأقدام السود"، تسمية تُطلق على المستوطنين الأوروبيين الذين سكنوا أو وُلدوا في الجزائر إبان الاستعمار الفرنسي. عاش بودوس طفولة يُقال إنها كانت "صعبة"، في كنف عائلة يسيطر عليها العنف المنزلي، ولا حوار بين أفرادها. نتيجة العيش في بيئة كهذه، تولّد لدى الولد الذي كانه وسواساً قهرياً. خلال هذه السنوات التي عاشها في الجزائر، كان شاهداً على السوء الذي يعامل به المستعمرون، ومنهم أهله، أهل البلد، وهذا ما خلق لديه وعياً سياسياً، رافقه طوال حياته. بعد انتقاله إلى فرنسا، حيث استقرت عائلته بدءاً من عام 1949، درس المسرح. لم يكن بلغ بعد الثامنة عشرة من العمر، عندما أخرج مسرحية لماريفو. حمله التمثيل إلى السينما، فأول دور أُسند له كان في فيلم "نجوم المستقبل" (1955) لمارك أليغريه. في هذه المرحلة، اعتلى أيضاً خشبة المسرح بكثرة، وظل يعتليها لسنوات، وصولاً إلى النجاح الساحق الذي حققه في التسعينيات مع مسرحية لبرشت، إخراج جيروم سافاري.  

لم تكن البدايات سهلة: عرف بودوس البطالة، واضطر محرجاً إلى قبول أدوار سخيفة. أحد الأيام نصحه الشاعر جاك بريفير المباشرة في الكتابة. على أثر النصيحة، اشترى دفتراً وبدأ في الكتابة. حدثان كان لهما تأثير بالغ في انطلاقته: منتج شاب طلب منه نقل استعراضه "دراجبه بالبهار" إلى السينما، فحقق النجاح من خلاله، ثم، في فترة لاحقة، اللقاء بالمغنية الكبيرة باربارا.

في الستينيات، راحت موهبته تتفجر، خصوصاً بعد الثنائي الذي شكّله مع صوفي دومييه ودام لسنوات عدة، قبل أن يرتبطا رسمياً ويصبحان زوجاً وزوجة. سكيتش واحد في عنوان "المغازلة"، كان كفيلاً بأن يجعل صيتهما يذيع. وفي منتصف الستينيات، كان موعد دخوله الأول إلى الموزيك هول في بوبينو. إلا أنه كان ينبغي انتظار ثورة عام 1968، كي يتكرّس بشكل شبه نهائي. هذه المرة، كان وحيداً على خشبة المسرح في بوبينو. 

الفترة اللاحقة، أي السبعينيات والثمانينيات، كانت سنوات النجومية من الدرجة الأولى. كلّ مَن كان يشاهد برامج المقدّم الشهير ميشال دروكير، لا بد أن يكون قد رأى ذات يوم غي بودوس ضيفاً فيه، فهو كان الضيف الحاضر دائماً على الشاشات الفرنسية، مفنّداً الأوضاع الاجتماعية والسياسية على طريقته الساخرة. نمره الفكاهية التي أداها على مسرح الزينيت، لا تُعد ولا تُحصى، وكذلك على خشبة الأولمبيا، رفقة الفكاهية الشهيرة موريال روبان.

هموم الناس

لعل أحد أهم الأشياء التي كانت تميز بودوس، هو قربه من الناس وهمومهم وانشغالاتهم والقضايا التي كانت تؤرقهم. وجد في هذا كله ينبوعاً لا يجف. لطالما اعتبر أن الهجاء والسخرية هما المدرسة الفنية التي ينتمي اليها من دون غيرها. ناصر حقّ الفنّان في قول كلّ شيء، حتى الحماقات. قاوم كلّ السلطات المتعاقبة في فرنسا، سخر منها جميعاً بشدة، رُفعت عليه دعاوى قضائية قدح وذم، ولكن هذا كله اعتبره نوعاً من مقاومة ناعمة، مقاومة كثر من جمهوره وجدوا أنفسهم فيها، وكان هو الناطق باسمهم. في طبيعة الحال، لم يكن هناك إجماع حوله، فدائماً كان محل انقسام، بين مَن كرهه واعتبره شريراً والذين كانوا يعشقون فيه حسّه الفكاهي اللاذع. تهمة الشر كان يرفضها جملةً وتفصيلاً، ولكن لم يخفِ أن بعض المواقف قد تحوّله إنساناً عنيفاً. في عهد الرئيس جيسكارديستان (السبعينيات)، عاش أياماً صعبة، يصفها بالمكارثية. عانى من الرقابة ووُضع على "اللائحة السوداء". ميتران كان أكثر رحمةً معه، ثم خاض معركة مع ساركوزي. أما اليمين المتطرف، بقيادة عائلة لو بن، فكان الخصم الدائم في كلّ المراحل والعهود.  

كان بودوس يعاني من قلق مزمن، الشيء الذي وظّفه في كتابة استعراضاته. من حياته الشخصية، آلامه، أفراحه، خيباته، يأسه، كان يستمد الأشياء التي يريد قولها، ولا يتوانى عن كشف جانباً من طباعه تحلو للصحافة الفرنسية وصفه بالسيء. كان الهدف السياسي والاجتماعي خلف فنّه، هو التصدي للحماقة والنفاق اللذين يهيمنان على العالم. أما الكلمة التي كان يستلهمها من صميم التجربة التي عاشها، فبقيت حرة، لا تهتز ولا تساوم، حتى الرمق الأخير. 

يقول بودوس إنه أمضى حياته يغازل الموت، وحتى أنه كان ينتظره أحياناً، وذلك منذ أيام الطفولة. ظلّ محاطاً بالخوف، إلى درجة القول أن في هذه المهنة، يبقى الإنسان تلميذاً مهما مرت عليه من سنوات خبرة والوقوف على الخشبة أمام حشود. كان يعتبر اعتزاله بمثابة قصّة حب انتهت، فهذا التماس الجسدي مع الجمهور صنع أجمل ما عاشه. كان يعي جيداً أن في لحظة انسحابه من حياة الفكاهة، لا شيء، حتى المسرح الذي استمر فيه، يستطيع أن يعوض عن هذا النقص وعن التواصل مع الجمهور. حتى أنه في مقابلة مع "ليبراسيون"، غداة الاعتزال، أقر أن جزءاً منه مات حينما توقف عن الـ"وان مان شو". في المقابلة نفسها، سأله الصحافي مَن هم السياسيين الذين كان أراد رؤيتهم في حفل وداعه، فرد: "لا أحد، سواء من اليمين أو اليسار". لم يندم على شيء، سوى أنه لم يولد تشارلي شابلن أو وودي آلن.

المزيد من سينما