Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 جائزة "فورمنتور" للهولندي نوتبوم الذي "تخطى الحدود"

الكاتب المتعدد الحقول فلسف أدب الرحلة واكتشف العالم من خلال الذات الانسانية

الكاتب الهولندي العالمي سيس نوتبوم (موقع الكاتب)

فاز الكاتب الهولندي سيس نوتبوم بجائزة "فورمنتور" العالمية للأدب لعام 2020 عن مجمل إنتاجه الأدبي، وتلقى الكاتب خبر فوزه بالجائزة في مكان عزلته في الريف الألماني على مبعدة ساعتين من ميونيخ، حيث يعيش فترة عزلته أثناء الحجر الصحي.

واعتبرت الصحافة الهولندية أن الجائزة تتويج جديد لمسيرة "أحد أهم كُتّاب هولندا المعاصرين وأكثرهم ترجمة وشهرة في أوروبا"، والذي لم يبخل على أيّ من ألوان الكتابة وفنونها بإسهاماته المتواصلة، من شعر ورواية وقصص قصيرة ومسرح ونقد فني وتأريخ، إلى جانب إسهامه الأكبر في أدب الرحلات، حتى لقب بـ"ماركو بولو" الأدب الأوروبي الحديث.

تشكّلت لجنة تحكيم جائزة "فورمنتور" الدولية للأدب هذا العام، والتي تمنحها مؤسسة فورمنتور الثقافية الإسبانية، من: الأميركية يوديت ثورمان، الأرجنتيني الكندي ألبرتو مانغويل، الإسباني خوسيه إنريكي رويز دوميني"، اليوناني الإسباني أليكسيس غرومان كأعضاء، وبرئاسة الإسباني باسيليو بالتازار، وهم اضطروا لأوّل مرّة في تاريخ الجائزة إلى التداول عبر الإنترنت، كلّ من مكان إقامته: مانهاتن وبرشلونة وإدنبره ومايوركا، لاختيار الفائز هذا العام، لاستحالة تجمّعهم في مقر مؤسسة جوزيه ساراماغو بالعاصمة البرتغالية لشبونة بسبب تدابير فيروس كورونا الصحية.

وأوضح بيان لجنة تحكيم الجائزة أن الهولندي سيس نوتبوم (مواليد لاهاي 1933)، استطاع كشاعر وروائي وكاتب وناقد فني ورحّالة: "تجاوز الحدود التي اقترحتها أنواع الكتابة الأدبية، وقدّم نموذجاً لكاتب عالمي من طراز خاص، يكتب بوعي انتمائه إلى التقاليد الثقافية الأوروبية العظيمة، بعدما عاش عن كثب اللحظات الفارقة في التاريخ الأوروبي الحديث، وفكّر فيها طويلاً حتى أصبح يعرف جيداً المعضلات التي يجب على أوروبا اليوم أن تواجهها وتجد لها حلولاً". واعتبر بيان لجنة التحكيم أن نوتبوم: "رحّالة جعل من أدب الرحلة موقفاً فلسفياً وجمالياً، وبالتالي صنع من كتبه أسفاراً روحية تتجاوز الحدود وتكشف عن ثراء وغنى الطبيعة الواسعة للمعرفة البشرية".

تأسست جائزة "فورمينتور" العالمية للأدب عام 1961، على يد مجموعة معروفة من الناشرين الأوروبيين من بينهم: الإسباني كارلوس بارال والإيطالي خوليو إيناودي والفرنسي كلود غاليمار والألماني أرنست روهولت، واستوحت الجائزة اسمها من بلدة فورمينتور الموجودة في جزيرة مايوركا الإسبانية والتي اشتهرت بتجمعاتها الأدبية. وقد مُنحت الجائزة بين عامي 1961 و1967 ثم توقفت بسبب حظر الديكتاتور الإسباني فرانكو لجميع أنواع الجوائز الأدبية، ليعاد إحياؤها من جديد عام 2011 وتزداد قيمتها المالية لتصل إلى 50 ألف يورو، وتمنح لكاتب واحد من أوروبا سنوياً.

فائزن كبار

وبحصول سيس نوتبوم على الجائزة اليوم، يضع اسمه إلى جوار عدد كبير من الكتّاب العالميين الذين سبقوه إلى نيلها، ومن بينهم في صورتها الأولى: خورخي لويس بورخيس وصمويل بيكيت وصاول بيلو وخورخي سيمبرون وويتولد غومبروفيتش. ومنذ عودتها عام 2011 حصل عليها أيضاً كلاً من: كارلوس فوينتيس وخوان غويتيسولو وخافيير مارياس وإنريكي فيلا ماتاس وريكاردو بيغليا وروبرتو كالاسو وألبرتو مانغويل وميرسيا سيرتريسكو وآني إرنو.

وأعلنت مؤسسة فورمينتور أن حفلة تسليم الجائزة ستقام في الفترة من 18 إلى 20 من سبتمبر(أيلول) المقبل، بحضور الفائز بجائز نوبل الكاتب الجنوب أفريقي جي إم كوتزي، والذي سيتم تكريمه أيضاً في الحفلة ذاتها.

وُلد سيس نوتبوم في 31 يوليو 1933 كطفل ثانٍ لأبويه الهولنديين، لكنه عاش طفولة صعبة بسبب فقر والديه ثم انفصالهما السريع، يقول: "يمكن للأشخاص الآخرين أن يسردوا أدقّ تفاصيل طفولتهم كاملة من دون أن ينسوا منها شيئاً، مصحوبة بأسماء أصدقائهم وصفاتهم والتواريخ وأماكن المدارس والأحداث التي عاشوها، لكني لا أستطيع فعل ذلك، بل إني أحياناً ما أتساءل: هل كنت أنا حقاً هناك"؟

وعلى الرغم مما يقوله نوتبوم في هذا المقطع، إلا أنّنا لن نعدم العثور على كثير من ذكرياته التي لا تزال حيّة في مؤلفاته، من بينها دخول الألمان مدينة "يبنبورغ" بالجنوب الهولندي وتفجير مطارها، وهو المشهد الذي شاهده بصحبة والده من شرفة منزل العائلة. انفصل والداه أثناء الحرب العالمية الأولى، وسرعان ما توفي والده في ربيع 1945 متأثّراً بجراحه التي أصيب بها أثناء تفجير منطقة "بيزويدنهاوت" بمدينة لاهاي وهو يحاول إنقاذ طفل من تحت الأنقاض. ليعود كاتبنا إلى العيش مع والدته من جديد في مسقط رأسها "تيلبورغ"، بعد أن تزوّجت من رجل كاثوليكي النزعة، ليقرر نوتبوم الهروب سريعاً من بيت زوج أمه، وإلى الأبد.

الكاتب المترحل

اتّخذ نوتبوم من التّرحال في بداية حياته وسيلة لاكتشاف ذاته من خلال اكتشاف العالم، فسافر في شبابه عبر أوروبا بعدما ألحقته أمّه بمدارس داخليّة تابعة للأديرة والرّهبان، حيث تعلّم اليونانية واللاتينية. وهو العالم الذي رصده في روايته الأولى "فيليب والآخرون"، والتي أصدرها نوتبوم وهو في مقتبل العشرينيّات من عمره عام 1955.

بعد طرده من مدرسة الرّهبان، حصل نوتبوم على عدد من الوظائف المكتبيّة، من بينها وظيفة في أحد البنوك، لكنّه لم يحبّ عمله كمصرفيّ أبداً، ما دفعه إلى القيام في أوائل الخمسينيّات من القرن الماضي بأوّل رحلاته الكبرى إلى الخارج، متّجهاً إلى الدول الاسكندنافية. وبعد عام واحد من نشره روايته الأولى "فيليب والآخرون"، أصدر نوتبوم مجموعته الشّعرية الأولى "الموتى يبحثون عن بيت" عام 1956، وفي العام ذاته قرّر كاتبنا أن يشقّ لنفسه مساراً جديداً في مساره الأدبيّ وهو كتابة أدب الرّحلات، فبدأ في كتابة تقارير وقصص ويوميّات سفره ورحلاته في عدد من الصّحف الهولندية الكبرى. وبحلول العام 1968 وجد نوتبوم لنفسه مكانه اللائق في مجلة "آفنيو" اللامعة. أصدر في العام 1963 حكاياته في أدب الرحلات تحت عنوان "ظهيرة في برواي"، تلتها حكايات أخرى من بينها: "ليلة في تونس" 1965، و"أمسيّة في أصفهان" 1978. ولكن بحلول العام 1980 تبدأ شهرة نوتبوم في الخروج من الإطار الهولندي لتحقّق حضوراً لافتاً في الآداب الإنكليزية والأوروبية عموماً بصدور روايته اللافتة "طقوس"، التي نال عنها العديد من الجوائز الدولية، من بينها جائزة "ف. بوردوايك" الهولندية وجائزة "بيغازوس" لأفضل رواية غير أميركية.

رواية "طقوس"

يمكننا هنا اعتبار رواية "طقوس" 1980، التي تحوّلت لاحقاً إلى فيلم، بداية المرحلة الثانية في مسيرة سيس نوتبوم الأدبية. فهي أصبحت فور نشرها موضوعاً للعديد من الدراسات الأدبية والنقدية في هولندا والخارج. وبفضل هذا النجاح اللافت للرواية، تحمّس نوتبوم وصار أكثر إنتاجية من أي وقت مضى، فبدأ في إصدار العديد من المجموعات الشّعرية وكتب الرحلات والروايات واليوميات والمقالات. وفي العام 1989 دعته خدمة التبادل الأكاديمي الألمانية  للعيش مدة عام في برلين. وهناك شهد سقوط جدار برلين التاريخي، وبدأ يكتب العديد من التقارير والتحقيقات الصحفية المثيرة حول الموضوع، والتي نشرت في عدد كبير من الصحف الأوروبية آنذاك، وصنعت له شهرة لا يستهان بها. وفي برلين تعرّف نوتبوم على الفيلسوف الألماني روديغر سافرانسكي وربطته به علاقة وطيدة، ومن خلال سافرانسكي إتسعت دائرة صداقات نوتبوم في ألمانيا ليتعرّف على فنانين آخرين، من أبرزهم الرسام والفنان التشكيلي اللامع ماكس نيومان، الذي وضع لاحقاً أغلفة للطبعات الجديدة من أعمال نوتبوم.

لكل هذا الإنتاج الأدبي الغزير، تربّع الرّوائي والرّحالة والصّحافي وكاتب المقال الهولنديّ الشّهير سيس نوتبوم منذ سنوات طويلة على عرش "أكثر الكُتّاب الهولنديّين ترجمة إلى لغات أجنبيّة"، فأعماله ورواياته ورحلاته ترجمت إلى ما يزيد عن 30 لغة. ولم يأت هذا الاهتمام الأوروبيّ والدّوليّ بأعمال نوتبوم من فراغ، فالرّجل الذي أخذ على عاتقه اكتشاف العالم من خلال ترحاله الدّائم، لم يبخل على شكل أدبيّ بالكتابة، فكتب الرّواية والمسرح والشّعر والمقالة والنقد وأدب الرّحلات وحتى الأغاني العاطفيّة، مقترباً في كثير من مغامراته الإبداعيّة من الفلاسفة الإغريق والعرب. ولم يتوان عن الاشتباك أدبيّاً وفكريّاً مع الكلاسيكيّات الأدبيّة الكبرى، بدءاً من هوميروس وأوفيد وصولاً إلى رموز الأدب الكبار في عصرنا الرّاهن، وعلى رأسهم بورخيس ونيرودا وهاري موليش. ومن اللافت أن أعمال سيس نوتبوم لم تترجم إلى العربية بالشكل الذي يليق بها حتى يومنا هذا.

المزيد من ثقافة