Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تقنيات طبية عمرها قرن لم نجد سواها في مكافحة كورونا

غالينا في الاستثمار العاطفي والمالي بالعلاج والرعاية الفردية للأمراض الحادة بينما لم نستثمر في المقابل إلى حد كاف في مجالات الصحة العامة والوقاية

العزل المنزلي وارتداء الكمامة اعتمدت قبل قرن في مواجهة "الإنفلونزا الإسبانية"، ولم نطوّر بديلاً عنها خلال مئة سنة (آر إي أف آر أل.أورغ)

 أثناء تفشي جائحة الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918، دأبت الصحف على نشر الإرشادات الرسمية يومياً. علينا "الحرص على أن يظل انتشار المرض تدريجاً كي يكون أمام المستشفيات فرصة لمواكبة تطوره"، بحسب تعبير مفوض الصحة في نيويورك رويال إس كوبلاند. فيما أعلن نظيره في لوس أنجليس أنه يجب "التزام أوامر الإبلاغ عن الحالات والفحص والحجر الصحي بصرامة". وفي هذه الأثناء حملت عناوين الصحف صرخات تطالب بضرورة إنشاء مستشفيات ميدانية مؤقتة للطوارئ وتوفر متطوعين للمساعدة على العناية بأعداد المرضى الهائلة، بينما احتدم الجدل حول العالم بشأن نفع الكمامات، فيما تَعارَض نشر بعض الصُحف تعليماتٍ تفصل طريقة صُنعها في المنزل مع اعتبارِ صحف أخرى أنها "مضرة بالصحة" إلا إذا "لبسها أشخاص يعرفون طريقة استخدامها".  

كان الخبراء محقين بإشارتهم إلى أوجه الاختلاف الكثيرة بين جائحة عام 1918 وتفشي كوفيد-19 حالياً: ومنها مسار المرض، والبيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وسياق مرحلة ما بعد الحرب مباشرة، والمقارنة بين نسب تسبب تعقيدات المرض - ومنها الالتهاب الرئوي-  بالموت نظراً لأن علاج هذه التعقيدات كان أصعب بكثير. لكن من بعض الجوانب المهمة، أوجه التشابه أكثر من أوجه الاختلاف.

صحيحٌ أن إجراءات الفحص وإعداد التقارير عن الإصابات باتت أكثر تطوراً وربما تطورت معرفتنا الإحصائية أكثر- فتحولت عملية تقفي أثر المرض والوفيات التي اتبعها خبراء الأوبئة في أوائل القرن الماضي إلى استنفار شعبي يدعو إلى "تسطيح المنحنى" [كبح انتشار الفيروس والسيطرة على أعداد الاصابات]. لكن نداء حملتنا التي تقول "احموا هيئة خدمات الصحة الوطنية" يكاد تكون نسخة محلية للنداء الذي أطلقه كوبلاند من أجل تخفيف الضغط عن النظام الصحي، بينما تشبه مستشفيات نايتينغيل التي شيدناها أجنحةَ الطوارئ التي تأسست منذ قرن خلا داخل قاعات الاجتماعات العامة أو في منازل غادرها أصحابها الأثرياء قاصدين منازلهم الصيفية للمكوث فيها ريثما ينقضي الوباء.

وعلى غرار المواطنين الصالحين في عام 1918، نعزل أنفسنا داخل بيوتنا ونلغي اجتماعاتنا ونناقش التفاوت في طرق تأثير العدوى علينا. وتضخ حكوماتنا الأموال في الاقتصاد والأبحاث التي تركز على اللقاح وتدرس تقنية تطعيم تعود إلى القرن التاسع عشر جرت تجربتها خلال الإنفلونزا الإسبانية: نقل بلازما الدم من المتعافين إلى من لم يُصابوا بالمرض بعد.

لماذا نكافح أزمة صحة عامة من القرن الواحد والعشرين بتقنيات قديمة؟ فهذا أمر غير مقبول في مجالات أخرى من الرعاية الصحية.

فلنضرب مثال النصيحة العلاجية التي قدمها الأطباء للمرضى المصابين بالإنفلونزا الإسبانية- "تناولوا زيت الخروع أو جرعة أملاح لتحريك أمعائكم". لو طُلب منا أن نتبع هذه النصيحة الآن لمواجهة فيروس كورونا، سنعتبرها غريبة على أقل تقدير. إنما يبدو أن لا أحد يستهجن من اتباعنا توجيهات قديمة كذلك وأكثر تعطيلاً بكثير تقتضي منا إيقاف مسار حياتنا اليومية كي ننتظر ريثما يفعل الفيروس ما يحلو له بنا قبل أن يمضي مع الوقت.   

لكن ليس بين أيدينا حالياً أي حلول أخرى في مجال الصحة العامة. وليس أمامنا خيار أفضل من السير على خطى ما نُفذ في عام 1918. هذا هو ميراثنا الطبي: غالينا في الاستثمار العاطفي والمالي بالعلاج والرعاية الفردية للأمراض الحادة بينما لم نستثمر في المقابل إلى حد كاف في مجالات الصحة العامة والوقاية، لدرجة أننا، في بعض الحالات، لم نحرك ساكناً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا ما جرى مع مرض السرطان. ففي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كان السرطان مرضاً من أمراض الصحة العامة. وتدفقت الأموال في مجال الأبحاث الوقائية، وركزت الدراسات إجمالاً على انتشاره وعلاقته بالبيئة والملوثات والنظام الغذائي وأساليب الحياة. لكن خلال ثلاثينيات القرن الماضي، وفي خضم موجة من التغيير طالت كافة مجالات الرعاية الصحية، بدأ تسويق المرض على أنه مسألة "رعاية شخصية" فظهرت علاجات فردية جسدت التركيز الجديد على "الصحة الخاصة وليس العامة"، وفق تعبير أحد الأطباء في عام 1943.

وليس الهدف من هذا إنكار فعالية العلاجات الحديثة الموجهة بشكل عام أو الحالات التي أثبتت علاجات السرطان فعاليتها فيها. لكن حين يثبت أنه يمكن تفادي وقوع 4 من كل 10 إصابات بالسرطان، لن يكفي التقدم في العلاج وحده أبداً لتخفيف الأعداد المتزايدة للإصابة بالسرطان. فمدار المسألة على التوزيع غير العادل للموارد وللتركيز بين الوقاية والعلاج. لكن خلال أوقات كهذه، لا يسع مخزون الرعاية الطبية المشهور المختص بالحالات الحادة الذي تستند إليه أنظمتنا أن يقدم أكثر من بعض الدعم لأجسامٍ تصارع المرض أو في حال فشل هذا الصراع، تسكينٍ لألمها. ونجد أنفسنا في الأخير في وضع غريب يفرض علينا حماية البنية التحتية لقطاع الرعاية الصحية حتى في ظل عجزه عن حماية صحتنا، أي عن الغاية المفترضة من إنشائه. 

كما يحصل الآن، ضُخ المال بكثافة في جهد عام 1918 للنهوض بتكاليف الجائحة من النواحي المادية والاقتصادية. وبعد انقضائها، ظهرت بعض الاقتراحات المتفرقة من جهات مختلفة بضرورة استمرار التمويل لتسهيل المضي قدماً في تطوير استجابات مجال الصحة العامة للأمراض الوبائية. لكن هذا ما لم يحدث وسرعان ما انقطع الادخار للطوارئ بعد انقضاء الخطر. وفيما ازداد تمويل أبحاث رعاية الحالات الشديدة، جف في المقابل تمويل أبحاث الرعاية الصحية الوقائية والعامة المعنية بوقوع الجائحات. 

وحري بنا أن نشعر بالصدمة إزاء التشابه الكبير بين إجراءات الصحة العامة التي نتبعها وتلك التي اتبعت منذ 100 عام. لا يجدر بـ"تسطيح المنحنى" أن يكون مدعاة فخر قومي بل إشارة  إلى أي مدى لا ترتجى فائدة من أنظمتنا الصحية.

لفيروس كورونا القدرة على تغيير جوانب كثيرة من حياتنا بشكل جذري، بدءاً بطريقة عملنا ووصولاً إلى طريقة تفاعلنا مع بعضنا البعض واستهلاكنا للأشياء. فهو يملك القدرة على تعرية القيم التي نرفع لواءها ويكشف أياً من الأعمال والمعرفة نُقدر على المستوى الاجتماعي. وقد يُظهر لنا كذلك كيف يمكن لأنظمتنا الصحية أن تصبح أفضل: أكثر شمولية وأقوى من الناحية الوقائية وأكثر انتباهاً وإدراكاً لحاجاتنا في مجال الرعاية الصحية. 

 

*الدكتورة كايتجان غاينتي مؤرخة العلوم والتكنولوجيا والطب في كينغز كوليدج، لندن.

**آغنيس آرنولد فورستر باحثة في مرحلة الدراسات العليا في جامعة روهامتون.

© The Independent

المزيد من تحلیل