هل انتهت موجة الاحتجاجات الحالية في طرابلس لبنان، أم أنها استراحة محارب في انتظار الآتي من الأيام؟ سؤال مشروع يتردد على لسان أهالي المدينة. فالقوى الأمنية التي فرضت سيطرتها على الساحات وانتشرت داخل الأحياء، لا يمكنها أن تحجب حجم الأزمة التي تُثقل كاهل الفقراء.
تجتمع العوامل التي تُبشّر بعاصفة متجددة وباستمرار، فالدولار ما زال يواصل ارتفاعه مقابل الليرة، وأسعار السلع الأساسية جنوني ولم يعُد تأمينها ممكناً من أصحاب المداخيل المحدودة، وكذلك غياب المظلة الاجتماعية وتأخر المساعدات الحكومية، من دون تجاهل فقدان الوظائف وأعمال المياومين.
شهدت شوارع طرابلس في اليومين الماضيين "معركة حقيقية"، وأسفرت عن مقتل فواز السمان الذي يؤكد أهله ورفاقه أنه أصيب برصاصة حية في فخذه، أطلقها جنود في الجيش عشوائياً أثناء محاولة فض الاحتجاجات ليل الاثنين 27 أبريل (نيسان)، وأدت لاحقاً إلى وفاته. وأدت إلى عشرات الإصابات من المدنيين والجيش، من بينها إصابتان دقيقتان للشاب عمر الراوي الذي أصيب في الصدر، والشاب جمال المصري الذي يُعالج من إصابة بظهره.
تُظهر جولة في شوارع طرابلس حجم الأضرار في المصارف والمؤسسات العامة والخاصة، وتشهد على ضراوة الصدامات التي وقعت طوال ليلتين حملتا الخوف والرعب للقاطنين في البيوت المشرفة على ساحة النور.
الجيش والمتظاهرون وجهاً لوجه
لم يبقَ من بعض المصارف في المدينة إلا أجزاء متناثرة وكثيرٌ من الرماد. تعرضت ثلاثة مصارف للدمار الكُلي، فرعا البنك اللبناني الفرنسي في ساحة النور والزاهرية، وبيت التمويل العربي في شارع المصارف. كما تضررت واجهات سيدروس بنك، وبنك بيبلوس وفرنسبنك عند دوار الشراع في الميناء.
في محيط الساحة الرئيسية (النور) كثير من الدمار، حيث تم خلع محل بوظة والعبث بمحتوياته، وكذلك مكاتب السفريات، إضافة إلى سيارة يقول الشهود إنها دمرت بفعل مرور مدرعة عسكرية فوقها. أما في ساحة التل، القلب التجاري للمدينة، فلم يبقَ من سيارة الشرطة القضائية إلا هيكلها المحروق، وكذلك كتل حجرية راكمها التراشق بين المحتجين والقوى العسكرية.
يَتهم المحتجون السلطة بتشويه الحقيقة، فهي تتحدث عن وجود مندسين متناسيةً حقيقة الأزمة وحال الناس الفقراء، وتستعمل الخديعة تارة، والخوف من تفشي الكورونا طوراً من دون أي خطوة جدية. وانتقلت السلطة الآن إلى تحويل الجيش إلى أداة لضرب خصومها بعنف مفرط. يأسف الناشطون الذين عادوا إلى ساحات التظاهرات على الرغم من التحذيرات الصحية لسقوط ضحايا، وكذلك لإضطرارهم للخروج إلى الشارع خلال شهر رمضان. وتتكرر على ألسنتهم سردية "الموت من الجوع أبشع من الموت بسبب عدوى كورونا".
ويرفض الناشطون وضعهم والجيش وجهاً لوجه لأن المعاناة واحدة، وحال العسكر ليس بأفضل منهم، فهم عناصر مأمورة ولا يكفيها راتبها الذي لم تعُد قيمته تتجاوز 250 دولاراً.
يُقر ناشطون بإمكان وجود مندسين، وخروقات من جانب أحزاب السلطة الحالية والسابقة. فوفق الناشط علي عرجة، تستغل الأحزاب كل فرصة لتسعير أعمال العنف، لأنها تطمح لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإلى ما قبل انتفاضة17 أكتوبر (تشرين الأول)، ويتناسى هؤلاء أن الناس فقدت الثقة بهم جميعاً، وأن الهدف النهائي هو إحداث التغيير الجذري وقيام دولة تُحارب الفساد وتُفعّل آليات المحاسبة.
ضحايا إضافيون
شكّلت الإندفاعة نحو المصارف خطراً وتهديداً حقيقياً على فئة كبيرة من الناس. فقد اندلعت النيران في العديد من المحال والمكاتب وأماكن السكن المحاذية للأهداف التي "يعتبرونها مشروعة". وتعرّض مكتب محام للحرق. وتشير مصادر إلى أنه "تعرض للعبث بمحتوياته وسرقة بعضها، قبل إضرام الحريق به وبالمكتبة الغنية جداً الموجودة في داخله".
وفي منطقة الزاهرية تعرض عدد من المؤسسات المجاورة لأحد المصارف للدمار. وتتحدث غنوة شندر عن الأضرار التي تعرض لها مكتبها للترجمة، حيث تحطمت الواجهة الزجاجية بالكامل، واستخدمت آلة حادة في ذلك.
وتُعبر شندر عن سخطها من الوضع الذي بلغه لبنان ومستقبل شعبه. وتؤكد أنها مع الثورة إلا أنها تُطالب بعدم حرفها عن أهدافها الأساسية والسلمية، وتتخوّف من الإنحدار نحو التخريب والاعتداء على أرزاق الناس وجنى عمرها لأن الجميع جوعان ومقهور.
ويتحفّظ البعض عن تخريب المصارف. وتقول هويدا فتفت أن فروع المصارف في طرابلس ليست المسؤولة عن انهيار الليرة، وتسأل عن كيفية حصول الموظفين على رواتبهم في بداية الشهر. وتلفت إلى خطورة إحراق البنوك التي تقع في بنايات سكنية حيث يتعرض قاطنوها لخرق الحريق والاختناق.
الدولار وبداية المرحلة الجديدة
لا يستغرب علماء الاقتصاد ما جرى ويجري في طرابلس صيدا والبقاع، لأن الانتفاضات الشعبية تنطلق بصورة طبيعية من المناطق الأكثر فقراً. وتعتقد أستاذة الاقتصاد ليال منصور أن "لبنان ليس أول بلد يشهد شعبه أزمة اقتصادية ومصرفية، فقد سبق أن حدث ذلك في الأرجنتين واليونان والأورغواي وغيرها"، وهو أمر متوقّع لأنه لم يعُد لدى الناس ما يخسرونه. وتجد منصور أن انطلاق الاحتجاجات والفوضى من طرابلس مسألة بديهية بسبب انتشار الفقر والحاجة وخسارة الوظائف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتدعو منصور إلى النظر إلى الودائع من زاوية مختلفة، فهي نتاج غربة وسفر وتضحية عُمر وليس من السهل حرمان الناس منها بسهولة. لذلك، فإن المواطن اللبناني في موقع الدفاع عن النفس والمال تجاه سياسات السلطة الفاسدة، وانتقل إلى مرحلة أخذ الحق باليد بعدما خاب أمله بالسياسيين والقضاء المسيّس.
تستهجن منصور خطاب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي يتملص من المسؤولية بعد أشهر من الأزمة وكأنه يتعامل مع شعب جاهل عندما يقول إن "الودائع موجودة"، سائلةً عن قيمة الودائع إذا ما بقيت محتجزة وقيمتها تتناقص بسرعة؟
وتتوقع منصور اتساع دائرة الاحتجاجات لأن هناك مصروفات لا يمكن التنازل عنها، كأقساط المدارس والجامعات والسلع الأساسية حتى في المناطق الحضرية الغنية كبيروت ومحيطها. وتضع محاولات تسييس التحركات ضمن دائرة "إنكار الحقائق"، مرجحةً الوصول إلى تجربة فنزويلا إذا ما بقيت التركيبة الحاكمة منذ ثلاثين سنة التي أنتجتها الحرب الأهلية.
وتعتقد منصور أن المصارحة هي المدخل إلى الحل. وبحسب التقديرات العلمية في ضوء تجارب الاقتصادات الشبيهة المدولرة قد نشهد صعوداً سريعاً في بعض الأحيان للدولار ويكون مؤقتاً، إلا أن السقف المتوقّع 6000 ليرة خلال 2020.
تحمّل منصور مسؤولية بدء الحل للسياسيين وليس لرجال الاقتصاد، "فالحل سياسي ثم اقتصادي"، لأن على عاتق السلطة استعادة الثقة وتلبية طلب الجمهور من خلال محاسبة الفاسدين وإعادة إنتاج السلطة. وتشير إلى أنه منذ 20 سنة لم تتم دراسة اقتصادية جدية في مجلس الوزراء والبرلمان. وتطالب بمقارنة وضع لبنان مع الدول ذات الاقتصادات المدولرة، وعدم استنساخ تجارب اليونان وقبرص. وعن ضرورة تصحيح الأجور في ضوء الغلاء الفاحش، تجيب أن "تصحيح الأجور آخر خطوة تتبعها الدول، وهناك فترة زمنية كبيرة بين غلاء المعيشة وزيادة الأجور لذلك تستمر الشكوى".