Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجزائر... نظام ثابت ومجتمع متغيّر

أول حاجز تصطدم به وعود بوتفليقة هو استحالة أن يقدم نظام سلطوي على تصحيح نفسه.

طالبتان جزائريتان ترفعان علم بلادهما خلال تظاهرة في العاصمة ضد ترشح بوتفليقة لولاية خامسة (رويترز)

مكانة الجزائر في عقول العرب وقلوبهم أكبر من دورها وموقعها في الواقع العربي اليوم. وتعود المكانة العالية طبعاً إلى ما رافق وتلا "ثورة المليون شهيد" من إشعاع. وترتبط محدودية الموقع والدور بما اصطدمت به السلطة الجزائرية من تعقيدات وتحديات داخلية وخارجية. فالجزائر محكومة منذ الاستقلال بشرعية الثورة وسلطة آباء الثورة وأبنائها، حيث الكلمة الفصل للجيش صاحب رمزية "المحاربين القدامى". 60 سنة تقريباً، 20 منها لرئاسة عبد العزيز بوتفليقة الذي عمل لسنوات طويلة وزيراً للخارجية في أيام الرئيس هواري بومدين بعد انقلابه على الرئيس أحمد بن بلة في العام ١٩٦٥. وينطبق على حال المتظاهرين مع رد بوتفليقة، المثل الشهير "طلبنا رغيفاً من الحاكم فوعدنا بالقمر". طالب المتظاهرون الرئيس المريض العاجز عن السير ومخاطبة الشعب بألا يترشح لعهدة خامسة، إلا أنه ترشح ثم وعد في بيان مكتوب باسمه بإجراء تغيير جذري في النظام.

وتبدأ المسألة بالسؤال عن رغبة بوتفليقة في تغيير النظام وعن قدرته على فِعل في سنة واحدة ما لم يفعله خلال 20 سنة، فما وعد به "خيالي"، بدءاً بـ "كتابة دستور جديد يكرّس ولادة جمهورية جديدة ونظام جزائري جديد". ووضع قانون انتخاب جديد وهيئة مستقلة لإجراء الانتخابات، وتحديد موعد قريب لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة لا يترشح لها. كما وعد بوضع "سياسات كاملة كفيلة بإعادة توزيع الثروة"، واستكمال "مسيرة الجزائر نحو الديموقراطية والتقدم والازدهار". كما تعهّد الرئيس الجزائري بالقضاء على ظاهرة "الهجرة السرية" للشباب، وتحضير أرضية لـ "تعاقب سلس بين الأجيال في جزائر متصالحة مع نفسها".

إلا أن ما تصطدم به هذه الوعود، هو أولاً، استحالة أن يقدم نظام سلطوي على تصحيح نفسه. وثانياً صعوبة الخروج مما يشبه واقع "الباب والحجاب" في إدارة السلطة، حيث الظاهر على المسرح هو "الحجاب" الذي يغطي مَن يمسك بخيوط السلطة الفعلية في الكواليس وهو "الباب". وثالثاً، هناك مصالح القوى التي توظف تاريخية الثورة في اللعب بالثروة.

فضلاً عن أن مَن يدير اللعبة من وراء بوتفليقة منذ أُصيب بجلطة دماغية قبل ست سنوات، هو فريق صغير من الأقرباء والمقربين في القصر وقيادة الجيش. وهؤلاء مصابون بمرض سمّاه ألكسيس دو توكفيل "الخوف من فقدان السلطة"، ومستعدون لفعل أي شيء للحفاظ على "الستاتيكو" وبالتالي على مصالحهم. وإذا كان رئيس حكومة سابق هو علي بن فليس سحب ترشيحه واصفاً ترشح بوتفليقة بأنه "خرافي سوريالي صادم"، فإن الرئيس- المرشح يوحي بأنه سيكون الرئيس "التحوّلي" الذي

يعد بأوسع وأعمق تحوّل في أوضاع الجزائر. وإذا كان المؤرخ آرثر شليسنجر يطلق على الرئاسة الأميركية لقب "الرئاسة الإمبراطورية"، فإن الرئاسات في معظم جمهوريات العالم العربي هي "رئاسات ملكية". ويصعب التوقع من مثل هذه الرئاسات أن تتخلى عن سلطاتها المطلقة مهما تحدثت عن التغيير.

ولا خوف على الجزائر من أن تتكرر مآسي "العشرية السوداء" وأي سيناريو حرب أهلية، لكن يُخشى من إمعان النظام السلطوي المتكلس، في ما يشكو منه الجزائريون، وهو "الحُقْرة" باللهجة الشعبية، أي احتقار الشعب. والقلق حيال مصير الجزائر، نابع من استسهال الوعود على الرغم من التحجر الذي يمنع النظام السلطوي من رؤية المتغيرات والتحولات الداخلية أو أقله العجز عن إدراكها والسير معها بدلاً من صدها، وإن كان مرناً في قراءة المتغيرات والتحولات على المسرحين الإقليمي والدولي.

ذلك أن شباب الجامعات ونخبة المحامين والأطباء والمهندسين ورجال الصحافة والإعلام وجمعيات المجتمع المدني وبعض الأحزاب، يشكّلون نسبةً كبيرة من سكان الجزائر البالغ عددهم 40 مليوناً. والذين ولِدوا بعد الاستقلال هم اليوم في الـ 50 من عمرهم. والذين ولدوا بعد "العشرية السوداء" هم شباب اليوم. والقاسم المشترك بين الجزائر ومصر وليبيا وتونس وسوريا واليمن وبلدان أخرى، بصرف النظر عن الفوارق والخصوصيات، هو ما تختصره معادلة واقعية: "أنظمة ثابتة ومجتمعات متغيرة". "أنظمة جامدة ومجتمعات متحركة". "أنظمة قديمة وشعوب جديدة".

وليس أخطر من أن تستمر الأنظمة في تجاهل متغيّرات المجتمع سوى الاندفاع إلى مواجهتها بالقمع والعنف. فلا شرعية الثورة تكفي لتغطية الأزمات الاقتصادية والبؤس السياسي والثقافي والفساد وتجميع الثروة في الحسابات المصرفية الخاصة بفئة قليلة. ولا صلاحية هذه الشرعية مطلقة إلى الأبد. فكيف يكون الحال إذا عجز جيل الثورة عن بناء دولة مؤسسات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وقانونية في خدمة الشعب؟ وكيف إذا كانت السياسة في العالم هي "فنّ الممكن"، وهناك مَن يقول إنها "فنّ جعل الصعب ممكناً"، في حين أنها هنا فنّ إقامة سلطة قابضة على كل شيء؟

وعدُ بوتفليقة خياليّ. لكن الواقع يبدأ أحياناً من الخيال. والوقت حان لأن يسلم "جيل الثورة" السلطة إلى الجيل الجديد الطامح لبناء دولة مدنية عصرية تتغير مع متغيّرات المجتمع وتكون على صورته ومثاله.

المزيد من آراء