Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرأسمالية والإشتراكية وكورونا بينهما

ظلَّت الصين تحجب بريق صعودها خلف مبدأ التعاون مع الدول النامية

حياكة الأقنعة الواقية في معمل خياطة في الصين (أ.ف.ب)

طرق وباء كورونا على صفيح عددٍ كبيرٍ من المسلّمات والمبادئ الرأسمالية، ولكن السطح الأكثر سخونةً كان ارتقاء الاشتراكية ببعثها من مرقدها لتتصدَّر قائمة النقاش السياسي. وبينما تحارب المؤسسات اليمينية الراسخة صفة الجائحة على أنَّها "فيروس الصين" للهروب من حقيقة انهيار المنظومة الصحية، تنشّط  الدول المحسوبة على الاشتراكية (الصين وكوبا) في المقابل، دبلوماسيتها الصحية لمساعدة عددٍ من الدول في مكافحة كورونا، ما خلق نظرةً إيجابية للاشتراكية، ولكن في الاتجاه الآخر تحولَّ الأمر إلى هاجسٍ منها. وإذ خيَّم الخوف من الاشتراكية على الدول الرأسمالية، فهو ناتجٌ ممّا ارتبط بها من سلبيات مثل غياب الديمقراطية ومصادرة الحريات وكبح حرية التعبير وغيرها. وعوضاً عن ذلك، يدعم كثيرون تعزيز دور الدولة في الاقتصاد وفي حياة المجتمع على أساس الديمقراطية الاشتراكية.

الصين على اشتراكيتها

وتحوَّلت الصين بدرجةٍ كبيرة في سياستها الانفتاحية على دول العالم، التي بدأتها منذ سبعينيات القرن الماضي، على يد دينغ شياو بينغ. وانتقلت من مبدأ التعاون مع الدول انطلاقاً ممّا تمليه الأيديولوجيا الصينية الاشتراكية بضرورة تقديم العون للدول الفقيرة من دون الحصول على مقابلٍ سوى الإعجاب بالنظام الصيني، إلى دولةٍ تسجل أعلى معدل نمو في الاقتصاد العالمي. وتبحث عن النشاطات الاستثمارية لاستيعاب ما لديها من قدراتٍ اقتصاديةٍ من الصعب توظيفها فقط داخل حدود الدولة. فرضت الصين نفسها عالمياً بقدراتها الاقتصادية من خلال حضور عالمي في خمسة أبعاد مختلفة هي الدبلوماسية والاقتصاد والحكم العالمي والثقافة والقوة العسكرية. وعلى الرغم من ذلك، لم تدخل في مواجهةٍ أيديولوجيةٍ مع الرأسمالية الغربية، إذ ظلَّت تحجب بريق صعودها خلف مبدأ التعاون مع الدول النامية وتهتم بقضايا تمتدُّ من كوريا الشمالية في شرق آسيا إلى السودان في أفريقيا. وهي الدول التي ظلَّت تابعةً للانقسام العالمي ما يقارب 50 عاماً (1945- 1991) إلى نظامين متضادين اقتصادياً وسياسياً وأيديولوجياً وعسكرياً. فعلى الرغم من مساعي الرأسمالية العالمية لمدّ الجسور إلى الدول المنتمية للمعسكر الاشتراكي، بغية محاصرته أيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً، فقد بقيت هذه الدول ما يقارب من نصف قرن خارج اقتصاد السوق، وحالت من ثمَّ دون توحيد العالم كله مجدّداً على أساس هذا الاقتصاد.

 وبعد نهاية تلك الحقبة وانهيار الاتحاد السوفياتي خلال السنوات (1988- 1992)، وجدت الصين نفسها محاطةً بدولٍ وتجمعاتٍ إقليميةٍ آخذة بالليبرالية الاقتصادية ونظام السوق، وعلى الرغم من ذلك واجهت خيارات الفرص ومخاطرها في الاندماج الكامل في الاقتصاد العالمي، فبقي اقتصادها يُوصف بأنَّه "اشتراكيٌّ".

وزاد انتقال الصين من نظام الاشتراكية القائمة على التخطيط المركزي والانغلاق الاقتصادي إلى نظامٍ يعلن اشتراكية السوق مبدأ ومنهجاً، من اندماجها في اقتصاد العولمة الجديدة، لا سيما أنَّ الاقتصاد الصيني دمج عملية تنميته في نظام العولمة الجديدة القائمة على السوق العالمية، بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2000. وهكذا أصبح الانتقال الصيني يخضعُ بدرجةٍ متزايدةٍ للقوانين العامة للانتقال العالمي، ولكنَّه يخضع في الوقت ذاته وبصورةٍ متزايدةٍ لقوانين الخصوصية الصينية.

وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ خصوصية الصين في نظام العولمة الجديدة الذي قبلت قواعد تجارته وقواعد الاستثمار فيه، تتلخَّص في اشتراكية السوق أو اقتصاد السوق الاشتراكي، هو نظامٌ ابتكره قادتها على أنَّه عولمةٌ صينيةٌ من نوعٍ خاص، تقوم على استعارة السوق، وهي نظام خاص بالرأسمالية أصلاً وتبنيها ودمجها وللمرة الأولى بالاشتراكية ليصير نظاماً اقتصادياً هجيناً.

عولمة كونفوشيوسية

ومع صعود القوة الاقتصادية للصين يأتي نفوذٌ جيوسياسيٌّ متزايد. ففي مختلف أنحاء العالم، يُحتَفى بقادة الصين. وتنظر بلدان أوروبية عدّة إلى الصين باعتبارها المفتاح إلى النمو المحلي الأقوى. ويتطلع الزعماء الأفارقة إلى بكين بوصفها شريك النمو الجديد الذي لا غنى عنه لبلدانهم، خصوصاً في مجالات تنمية البنية الأساسية والأعمال التجارية.

  ولكن هناك اتجاه يخفّف من المبالغة من قوة الصين ويعتبرها لا تقلُّ عن مخاطرة التقليل من إمكانياتها. يتبنى هذا الاتجاه هنري بولسون، وزير الخزانة الأميركي الأسبق، تحت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن خلال فترة الانهيار الاقتصادي، والرئيس التنفيذي لبنك غولدمان ساكس. ففي كتابه الصادر عام 2015 ("التعامل مع الصين... كشف حقيقة القوة الاقتصادية العظمى الجديدة")، ومن خلال تعامله مع النخبة السياسية والاقتصادية هناك، رأى أنَّ الصين بلدٌ يواجه تحديات ضخمة، وفيه نظامٌ اقتصاديٌّ نفد منه الوقود، ويحتاج إلى إعادة تشغيل. وفي ظل اقتصادٍ تبلغ قيمته عشرة تريليونات دولار، يرى أنّ إعادة تشغيله صعبةٌ جداً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبموقعه الآن رئيساً لمجلس إدارة معهد بولسون، الذي أسسه عام 2011، بهدف تعزيز النمو الاقتصادي المستدام وإيجاد بيئةٍ أنظف حول العالم، مع تركيزٍ أساسي على الولايات المتحدة والصين، يقترح بولسون أن يكون التعاون البنّاء والواقعي مع بكين بديلاً عن الصدام والمواجهة. ووفقاً لذلك، يرى أنَّ الصين قد تكون منافساً قوياً للولايات المتحدة، ولكن على هذه الأخيرة ألَّا تجفل من المنافسة. ويركّز على أنَّ الفكرة القائلة إنّ "النموذج الصيني" ربما يمثّل شكلاً أقوى من أشكال الرأسمالية يتفوق على النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، هي فكرةٌ خاطئةٌ تجانب الصواب وتؤثّر في الطريقة التي ينظر فيها بعض الأشخاص إلى هذه العلاقة.

 وفي المقابل، يرى أنَّه يتعين على الأميركيين أن يقفوا إلى جانب الصين حتى تنجح، لأنَّ ذلك يصبُّ في صالح الولايات المتحدة نفسها، وذلك على اعتبار أنَّه سيكون من شبه المستحيل حلّ معظم التحديات التي تواجه العالم حالياً، من المشاكل البيئية والاقتصادية إلى الأمن الغذائي والانتشار النووي، إلّا إذا عملت أهم قوتين عالميتين معاً وتعاونتا في ما بينهما. ولأنّ بولسون كان واضحاً بشأن الاتجاه الذي ينبغي على الولايات المتحدة أن تسير فيه، فإنَّه لا يتوانى عن انتقاد الطريقة التي تمارس بها واشنطن هذه العلاقة.

 وتقدّر وجهة نظر بولسون تميُّز الصين في الحفاظ على القيم الكونفوشيوسية في شكل ثقافتها والدور الكبير الذي تلعبه الشركات المملوكة للدولة في استراتيجيات التنمية مع جوانب الرأسمالية، ولكنَّها لا تبالغ في تفرّد الصين، وذلك من ملاحظته لأوجه التشابه بين الصين والولايات المتحدة عندما كانت أميركا نفسها في عصرها الذهبي اقتصاداً سريع النمو.

 هذه النقطة تلخّص تركيز الصين في الوقت الحالي على إمكانية تحقيق ازدهارٍ اقتصادي ووزن جيوسياسي مع الحفاظ على أهم أولوياتها التي تتركّز على كونها دولة الحزب الواحد. ويرى بولسون أنَّه إذا تمكنت من التحول في النهاية إلى القوة الاقتصادية المهيمنة على مستوى العالم، فمن المؤكد أنَّ العولمة ستكتسب خصائص صينية. وإذا حدث هذا، فمن المرجَّح أن تخسر الديمقراطية وحقوق الإنسان بريقها باعتبارها معايير عالمية.

الاشتراكية الديمقراطية

وإذا كانت الصين أوان انفتاحها وخلافها مع الاتحاد السوفياتي قد طورت من الاشتراكية بجعلها اشتراكية ذات خصائص صينية، فإنَّه برز في أميركا تيارٌ يدعو إلى الاشتراكية الديمقراطية، انطلاقاً من أن الديمقراطية الرسمية فشلت في تطويع المؤسسات الرأسمالية لمكافحة فيروس كورونا. هؤلاء يرون أن الرأسمالية أصابت أميركا بالمرض قبل وصول الفيروس، وما فعله هو انكشاف المجتمع عن نقاط ضعفٍ عميقةٍ من حيث الفوارق الطبقية والفوارق في الدخل والثروات.

تجاوز هذا التيار الذي سُميَّ  بحركة الاشتراكيين الديمقراطيين حاجز الـ25 ألف عضو قبل تفشّي كورونا، وكان نمو الحركة معبّراً عن الرفض المتزايد لإجماع الحزبين الديمقراطي والجمهوري على النيوليبرالية، الذي صاحبه انعدام الأمن الاقتصادي للغالبية العظمى والمساواة الاجتماعية، لا سيما بين العمال والشباب، وافتقار عدد كبير لوجود رعاية صحية شاملة.  يشير شيوع أفكار الحركة إلى تأزم الرأسمالية مقابل انتشار الأفكار الإشتراكية، خصوصاً بين الجيل الجديد، وجاء في استطلاع رأي لمعهد غالوب عام 2018 أن 51 في المة من الشباب الأميركي بين 18 و29 سنة لديهم رؤية إيجابية عن الاشتراكية، مقابل 45 في المئة فقط عن الرأسمالية.

وترى حركة الاشتراكيين الديمقراطيين أنَّ توفر الاشتراكية الديمقراطية سيمنح المجتمع المزيد من الديمقراطية والملكية العامة للاقتصاد مقارنةً بالوضع الراهن. ويعقد هؤلاء مقارنةً بين دول الشمال فنلندا والنرويج والسويد، من حيث هي ديمقراطيات اشتراكية لديها ديمقراطيات تمثيلية دستورية راسخة ومزايا واسعة للرعاية الاجتماعية، إضافةً إلى مساومة جماعية نقابوية بين العمالة ورأس المال تديرها الحكومة، إلى جانب بعض من ملكية الدولة للاقتصاد. وبحسب رأيهم، إذا أصبحت الاشتراكية الديمقراطية النموذج التوجيهي للمجتمع الأميركي الديمقراطي، فإنَّ صروح رأس المال ستكون في خدمة التغطية الصحية المجانية والتعليم العالي المجاني، ورفع الحدّ الأدنى للأجور ومحاربة سيطرة رأس المال الكبير على مقدرات الاقتصاد الأميركي.

وتواجه حركة الاشتراكيين الديمقراطيين تياراً آخر يقوده الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي شنَّ خلال خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، هجوماً على الاشتراكية واعتبرها شبحاً تواجهه الولايات المتحدة ومدمّرة للمجتمعات، في تصريحات وُصفت بأنَّها "عبارة عن ضربةٍ موجهةٍ" لبعض منافسيه من الديمقراطيين.

دبلوماسية الصحة الاشتراكية

  وبيّنت جائحة كورونا نقطة تحوّلٍ في تماسك الرأسمالية الغربية، وشكّكت في بقاء الروابط التعاونية بين مؤسساتها. فحين ارتفعت الإصابات والوفيات في إيطاليا إلى معدلاتٍ قياسية، لم تتلقَّ أية مساعدة من الاتحاد الأوروبي أو الدول القريبة، ولكن عوضاً عن ذلك تلقت مساعدات سريعة من الصين وكوبا. ولم تنحصر مساعدات الدولتين على إيطاليا فقط، وإنَّما شملت دولاً أخرى، غالبيتها من الدول النامية، وينبع هذا التحرُّك السريع من رؤى مُشتركة بين الدولتين تستند إلى المفهوم الاشتراكي بأنَّ كل شخص يجب أن تُتاح له الفرص ذاتها في الحياة، وأنَّ هذا المثل يجب أن يكون قابل للتطبيق داخل البلاد وعلى المستوى العالمي.

ونجحت الصين في استخدام القوة الناعمة، ولعبت على كل جوانب هذه القوة في تقديم نفسها كنموذجٍ اقتصادي يقترب من الدول النامية، من حيث تشغيل العمالة البشرية بصورةٍ أكبر من الآلة، وتشجيع الشراكة لتطوير الاقتصاد من خلال التجارة والاستثمار في البناء التحتي والمؤسسات الاجتماعية، من دون فرض شروطٍ سياسيةٍ أو إصلاحاتٍ اقتصادية. وتعتمد الصين في إدارة علاقتها مع الدول النامية والأفريقية على استراتيجية القوة الناعمة التي تتمُّ من خلال تقديم المساعدات والمعونات في المجالات الاجتماعية المختلفة. ولعل أهم المجالات التي دعمت فيها الصين علاقاتها مجال الصحة، حين اتّبعت في هذا الإطار ما يمكن أن يُطلق عليه دبلوماسية الصحة. ويتم ذلك من خلال تدشين شبكة علاقاتٍ بين الأطباء الصينيين والمؤسسات الصحية، من خلال الزيارات وتسهيل التبادل المنتظم للفرق والتدريب الطبي للمحترفين الطبيين الصينيين، إلى جانب ما تقوم به بكين من تزويد دول عدّة بأجهزةٍ طبيةٍ مجانيةٍ والبرامج المشتركة لمعالجة عددٍ كبيرٍ من الأمراض مثل الملاريا وفيروس نقص المناعة المكتسبة "الإيدز".

 أما كوبا، فقد ظلت ترسل متخصصين في الرعاية الصحية حول العالم، تضامناً مع المحتاجين وبتكلفة رمزية، خصوصاً في أفريقيا جنوب الصحراء وبلدان عدّة، كما أنَّها ترسل أطباء إلى الدول الأكثر ثراءً لمساعدة اقتصاد بلادهم ومواجهة الحصار الأميركي. ومنذ إطاحته بحكومة فولغينسيو باتيستا بثورة عسكرية عام 1959، قال فيدل كاسترو، رئيس الوزراء آنذاك، إن الرعاية الصحية العالمية والدولية ستكون المفتاح لاستراتيجية البلاد.

 هناك اختلافٌ طفيف بين البرنامجين الصيني والكوبي، فقد قام البرنامج الكوبي بدافع الاهتمام بتصدير المُثل الاشتراكية الثورية إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية وبقية العالم. بينما كان دافع البرنامج الصيني بالتوازي مع الأيديولوجيا، السعي أيضاً إلى جعل الدبلوماسية في خدمة السياسة والأهداف السياسية الخاصة بها.

"الاشتراكية هي الحل"

أما النقطة المفصلية، فقد أشارت إليها رؤية الصحافي كيفن د. ويليامسون، بأنَّ "كل هذا الجدل حول الاشتراكية ليس جدلاً حول الاشتراكية بحدّ ذاتها، وإنَّما حول الوضع الراهن المتمثّل في حقيقة أنَّ الرأسمالية قد خيّبت آمالنا وفي أنَّ الاشتراكية، باعتمادها على توصيفٍ مفرط التبسيط للواقع، هي الحل لمشاكلنا التي تسبّبت بها الرأسمالية". وإذا كانت الصين أُجبرت على التكيُّف مع قواعد عالمٍ مُعولمٍ أنشأه رأس المال الأميركي والقوة العسكرية الأميركية، فإنَّ تقبُّلها للفوائد الاقتصادية للعولمة، لم تفقدها التحكُّم على واقعها عبر أيديولوجيةٍ مُرافقة ذات خصائص صينية، وهي ما نجحت في التبشير به خلال هذه الأزمة، كما قبلها.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل