Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا تخلى سلفادور دالي عن دوره في فيلم "عصر الذهب"؟

هل أرعبت مغامرة بونويل السوريالية ذئبها فسارع إلى الهرب؟

مشهد من فيلم "عصر الذهب" (اندبندنت عربية)

في مثل هذه الأيام تماماً قبل تسعين عاماً، فجّر المخرج السينمائي الشاب حينذاك لويس بونويل ثاني قنبلة له وسط عالم الفن الذي لم يكن معتاداً مثل تلك التفجيرات في ذلك الحين. ففي ربيع العام 1930 وبعد عام تقريباً من عرضه فيلمه الأول "كلب أندلسيّ" (1929)، الذي كان بمثابة مدخل لعلاقته بالجماعة السوريالية، بل أكثر من هذا: علاقة السينما نفسها بالسوريالية، عرض بونويل فيلمه الثاني "عصر الذهب" الذي إن اعتبرنا "كلب أندلسي" فيلماً قصيراً، والتجربة التالية له "أكل الدببة الصغيرة" مجرد نزوة فنية سريعة، يمكننا أن نقول إنه كان منطلقه السينمائي الحقيقي.

حتى وإن كان كثر من المؤرخين والنقاد سيرون أنه كان آخر تجربة سوريالية سينمائية حقيقية لصاحبه الذي سيظل يُدخل عناصر سوريالية إنما عابرة في كثير من أفلامه التالية التي سيواصل تحقيقها في إسبانيا والمكسيك وفرنسا طوال نحو خمسين عاماً تالية، ليجعل من معظمها واحداً من كبار السينمائيين في تاريخ الفن السابع، غير أن ما يهمنا هنا هو التوقف عند "عصر الذهب" لنذكّر بأن بونويل لم يكن صانعه الوحيد.

مساهمات سلفادور دالي
فهنا وكما في "التجربتين" السورياليتين السابقتين، كان للسينمائي الإسباني الشاب المندفع إلى غزو السينما وباريس في وقت واحد، شريك في الكتابة والتصوّر، بل حتى في بعض النواحي الإخراجية أيضاً، هو شاب إسباني مجايل له، مندفع مثله إلى غزو العاصمة الفرنسية من طريق السينما، لكن جزئياً فقط من طريقها، ثم خصوصاً من طريق الرسم. ونتحدّث هنا طبعاً عن سلفادور دالي الذي تحمل عناوين الأفلام الثلاثة اسمه.

لكنه بينما لم يحتجّ على ذلك في التجربتين الأوليين، ها هو هنا وقد جدّ الجدّ يحتج ويطالب بالتنحي عن ذلك الارتباط، معلناً ليس فقط أن بونويل خان أفكاره وشوّه مساهماته في الفيلم، بل أساء إلى السينما وموضوعيتها أيضاً. فما الذي حدث؟ وهل كان دالي جادّاً في موقفه؟ وهل كانت الدوافع فنية كما ادّعى هو أم كانت هناك أسباب أخرى؟

سنستعرض هنا الفيلم قبل العودة إلى قضية علاقة دالي به، علماً أن عناوين الفيلم لا تزال تحمل اسمه حتى الآن، لكن فقط بصفته مشاركاً لبونويل في كتابة السيناريو. فالفيلم الذي يصل زمن عرضه إلى ثمانين دقيقة يعتبر واحداً من أكثر الأفلام ثورية ومشاكسة في تاريخ السينما، وعلى الأقل خلال النصف الأول من القرن العشرين، وذلك من دون أن يكون فيه سياق حدثي أو حبكة معينة.

فهو شاء لنفسه أن ينبني على شاكلة "الكتابة التلقائية" التي كانت عماد الأسلوب السوريالي. وهو توصّل إلى ذلك من خلال اشتغاله على ترجمة بصرية ما لبيانين كانا على الموضة في ذلك الحين: "البيان الشيوعي" الذي صاغه كارل ماركس وفردريك إنغلز مساندةً لثورات أواسط القرن التاسع عشر، و"البيان السوريالي" الذي وضعه أندريه بريتون ولوي آراغون وبول إيلوار ورفاقهم للتعبير عن ثورتهم ضد المجتمع البورجوازي.

وبالنسبة إلى صانعي الفيلم، كان لا بدّ من أن يدخل رابطاً بين البيانين المقدّمين بصرياً، مفهوم "جنون الحب" باعتباره فكرة أدخلها دالي على الأرجح انطلاقاً من قراءاته الفرويدية، التي ستكون لاحقاً من مصادر فنه البصري المدهش.

ثورات نخبوية
إذن، انطلاقاً من مواقف ثورية كانت تبدو بالغة التطرف في ذلك الحين ومنصبّة كلها لمقارعة "ذلك المجتمع الرأسمالي البورجوازي" الذي يرى الفيلم في سياقاته المتشعبة والمتداخلة أنه بات يشتد "ضراوة في سعيه لإضعاف المقاومة المنطلقة ضده كمجتمع متحجّر لم يعد قادراً على أن يعيش إلا مدعوماً من الشرطة والقساوسة"، كما جاء أصلاً في "البيان السوريالي".

وكان الفيلم يدعو عبر هذا كله إلى "ثورة تجتاح كل ما في المجتمع من موبقات وضروب نفاق واستغلال وألسنة خشبية"، لكن من طريق الحب أكثر من أي طريق آخر. والحقيقة أن الفيلم في تشكّله النهائي إنما استفاد في اشتغاله على أفكاره وموضوعه بكل حرية من أريحية ثري فرنسي هو الفيكونت دي نواي الذي قدّم للإنتاج كل الإمكانات اللازمة، ما حرر الفيلم من أي ضغوط إنتاجية، جاعلاً منه واحداً من أكثر الأفلام حرية.

لكن، قد يمكننا أن نقول هنا إن "عصر الذهب" وقع ضحية لتلك الحرية ليبقى حتى النهاية فيلماً نخبوياً، لا يمكن لأي جمهور عريض وحقيقي أن يفهم منه سوى كونه يدور حول حكاية عاشق تتخلى عنه حبيبته، فلا يكون منه إلا أن يتطفل على حفلة اجتماعية تقيمها في دارتها المنيفة، منتقماً من الحضور خالطاً الخدم بالسادة والنساء بالرجال والأثاث بالمشروبات، ورغبته في أن يصل إلى الحبيبة ويستعيدها، لكن تكون النتيجة أن قائد أوركسترا عجوزاً هو الذي ينتزعها منه في نهاية الأمر!

والحقيقة، أن هذا "الموضوع الأصلي" للفيلم يبدو ضائعاً تماماً وسط ركام العنف والمشاهد الغريبة والحشرات التي تشارك العاشق الخائب هجومه وما إلى ذلك. ونحن إذ نقول هذا لا يهمنا اليوم الانتقاص من قيمة عمل يعتبر تحفة سينمائية، إنما توضيح علاقته بالسوريالية ومحاولته الصادقة والجريئة لأن يجعل لذلك التيار الإبداعي الذي كان ثورة على كل الصعد دخولاً صاخباً إلى فن السينما، ولئن كان في وسعنا أن نرى وبكل سهولة ملامح سلفادور دالي من خلال هذا الوصف كله، نجدنا متسائلين عمّا جعله يتبرّأ من الفيلم. ويفتح هذا على بقية الحكاية بالطبع.

دالي ومواقفه
إذا كان بونويل سكت تماماً عن مساهمة دالي خلال التكريم الذي خُصّ به في دورة العام 1981 من مهرجان كان لمناسبة خمسينية الفيلم، هو الذي تحدث طويلاً عن مساهمة صديقه السابق في "كلب أندلسي" فإنّ دالي لم يسكت أبداً إنما دائماً من موقع المفسّر لموقفه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فهو ذكر دائماً أن غايته من العمل على هذا الفيلم كانت "تقديم صورة ما لعاشق نبيل يحاول أن يلاحق قصة حبه عبر شوائب مجتمع باتت تزحمه الأفكار القومية والوطنية البائسة"، وهو انسحب حين رأى الفيلم، وانحرف عن تلك الغاية. غير أن الحقيقة التاريخية تختلف في تفسيرها للانسحاب. فهي تفيدنا بأن الفيلم ما إن عرض حتى أثار ضجة وبلبلة في المجتمع، لكن من خلال عمل دعاوي دؤوب قامت به منظمة يمينية متطرفة تدعى "حركة الشبيبة الوطنية" بالتنسيق مع "رابطة التصدي لليهود"، وهما جمعيتان كانتا في ذلك الحين تناديان بالدفاع عن القيم الدينية والوطنية والعائلية، وتتمتعان بقوة كبيرة في المجتمع المحافظ، ولقد نتج عن ذلك منع الفيلم من العرض، بالتالي استثارة الرعب لدى دالي الذي سيقال لاحقاً إنه كان على ارتباط في إسبانيا نفسها بجمعيات من تلك النوعية، فآثر التملُّص، وأنهى علاقته بالفيلم.

لكنه، عاد في العام 1952 حين أصدر كتاباً سينال شهرة كبيرة عنوانه "حياة سلفادور دالي السرية" إلى الفيلم مجدداً، ففي ذلك الكتاب قال دالي بكل وضوح في ما يتعلق بحكاية "عصر الذهب" ومساهمته فيه: "... عندما انتهى بونويل من إنجاز أشغال الفيلم التقنية تنبهت بأنه تخلّى تماماً عن كل أفكاري فيه، أنا الذي ما كان من شأني أن أوافق على أن تكون الثورة، أي ثورة مجرد عبارات فارغة تطلق ضد رجال الدين...". مهما يكن، لا بدّ من أن نختم هذه الحكاية بذكر أن بونويل حين توجّه إلى هوليوود للعمل هناك بعيد فضيحة الفيلم مباشرة، وجد الأبواب موصدة في وجهه.

وفي المقابل سيقصد دالي هوليوود نفسها بعد سنوات، ليجد ترحيباً مكّنه من العمل على مشهد الحلم في فيلم "منزل الدكتور إدواردز" لهتشكوك، الذي تعاقد معه انطلاقاً من سمعته كاتباً اشتغل مع بونويل تحديداً!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة