دخل الحراك الشعبي في الجزائر أسبوعه الثالث، بجمعة جديدة من الاحتجاجات شهدت خروج 20 تظاهرة مليونية في مختلف أنحاء البلاد. واستقطبت التظاهرات في العاصمة الجزائرية أكثر من ثلاثة ملايين، وامتلأت أحياء وسط المدينة بالمتظاهرين في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ التحركات الشعبية في البلاد. وقُدِّر السيل البشري الذي تجمهر في شارعي ديدوش مراد والعقيد عميروش، اللذين يربطان بين ساحة الشهيد موريس أودان والبريد المركزي، بنحو مليون متظاهر.
فمَن هم هؤلاء الشباب المنتفضون؟ ما هي مطالبهم؟ وما الأهداف التي ينشدونها من خلال الحراك الاحتجاجي الذي أطلقوا شرارته؟ وما هي رؤاهم وتصوراتهم لمستقبل الأوضاع في بلادهم؟
سعينا لرصد ذلك في تحقيق ميداني من قلب الحراك الاحتجاجي الجزائري، من خلال تسليط الضوء على مسارات خمسة ناشطين شباب يُعدون من الأيقونات البارزة لهذا "الربيع الجزائري" الذي طال انتظاره.
رأيتُ الثورة تولد أمام عينيَّ!
هذه الوجوه جميعها دون سن الأربعين. شباب يسعون لإيجاد مكان لهم تحت شمس بلد تحكمه نخبة عتيقة من القيادات التي شاركت في "النضال الوطني" ضد الاستعمار الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي، وبات أغلبها اليوم فوق سن الثمانين. أما هؤلاء الشباب الذين يقودون الحراك الاحتجاجي، فهم طلاب وناشطون اجتماعيون وعاطلون عن العمل، يتحدرون من أصول ومشارب وتوجهات مختلفة، ويعكسون حيوية مكونات هذا الحراك الشبابي الجزائري المناهض للنظام.
لميس العياشي (اندبندنت عربية)
أصغرهم سناً هي لميس العياشي. طالبة في الصف الثانوي، في الـ 16 من عمرها. شديدة التعطش للحرية. تتحدر من عائلة ناطقة بالعربية أصلها من سيدي بلعباس، قرب وهران، لكنها اكتشفت، وهي في الثانية عشرة، سحر الأغنية الملتزمة الأمازيغية، وتعلّقت بالفنان الشهيد لوناس معطوب، رائد الأغنية القبائلية الذي اغتاله متشددون في العام 1998. كانت لميس في طليعة طلاب الثانويات الذين انخرطوا في الحراك الاحتجاجي. ساعد في ذلك كونها تقطن في حي "حسيبة بن بوعلي" الشعبي، القريب من ساحة "أول ماي"، التي شكّلت منطلقاً للمسيرات الأولى في 22 فبراير الماضي في العاصمة. تقول لميس "حرصتُ على المشاركة في هذا الحراك، لأن والدي وأختي الكبرى، التي تواصل دراستها الآن في الصين، كانا شاركا في حراك احتجاجي سابق نظّمته حركة "بركات" (أي "كفاية" باللهجة الجزائرية) ضد ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية رابعة في عام 2014". كانت لميس آنذاك في سن الـ11، والذكريات التي احتفظت بها عن ذلك الحراك، الذي لم تتجاوز أعداد المشاركين فيه بضع مئات، جعلتها لا تتوقع هبّة شعبية بحجم تلك التي خرجت في مسيرات 22 فبراير، "كانت لحظة تاريخية وسحرية رأيتُ خلالها الثورة تولد مباشرةً أمام عينيّ، ورأيتُ الشعب يصيح بصوت واحد ضد مافيا النظام، معبّراً عن تعطشه للحرية والانعتاق. حتى إنه خُيِّل لي أنني أعيش الأجواء الملحمية التي تسكن أغاني فناني المفضل لوناس معطوب".
سقوط الطابع الذكوري ليوم الجمعة في الجزائر!
ليديا عراش (اندبندنت عربية)
ليديا عراش (20 سنة) طالبة جامعية تدرس الطب. مناضلة نسوية ذات خطاب ناري. شاركت في كل حركات احتجاجية عدة، خلال السنوات الخمس الماضية: مسيرات نسوية، تظاهرات طلابية، إضرابات نقابية، نشاط جمعيات متعددة. لكن هذه الناشطة التي تقول إنها كانت "تحلم دوماً بالثورة"، تعترف بأن "حجم التجنيد الشعبي في الحراك الحالي فاق كل أحلامي". وأشد ما أذهلها كان الحضور النسوي غير المسبوق. وقالت "بالنسبة إلى تظاهرات تجري أيام الجمعة، يُعدّ هذا المقدار من المشاركات النسوية ظاهرة غير مسبوقة. فلحظة التآخي والتسامح التي نعيشها اليوم في خضم هذا الحراك الثوري يجب أن لا تنسينا أننا في مجتمع تهيمن عليه القيم الذكورية. ويوم الجمعة تحديداً يُعد يوماً ذكورياً بامتياز في الجزائر، فهو مخصص للصلاة، تُغلِق فيه كل المحالّ والأماكن العامة أبوابها. وحدهم الرجال يجرؤون على الخروج عادة لأداء صلاة الجمعة أو ارتياد المقاهي الشعبية التي تُعدّ فضاءات محض ذكورية! من هذا المنظور، أعتقد أن هذا انجاز كبير، إذ لم تكتفِ التظاهرات الأخيرة بكسر حاجز الخوف على الصعيد السياسي، بل أسهمت أيضاً في خلخلة البنى الاجتماعية".
إفلاس "النخب القديمة" المعارضة منها والموالية للنظام
زهور شنوف (اندبندنت عربية)
شباب الحراك الاحتجاجي الجزائري ليسوا جميعاً من جيل لميس وليديا، الذي يعيش أولى تجاربه النضالية. زهور شنوف في أواخر العقد الثالث من عمرها، تنتمي إلى الجيل السابق الذي انخرط في الاحتجاجات ضد الولاية الرابعة للرئيس بوتفليقة، في العام 2014. كانت آنذاك صحافية في جريدة "الجزائر نيوز"، تعرضت للحظر، ضمن اجراءات عقابية فُرضت على وسائل الإعلام الجزائرية التي شاركت في الاحتجاج ضد "العهدة الرابعة"، بسبب إصرارها على فتح صفحاتها ومقارها لناشطي حركة "بركات". ودفع ذلك زهور الى الابتعاد عن مهنة الصحافة، لكنها عادت لاحقاً الى نشر بعض المواضيع في الصحافة العربية، لكنها لم تعد تجد مكاناً في الإعلام المحلي في بلادها، بسبب هامش الحريات الذي تقول إنه "يضيق يوماً بعد يوم".
وللالتفاف على المضايقات المتزايدة، وجدت زهور ضالتها في منصات التواصل الاجتماعي، وأصبحت من أبرز المدونات الجزائريات. تقول إن الحراك الشبابي الذي أشعل الاحتجاجات الحالية لم يفاجئها "منذ الصيف الماضي، لاحظتُ أن نبرة الاحتجاج السياسي والاجتماعي تغلبت على خطاب الحقد والذكورية والتطرف الديني الذي كان مهيمناً منذ سنين على شبكات التواصل الجزائرية. لذلك، أعتقد أن ما نشهده حالياً ليس مجرد حراك مناهض لإعادة ترشيح رئيس مقعد وفاقد للأهلية، بل يتعلق بميلاد جيل جديد يملك رؤىً وتطلعات خاصة، ويناضل من أجلها بوسائل وأنماط تنظيمية جديدة مستوحاة من روح العصر، وتحديداً من "الثقافة الرقمية" التي أفرزها "مجتمع العولمة" الذي ينتمي إليه هذا الجيل". تضيف "كل هذه العوامل والخصوصيات أهّلت هذا الجيل لانتاج أيقوناته ونخبه الخاصة التي لا تخلخل أركان النظام الحاكم فحسب، بل أيضاً تقدّم بديلاً عصرياً من النخب السياسية والثقافية المفلسة والمترهلة، حتى من تلك الموجودة في صفوف المعارضة"، جازمةً أن "هذه القطيعة بين الجيل الجديد والنخب القديمة هي حجر الزاوية في الحراك الذي نشهده حالياً".
يوم انتفض المصلّون على أئمة الإخوان الموالين للنظام!
أنور رحماني (اندبندنت عربية)
من بين "الأيقونات" البارزة في "النخب الجديدة" لجيل الناشطين الجزائريين الشباب، كاتب روائي في الـ 27 من عمره، يُدعى أنور رحماني. اشتهر مدوّناً عُرِف بدفاعه عن حقوق الأقليات والمثليين، ثم لم يلبث أن دخل الأدب من أوسع أبوابه، ليصنَّف ضمن تقليد عريق من الكتاب المنبوذين والمشاكسين الذي تركوا بصمات مؤثرة في الساحة الثقافية، من أمثال الكتّاب ياسين ومحمد ديب إلى رشيد بوجدرة وكمال داوود.
أصدر أنور في القاهرة قبل سنتين روايته الثالثة "ما يخفيه الله عنا". صادرت السلطات تلك الرواية في معرض الجزائر الدولي للكتاب بسبب نبرة السخرية الفاقعة التي تناول بها الكاتب الشاب أوضاع بلاده، بوصفها "مملكة غريبة الأطوار يمجّد شعبها نخبةً من التماسيح المفترسة وحاكماً غامض الملامح لم يسبق أن رآه أحد، لأنه يصنّف نفسه في مصاف الغيبيات التي قرر الله اخفاءها عن عامة الناس".
يتابع أنور بسعادة غامرة الانتفاضة الشعبية ضد تلك "النخب المفترسة" التي أبدع بوصفها في روايته. يقول "لم أتردد لحظة في الانخراط في هذا الحراك، بخاصة أنه لا يقتصر على رفض إعادة ترشيح رئيس يخفيه الله عنا منذ ما يقارب عشرية كاملة من الزمن". يضيف "الشيء الذي أبهجني أكثر هو تلك الروح المتمردة التي دفعت جموع المصلين إلى مغادرة المساجد، اثناء صلاة الجمعة في الأسبوع الثاني من الاحتجاجات، حين شرع بعض الأئمة الإخونجية (إخوان مسلمون) الموالين للنظام في ترداد خطب أعدّتها خصيصاً وزارة الشؤون الدينية لنهي المصلين عن الاشتراك في الحراك، بحجة عدم جواز الخروج على الحاكم. وهذا ما يثبت أن الجزائريين، على الرغم من تدينهم، باتوا محصنين ضد منزلقات الخطاب الإسلاموي، بعدما ذاقوا ويلات التطرف ومطبات الفكر الإخواني في تسعينيات القرن الماضي".
تحصين الحراك من منزلقات "الربيع العربي" الذي سرق الإسلاميون ثوراته
الطاهر بلعباس (اندبندنت عربية)
تشكّل المفارقات التي يصورها أنور رحماني في رواياته زاداً يومياً للمنسق الوطني لحركة المتبطلين (العاطلين عن العمل) الجزائريين، الطاهر بلعباس. لا يكلّ هذا الناشط القادم من "ورقلة"، في صحراء الجنوب الجزائري، من التنقل بين مختلف مقاطعات البلاد، للمشاركة في كل الاحتجاجات، وخاصة في المناطق النائية التي لا تحظى بالاهتمام الإعلامي والدعم السياسي اللازمين.
رفاق الطاهر يشاكسونه بالقول إنه يستطيع أن يؤلف "دليلاً سياحياً" لأقسام الشرطة الجزائرية، فأينما حل للمشاركة في أي حراك، تكون الشرطة له بالمرصاد، ليجد نفسه في عداد المعتقلين أو المبعدين. مع ذلك، فمنذ اشتعال شرارة الحراك الشبابي، في 22 فبراير، وهو في رحلات مكوكية بين مسقط رأسه في الجنوب وبين كبرى مدن شمال الجزائر. يقول: "هدفي تشجيع الشباب، علة إنشاء لجان تنسيقية محلية لتأطير الحراك وحمايته من الاختراقات والاستفزازات الساعية للزج به في منزلقات العنف، على أن ننظم قريباً ملتقىً وطنياً يضم كل اللجان لانتخاب ناطقين رسميين باسم الحراك". يضيف "هذه الاحتياطات تشكل أكثر أولوياتنا استعجالاً من أجل تحصين حراكنا من المآلات التي عرفها "الربيع العربي"، الذي سرعان ما اخترقته التنظيمات الإخوانية والحركات الجهادية، وسُرقت ثوراته بسهولة بسبب الطابع غير المؤطر للحراك الشبابي الذي أشعل شرارتها".