Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"تيريز راكان" لإميل زولا الجريمة تطارد مرتكبيها

رواية إجرامية تفنن كاتبها في دراسة البشر وعلاقتهم بمهنهم والأمكنة

إميل زولا كما رسمه إدوار مانيه (اندبندنت عربية)

يعرفُ كثر من متابعي السينما العربية، لا سيما منها أفلام الستينيات البديعة، الفيلم الذي تلعب فيه فاتن حمامة واحداً من أقوى أدوارها: "لك يوم يا ظالم". هذا الفيلم طبع جيلاً بأسره من هواة السينما المصرية، لا سيما أنه إلى جانب فاتن حمامة يحمل اسمين كبيرين في الحياة الفنية والأدبية في مصر، نجيب محفوظ كاتباً للسيناريو، وصلاح أبو سيف مشاركاً في الكتابة ومخرجاً للفيلم. ولنضف إلى هذا أن الإشارة إلى أن الفيلم مقتبسٌ عن رواية "تيريز راكان" للفرنسي إميل زولا أضافت إلى قيمة الفيلم، إذ كان زولا معروفاً، وتُرجم بعض أعماله إلى العربية.

لكن، المشكلة تبدأ هنا حين نتساءل ما الذي بقي من زولا في ذلك الاقتباس العربي الذي أتى وعظياً أخلاقياً، على العكس تماماً مما يُمكن أن يُفهم من رواية زولا. ولعل طبيعة السينما المصرية في ذلك الحين ووجود فاتن حمامة قلبا زولا رأسا على عقب، لكن هذا ليس موضوعنا هنا.

موضوعنا هو الرواية الفرنسية التي قد يرى كثر، ومن بينهم سيّد النقد الفرنسي في ذلك الحين (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) إيبوليت تين، أنها من أقوى ما كتب زولا علماً أن "تيريز راكان" لا علاقة لها بسلسلة "روغون - ماكار" المؤلَّفة من 20 جزءاً، التي سنشير إليها بعد حين. "تيريز راكان" رواية مستقلة تماماً صدرت في عام 1867، وكان زولا مهّد لها بقصة قصيرة حملت موضوعاً مشابهاً، لكنه أتى أقلّ عمقاً.

في نهاية الأمر "تيريز راكان" رواية إجرامية، يقوم موضوعها على جريمة مركزية. والجريمة تكاد تكون كاملة بحيث أنّ أحداً ما كان من شأنه أن يحدس بهُوية القاتل، أو القاتلَين كما سنرى، باستثنائنا نحن القراء الذين سندرك حتى منذ البداية أننا في سبيلنا أن نشهد على إرهاصات الجريمة، ووقوعها ونفاد مرتكبيها من العقاب، بل على كونهما سوف "يكافآن" بالتمتع بثمار ما ارتكبا، إلى درجة لن يعدم الأمر قراء سيرون أن لهما بعض الحق في ما فعلا (!). وما فعلاه سيكون باسم الحب، وربما حتى الحق في الحب لدى زولا، بينما سنجده يُرتكب باسم الجشع لاحقاً عند صلاح أبو سيف.

جريمة عادية ولكن
والحكاية كما يعرف كثر بسيطة قد تحدث في كل يوم: حكاية السيدة راكان التي انتقلت بتجارتها الصغيرة وابنها غير السويّ تماماً كاميل إلى باريس، حيث قطنت شقة تعلو دكاناً راحت تمارس فيه تجارتها. وتستقبل ذات يوم ابنة أختها الصبية تيريز فتؤويها وتعيلها، ومن ثمّ وبشكل طبيعي تزوّجها ابنها غير متنبهة إلى القلق الذي يهيمن على أفكار الصبية وحياتها. بل تعتقد أن زواجها سوف يهدئها.

وذات يوم يصطحب كاميل إلى البيت صديقاً له يدعى لوران يقدم نفسه رساماً. ومن فوره يدرك لوران نقاط ضعف تيريز، ولمّا كان كائناً لا وازع يردعه عن شيء، يبدأ بمحاولة إغوائها، بل ينجح في ذلك بأكثر مما كان يتوقع، إذ إن كاميل نفسه يساعد على ذلك ببخله وجشعه وازدرائه زوجته. ولا مفر من أن تستسلم المرأة أمام سحر لوران، إلى درجة تتعاون معه على التخلُّص من الزوج خلال نزهة نهرية يقومون بها، ويسقط كاميل خلالها في الماء غرقاً.

لا يتنبه أحدٌ إلى ما حدث، بل إن لوران يجد نفسه، وقد دخل حياة الأسرة المفجوعة بل ما يمضي عامان إلا ويقترن بتيريز ليعيش في البيت معها رفقة خالتها التي لن تغفر للأقدار أبداً مصيبتها في ابنها. غير أن ثأر الأقدار من القاتلين، لن يكون على يد السيدة راكان، بل ثأر ذاتي، حيث تبدأ الجريمة نفسها بملاحقة لوران وتيريز ليلاً ونهاراً، لا سيما المرأة التي تفيق على ما شاركت في صنعه حتى اللحظة التي لا تعود قادرة على التحمّل فتجرع سمّا كانت قد جرّعته للوران، ويموت الاثنان أمام الأم الصامتة كما حالها دائماً.

والحال أن في إمكاننا أن ندرك هنا أن ليس الحدث ما يصنع هذه الرواية، بل التفاصيل الصغيرة والبعد الميلودرامي والنهاية غير المتوقعة. ولسنا بحاجة إلى التذكير بأن "تيريز راكان" حصدت نجاحاً حين صدرت يوازي حجم السجال الذي دار من حولها، ما أسهم في ذلك المجد الكبير الذي سيعيش زولا عليه طوال العقود التالية من حياته واحداً من أعظم روائيي جيله.

الموت حرقاً في الصقيع
كان إميل زولا في قمة مجده، إذن، حين استأجر وهو في الثانية والستين من عمره، شقة باريسية ليقيم فيها بالعاصمة حين يقصدها في الشتاء، ليقيم ردحاً من الزمن. وعلى غير عادته كان سبتمبر (أيلول) في ذلك العام (1902) بارداً في باريس، وكانت شقة زولا رطبة، فما كان من الكاتب إلا أن أشعل المدفأة ليخلد بعد ذلك إلى النوم مع زوجته، لكنهما لم يتنبها إلى حريق شبّ بعد وقت قصير قضى على الكاتب من فوره، بينما نُقلت الزوجة إلى المستشفى، حيث ما لبثت أن تماثلت للشفاء بعد يومين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان الحادث تافهاً وعادياً، لكنه قضى على الكاتب الذي اشتهر برواياته ذات النزعة الطبيعية، وكان لرواياته تأثيرٌ كبيرٌ في كثر من كتّاب فرنسا والعالم، ومن بينهم، طبعاً، الكاتب العربي نجيب محفوظ الذي كثيراً ما اعترف بتأثره بزولا، هو الذي صاغ ثلاثيته الشهيرة، إلى حدّ كبير، على غرار سلسلة "روغون - ماكار" وأجزائها العشرين، التي تعدّ من أشهر أعمال الكاتب الفرنسي، وفيها أرّخ لأسرة فرنسية امتدت حياتها على مدى عدة أجيال خلال عهد الإمبراطورية الثانية.

لقد تميّز عمل إميل زولا بشكل أساسي بتمحيصه في حياة الناس الاجتماعية وبدراسة مدى تأثير الوراثة من ناحية والبيئة الاجتماعية من ناحية ثانية في سلوك شخصياته وتصرفاتها. وتتسّم هذه الدراسة بنزعة علمية، لا لبس فيها قد تبدو معها بعض صفحات "نانا" و"جرمينال" و"القاتل" و"العمل الفني"، لكن بخاصة "تيريز راكان" التي نتوقف عندها هنا، وكأنها مجرد انعكاس للتحقيقات الصحافية التي كان زولا يقوم بها في أحياء باريس وغيرها من المدن، دارساً العلاقات بين البشر وعلاقتهم بمهنهم والأمكنة التي يعيشون فيها إضافة، بصورة خاصة، إلى تأثير انتماءاتهم الطبقية فيهم. غير أن هذا الجانب العلمي لم يمنع زولا من أن يكون صاحب مخيلة هائلة في ابتكار الأحداث الصغيرة، أو حتى التقاطها من حيث يجدها ليحوّلها إلى مصائر لشخصياته، ما مكّن معظم رواياته من أن يبقى حيّاً حتى اليوم، يُطبع ويُقرأ ويُحوّل إلى مسرحيات. هو بنفسه حوّل "تيريز راكان" إلى مسرحية حققت حين عُرضت نجاحاً هائلاً.

مناضل سياسي صلب
غير أنّ الروائي في إميل زولا لم يكن كل شيء فيه، فكما أشرنا أوّل هذا الكلام، كان زولا، إلى رعايته الفن التشكيلي ومساندته بول سيزان وإدوار مانيه الذي رسمه في لوحة بديعة، كان أيضاً صحافياً من طراز نادر يجوس في خبايا المجتمع وله من الجرأة ما جعله يتصدى لأكثر المشكلات حساسية في ذلك المجتمع، ومن ذلك دفاعه الشهير عن الضابط ألفريد دريفوس الذي بسبب يهوديته اتُّهم بالتجسس لحساب الألمان في زمن كانت فيه معاداة السامية ضاربة أطنابها في فرنسا.

ونعرف أنه كان لمقال نشره إميل زولا في صحيفة "أورور" بعنوان "إني أتهم" دور كبير في تعاطف الناس مع الضابط وصولاً إلى تبرئته، وهو أمر جرّ على زولا غضب جماعات القوميين المتطرفين واللا ساميين التي حاولت ضربه واغتياله مرات عديدة، خصوصاً بعدما تنبهت إلى أن زولا ليس فرنسيّ الأصل، بل هو من أصل إيطاليّ (كان أبوه مهندساً إيطاليّاً انتقل إلى فرنسا للمساهمة في أعمال شقّ قناة عُرفت باسمه فترة).

لكن زولا عرف كيف يتصدى بشجاعة لكل الحملات التي طاولته. فاقترن لديه فعل الكتابة بمقارعة الظلم، وبأقصى درجات الجرأة في خوض معترك السياسة وقضايا المجتمع. وهذا ما جعل أناتول فرانس يؤبن زولا يوم جنازته التي كان دريفوس في مقدمة مشيعيه فيها بقوله: "لقد رغب زولا في أن تعمّ السعادة على الأرض أكبر أعداد ممكنة من البشر، هو الذي كان ينهل من الفكر والعلم نهلاً، وكان ينتظر من القوة الجديدة، قوة الآلة، أن تصل إلى تحرير الإنسانية العاملة بشكل تدريجي".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة