Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غازي القصيبي "لغة الخليج وسيفه ورمحه"

حتى بعد عقد من رحيله لا يزال شاهداً وحكماً في المواقف المحيّرة

الأديب والوزير السعودي الراحل غازي القصيبي إلى جانب أميرة ويلز الراحلة ديانا خلال زيارتها الرياض عام 1986 (غيتي)

قِلة من كان لهم حظ الوزير والأديب السعودي غازي القصيبي، فالرجل الذي غادر قبل عقدٍ هذه الحياة إلى دار البقاء، ما كان يتردد في خوض أي معركة أو سجال إذا ما توافرت الأسباب الداعية إلى ذلك، لكنه على الرغم من ذلك ما يلبث أن يضفي على كل عداوة ترياقاً من تسامح ونقاء، جعلت كل غرمائه تقريباً يبكونه حتى بعد مضي زمن على رحيله الحزين في 15 أغسطس (آب) 2010 الذي وافق يوم الخامس من شهر رمضان.

وقد يعود ذلك إلى مهارات الدبلوماسي الكبير، فلئن كان مثلما يصف نفسه "غازياً" بالمعنى اللغوي لاسمه، فإن تعدد مواهبه ونبل شخصيته، من الأمور التي جعلته محل احترام أعدائه ومخالفيه، وليس فقط أحبته ومواطنيه، وكثيراً ما عاد الناقم عليه بالأمس معتذراً، وهو الذي لم يعرف للتلون طريقاً قط.

أوضح الأمثلة على ذلك يظهر عند التعرف إلى أبرز ثلاث معارك كانت تتجدد في حياته، يمكن تصنيفها على أنها "الوطن، والعروبة، والتقدم"، ففي القضية الأولى اختط القصيبي لنفسه نهجاً لا يعرف أنصاف الحلول، فبغض النظر عن علاقته بالسلطة السياسية التي عرفت مداً وجزراً، فإنه يجنّد نفسه تلقائياً في أي معركة تكون بلاده طرفاً فيها ولا يبالي، حتى تضع الحرب أوزارها.

المحارب

وبين أشهر الأمثلة، حرب الخليج الثانية، التي استيقظ فيها العرب على احتلال صدام حسين جارته الكويت بغتة، فانقسم الجميع نحو الكارثة التي فجعوا بها، بمن في ذلك السعوديون، الذين انشق أصوات عدد من المؤثرين منهم في ذلك الجيل، وأعلنوا رفض قيام الدولة باستقطاب القوات الأجنبية لتحرير الكويت، مرددين بذلك عدداً من المبررات التي كانت موقف تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، وبعض الدول العربية واليساريين من هنا وهناك. فتارة يساجل القصيبي ملك الأردن، وياسر عرفات، وأخرى علي عبد الله صالح ومن معهم من العرب، وثالثة دعاة السعودية النجوم عائض القرني وسلمان العودة وناصر العمر، وغيرهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في ذلك الحين، يروي الصحافي السعودي عثمان العمير المشهد، الذي أحوج إلى استقطاب غازي المغضوب عليه في البحرين، كاتباً برتبة جنرال، إذ "كان الإعلام الخليجي خائفاً ومرتبكاً وهزيلاً وضائعاً في الأيام الأولى للغزو. صباح ذات يوم أتاني عبر الفاكس مقال قصير ممهور بقلم غازي، تذكرت قصص مغامراته وإيقافاته (عن الكتابة) فأطلت تلك الغمامة الشجاعة التي تذكرك بالمهمة المستحيلة للإعلامي فنشرت المقال في الصفحة الأولى، وانتظرت رد الفعل يوماً، ويوماً وثانياً، فثالثاً ورابعاً، ومع اليوم الخامس بدأ الحماس وبدأت ردود الفعل وبدأ الشعور بالتعاطف والإعجاب، واعتبر غازي القصيبي هو لغة الخليج وسيفه ورمحه، وصاحب الصوت الأعلى والأقوى والأكثر فعالية".

وهكذا انطلقت زاوية "في عين العاصفة" في صحيفة "الشرق الأوسط" يومئذ، حسب تأريخ العمير للكتاب الذي أخرجته دار جداول السعودية بالعنوان نفسه قبل بضع سنين، إذ لا تزال مقالات القصيبي شاهداً وحكماً بين المترددين كلما ضجت الساحة بحدث جلل، يبحث أهل الرأي فيه عن دليل من الحيرة، وإن على سبيل الرمز بإيراد مقولته التي غدت فيما بعد مأثورة ومثلا "الحياد أقل المواقف أخلاقية وأكثرها انتهازية".

انتهت الأزمة بعد أن كسب جناح العرب الذي يمثله المعركة، لكن هل استكان القصيبي أو تشفى من خصوم الأمس؟ التاريخ يوثق أن العكس الذي حدث، وهنا نأتي إلى الزاوية الثانية "العروبة" التي شكلت قسطاً من نضاله، فحين انتهت حرب الخليج يبدو أن الرضا عن غازي كان بلغ حداً استحق معه أن يصبح سفيراً مرموقاً لبلاده في بريطانيا بكل ثقلها ومعانيها بالنسبة إلى السعودية.

غفلة من جار ديانا

ومع أنه كان جار ديانا الأثيرة، وبين الملايين الذين بكوها ورثوها، فإن ذلك لم ينسه قضايا "العروبة"، يساعده في ذلك أنه كان يمثل دولة تشاركه الهم نفسه وتلقى معظم أفكار العروبية منها ومن أبيه عبد الرحمن القصيبي الذي كان من رجال الملك عبد العزيز المخلصين. بعد أن استحلى الراحل المقام (كما يقال) وقضى عقداً في لندن وكادت أن تلقي به فيمن ألقت في حبائلها، إذا بفتاة فلسطينية تلقي بنفسها قنبلة بين جموع الإسرائيليين المحتلين أرض عشيرتها وأهلها، فانتفض القصيبي، ونسي في لحظة كل المجد الذي يتربع على عرشه وأنه في بلاد الإنجليز التي مكنت لأعداء آيات الأخرس، وقطعت لهم "وعد بلفور" الشهير. نسى أو تناسى وقعت الواقعة. ضج العالم بسفير سعودي في المملكة المتحدة يمجد انتحارية فلسطينية قتلت مدنيين إسرائيليين، ويهجو قومه العرب الذين اتهم رجالهم  بالجبن فكان لا بد أن "تتصدى للمجرم الحسناء".

عاد إلى الرياض، ولوح إلى الديار التي ألف، بمقولة سرت هي الأخرى كتاباً ومثلاً  "باي باي لندن"، لكنه سريعاً ما تجاوز الغصة، ومازح جموعاً في مهرجان الجنادرية الثقافي في الرياض طربوا لشعره بأن قال "لا تصفقوا فتخرجوا من لندن"!

بعد ذلك ما كان لكبريائه أن يجعله يقر بأن عودته كانت عقاباً، وهو الذي عيّن بعد ذلك وزيراً للمياه والكهرباء، فمن سمع بتلك العقوبة الجميلة؟ على حد إجابته مذيعة "إم بي سي" وهو يحاورها في وزارته الأخيرة "العمل". لكن من الذي يجهل أن سفارة لندن لأديب وشاعر وحساس وفارس مثل غازي عن ألف وزارة، أو على الأقل هكذا ظن الناس.

في مواجهة ياسر عرفات

لكن مربط الفرس، هو أن الدفاع عن قضية العرب الأولى في شخص تلك الفتاة، لم يمنع منه القصيبي أنه بالأمس كان المقاتل الأشرس لياسر عرفات، الذي عرف السعوديون مبكراً تلونه، وكان أحد الشخصيات التي سجل الراحل في كتابه "الوزير المرافق" بعضاً من تناقضاته، خصوصاً في قمة فاس، حيث كان الراحل مع الملك فهد، وصار من أبي عمار ما صار منه، قبل ذلك وبعده مرات حتى آخر يوم في حياته.

وحينها أي في حرب الخليج قبل حادثة الأخرس، كان القصيبي صريحاً في اتهام عرفات وقيادة منظمة التحرير آنذاك، بأنهم "السبب المباشر في العزلة الخانقة التي تطبق على قضية فلسطين الآن". لكن ما لبثت السعودية أن حملت القضية على عاتقها في مفاوضات واشنطن الماراثونية إبان عهد كلنتون، التي انتهت كما يوثق أبرز رجالاتها الأمير بندر بن سلطان لهذه الصحيفة، إلى حلول ما كان يحلم بها الفلسطينيون آنذاك، وظلوا يتأسفون على فواتها حتى اليوم. لكن أحداً لن يوقع نيابة عنهم، في وقت تتقاذفهم فيه الأهواء، "فعرفات كان يتراجع صباحا عمّا وافق عليه مساءً، وأحياناً كان يتراجع قبل صعوده مسرح إعلان الاتفاق"، غير أنه على الرغم من مراوغات عرفات تلك، واصلت السعودية ضغطها على واشنطن لتحسين وضع الفلسطينيين وإقامة دولة لهم. حتى جاءت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 فكان ما كان حتى أقرت مبادرة السلام العربية 2002، ولم تتوقف الرياض بحسب بيانات الحكومة ومندوبها في الأمم المتحدة عن تقديم مساندتها للفلسطينيين حتى اليوم.

القضية الفلسطينية، ليست إلا رمزاً بوصفها الأيقونة، أما غازي العربي فإنه بحر لا ساحل له كما يقول الأقدمون، في حب العرب أمة وثقافة منذ أن كان طالباً جامعياً في مصر أيام المد القومي فيها. حتى بذل جهداً استثنائياً من أجل أن يصل إلى منظمة "يونسكو"، وغايته في ذلك ليست شخصية بالقدر الذي كانت هماً لتقديم ما يمكنه لأرومته التي تسكنه، وهو الذي قال عن اللغة العربية "عندما قرر الصهاينة إنشاء دولة لهم، كانت اللغة العبرية لغة ميتة بعثوها بعثاً من المعاجم واستخدموا مفرداتها حتى أصبحت لغة حية، أما نحن فقد ورثنا أكثر اللغات حياة فبذلنا أعظم جهد لقتلها".

"لم يكن بطلاً"

بالنظر إلى الزاوية الثالثة، من اهتمام الراحل والتي جرى تصنيفها بـ"التقدم"، لا تخطئ العين القارئة إنتاج القصيبي أو محطاته العملية، حجم الاهتمام الذي يبديه الراحل بكل ما يدفع نحو التقدم الفكري، والصناعي، والبشري، وكان هذا الذي أوقف عليه ليس فقط الجانب الوظيفي من المهام التي كلف بها وزيراً للصحة، والصناعة والكهرباء، ثم المياه، والعمل في حقبته الأخيرة، ولكن أيضاً خصص له قسطاً كبيراً من مؤلفاته الكثيرة، التي سبق بالكثير منها ما كان شائعاً في محيطه الخليجي أو السعودي على الأقل، بما دفع إلى منع أكثرها.

وما كان ذلك إلا أنها تنتقد السائد من عيوب الثقافة والتقاليد الاجتماعية، التي يرفضها من مقام المنتمي لقيم العروبة والإسلام، وليس من موقع الناقم عليها. بل إن آراؤه التي ضاقت بها السلطة الدينية أو السياسية ذرعاً، كانت من فهم ديني محض، في مثل كتابه "ثورة في السُنة النبوية". ولكن العوض كان جزيلاً، فقد كتب لغازي أن يعيش حتى يرى تصالح الأكثرية مع شخصيته، وحتى كتبه التي كانت ممنوعة في القديم مثل "شقة الحرية، وأبو شلاخ البرمائي"، أصبحت تُباع في مكتبات الرياض، وغدا خصومه بالأمس أمثال الإسلاميين الدعاة، أحباءه وأصدقاءه.

ومع كل ذلك يغادر من غير ادعاء للبطولة، أو أنه كان خارقاً، فحين قرر أن يودع موطنه في شخص شريكة حياته، قال "وإن مضيتُ فقولي لم يَكُن بطلاً، لكنهُ لم يقبل جبهة العارِ".

بينما قدم اعتذاراً للأجيال القادمة التي لم يسعفه العمر أن يخدمها، مشفوعاً بكتاب، أصبح مرجعاً يستفيد منه المتخصص وطالب الجامعة وعوام الناس، هو سيرته الذاتية "حياة في الإدارة". فأهداه إليهم قائلاً "لقد حاولت في كل موقع شغلته أن أخدم مواطني بكل طاقتي. خدمت أبناء هذا الجيل أما أبناء الأجيال القادمة، الذين لن يتاح لي شرف رؤيتهم أو خدمتهم، فلا أستطيع أن أقدم لهم شيئاً سوى قصة هذه الخدمة، مصحوبة بكثير من المحبة، وكثير كثير من الدعاء". ثم مضى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة