Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"البلد الذي يشتهيه الفؤاد" لييتس

مسرحية استخف بها مؤلفها واعتبرها الإيرلنديون جزءاً من تراثهم الشعبي المفضل

اعتبر ويليام بتلر ييتس أن من مهماته الأساسية إحياء الأدب والتراث الإيرلنديين (غيتي)

من المؤكد أن الإيرلنديين يفضّلون من بين كلّ الأعمال الأدبية التي أنتجها مبدعوهم خلال المرحلة الحديثة من تاريخهم الأدبي، الممتدة من نهايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، عملاً أعلن مؤلفه مرات عديدة أنه لم يعد يستسيغه منذ كتبه، أو بالأحرى منذ قُدّم على الخشبة للمرة الأولى. فالعمل في نهاية الأمر نصٌّ مسرحيٌّ. وهو بالتحديد مسرحية في فصل واحد كُتبت أصلاً لتقدّم أواخر القرن التاسع عشر في مسرح إيفنيو اللندني استكمالاً لبرنامج يضمّها مع مسرحية "الأسلحة والإنسان" لجورج برنارد شو.

المسرحية التي نتحدّث عنها هنا هي "البلد الذي يشتهيه الفؤاد" للكاتب الإيرلندي ويليام بتلر ييتس. وهي تعتبر مسرحيته الأولى في سلسلة سيكتبها حتى رحيله أواسط القرن العشرين، ومنها طبعاً رائعته "ديردرا". لكن بقدر ما اعتبر ييتس هذه الأخيرة عملاً كبيراً يعبر عنه حقّاً، نظر باستخفاف إلى "البلد الذي يشتهيه الفؤاد" إلى درجة أنه حين أصدرها منشورة في كتاب للمرة الأولى في عام 1923 بعد تردد طويل وتحت ضغط ناشره، عبّر في تقديمه عن مقته لها بشكل ندر أن عبّر به كاتب عن موقف يزدري عملاً له. والأدهى أن ما من أحد عرف أبداً وعلى وجه اليقين سر ذلك الموقف.

وتحوَّلت إلى جزء من التراث!
مع هذا يحب الإيرلنديون هذه المسرحية حباً جمّاً، ويعتبرونها جزءاً من تراثهم الشعبيّ المفضّل. وأيضاً هذا من دون أن يعرف أحدٌ لماذا! فموضوع المسرحية بسيط وغرائبيّ في آن، بل يكاد يكون عملاً للصغار، لولا تفنن النقاد في إلباسه أثواباً فكرية كان ييتس نفسه يسخر منها!

تدور "أحداث" المسرحية أنه ذات أمسية عشية أعياد الأول من مايو (أيار) الذي يعتبر في إيرلندا عيداً وطنياً، ومن حول أسرة بسيطة تمضي سهرتها المنزلية في حضور كاهن المنطقة. وطوال السهرة تُبدي العجوز ربة المنزل تذمّرها من كنتها الجديدة ميري، آخذةً عليها كونها تفضِّل القراءة بدلاً من مساعدتها في شؤون المنزل. وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى أسطورة تتعلق بالعرائس الجديدات، إذ يقال إنه لا يتوجّب عليهن تقديم نار أو كوب من الحليب لطارق يزور في مثل هذه الليلة، لأن هذا الطارق قد يكون ساحرة تريد اختطاف العروس.

وبينما كان الحاضرون، وهم العروس وحماتها بريدجت والكاهن والعريس وأبوه، يُطرق الباب بالفعل، لكن لحظة الرعب الأولى تزول حين يتبين أن الطارق ليس سوى طفلة في الثامنة أو التاسعة، تتسم بكل صفات البراءة. تُستقبل الطفلة بترحاب، ويُقدَّم لها كأس حليب، بينما كانت ترقص وتصخب جارّة معها إلى الرقص العروس ميري التي وجدت سعادة لا توصف في هذا التبدّل الذي يحدث في سهرة رتيبة مملة. بل إن الكاهن يتعاطف مع جوّ الفرح فينزع عن الجدار تمثالاً للمصلوب، يُلاحظ أن الطفلة تُبدي خشية منه.

الطفلة الساحرة
وهنا ينكشف بصورة واضحة عند تطور السهرة أن الطفلة ليست في حقيقة أمرها سوى تلك الساحرة التي تقوم مهمتها في اختطاف العرائس، ومن هنا يجد أفراد العائلة وحتى الكاهن أنفسهم غير قادرين على التصدي لمحاولتها، بما أن الكاهن نفسه بات عاجزاً عن ذلك بعدما انتزع تمثال المصلوب الذي كان يمكنه أن يساعده، وطالما أن العروس ميري نفسها اندمجت في الرقصة واللعبة، وأدركت أن حياة أكثر سعادة يمكن أن تكون في انتظارها خارج هذا البيت الذي لا تجد فيه سوى تقريع من حماتها.

 

وهكذا، رغم توسلات زوجها الذي يروح يذكّرها بكم أنهما يحبان بعضهما بعضاً، وإنّ تذمرات أمه ليست جدية، تنصاع ميري إلى إرادة الساحرة، ولو مع لحظات من التردد. وفي النهاية حين يجرؤ الزوج ويُمسك بزوجته، مانعاً إياها من مرافقة الساحرة لا يجد بين يديه سوى زينة الزهور التي كانت ميري تزين نفسها بها. لتختفي هذه الأخيرة إلى الأبد.

كما أشرنا، أحبَّ الجمهور الإيرلندي كباراً وصغاراً هذه المسرحية القصيرة إلى درجة أنها ظلت فترة طويلة من الزمن جزءاً من ريبرتوار كل فرقة مسرحية شعبية، بالتالي يمكن القول إنها صنعت مجد ويليام بتلر ييتس، رغم أنفه.

ابن إيرلندا الأصيل
لعل السمة الأساسية في مسار الشاعر ويليام بتلر ييتس هي أنه بينما الشعراء الآخرون يبدؤون بدايات عظيمة ويسوء شعرهم مع الزمن، كان هو على العكس يتجوهر شعره مع الوقت، إلى درجة أن أعظم أشعاره كانت تلك التي كتبها في سنواته الأخيرة. وهو ما عبّر عنه بنفسه في الخطاب الذي شكر به مانحيه جائزة نوبل للأدب عام 1923.

وييتس يعتبر، عادة، أعظم شعراء اللغة الإنجليزية في القرن العشرين. وبه كان الإيرلنديون، وظلوا، يفاخرون أعداءهم الإنجليز، لأنه لم يصانع هؤلاء أو يهادنهم كما فعل عدد كبير من الإيرلنديين الذين كتبوا شعراً ونثراً، وحُسِبوا على الثقافة الإنجليزية بشكل عام، بل حاربهم وشارك في الثورة ضدهم. وكان يعتبر أن من مهماته الأساسية إحياء الأدب والتراث الإيرلنديين، مساهمة في المعركة ضد الإنجليز. ولن ينسى له الإيرلنديون أبداً أنه هو الذي اكتشف مسرحيهم الكبير جون ملتون سنغ، يوم كان هذا تائهاً في باريس، وأعاده إلى إيرلندا وإلى مكانته كاتباً، فأسهم هذا بدوره في بعث الأدب والمسرح الإيرلنديين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولد ييتس في دبلن عام 1865. وهو بين طفولته وموته كان حركة لا تهدأ، فهو الذي أمضى القسم الأكبر من حياته في لندن، عاد إلى دبلن وهو في الخامسة عشرة، إذ تابع دروساً في الرسم، تبعاً لتقاليد أسرته حتى عام 1889، لكنه بعد ذلك ترك الرسم حين أدرك أن الشعر وحده هو ما يهمه. وفي الوقت نفسه شغف بوطنه إيرلندا شغفاً لم يفارقه حتى الموت. وكانت أولى قصائده أشعاراً وطنية دينية كشفت عن تخليه عن النزعة العقلانية التي طبعت طفولته ومراهقته، وكان عنوان القصائد "موسادا".

وهو حين عاد إلى لندن ليوجد لنفسه مكانة أدبية فيها، أسس نادياً جمع فيه أهم شعراء نهاية القرن الماضي. لكنه سرعان ما سَئِم ذلك، وعاد إلى إيرلندا عام 1896، لينخرط في ثورتها على الإنجليز بكل كيانه. غير أنّ أشعاره إذ اتجهت إلى الواقعية بدت له شبه خاوية وخفيفة، فعاش لحظة شكّ أنقذته منها سيدة المجتمع والأدب ليدي غريغوري، التي راحت تشجّعه وساعدته على تأسيس "المسرح الإيرلندي الأدبي"، الذي صار لاحقاً "آبي ثياتر" و"الأكاديمية الإيرلندية"، وهما المكانان اللذان شهدا كل الأدب (بما في ذلك الشعر والمسرح) الإيرلندي في القرن العشرين.

وكانت لييتس، بالطبع، اليد الطولى في ذلك. ولم يكتفِ بذلك النشاط، بل راح يكتب وينشر بجنون، بمعدل كتاب على الأقل في العام طوال عشرة أعوام وأكثر. وفي 1917 تزوّج من جورجي ليس التي أنجبت له ابناً وابنة، في أسرة عاشت في برج عتيق انصرف فيه ييتس كلياً إلى الكتابة، وفيه صاغ أعظم وآخر أعماله. وكان ذلك خصوصاً حين اكتشف صدفة أن زوجته "وسيطة لتحضير الأرواح"، فاستعاد نزعته الغيبية القديمة، وراح يستعين بها لكتابة أشعار تشبه أشعار السورياليين الأوتوماتيكية.

وفي 1923 نال ييتس جائزة نوبل للأدب. وظل بعد ذلك، رغم تقدمه في السن، ذا قوة وصلابة، وكان همّه أن يشجّع المواهب الشابة ويساعدها. غير أنّ صرامته في إطلاق أحكامه جعلت له كثيراً من الأعداء، وعاش آخر أيامه وحيداً يتنقّل بين إيرلندا ولندن وجنوب فرنسا، حتى رحل عن عالمنا في 1939.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة