Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أرسطو في العربية... جهود لطفي السيد التي أثمرت

لن تبدأ النهضة إلا بالانفتاح على أفكار الآخرين

أرسطو: درس عربي من عقلانية الفكر القديم (غيتي)

لم يكن المفكر والسياسي المصري أحمد لطفي السيّد مترجماً محترفاً، ولا متقناً للغة اليونانية بشكل يمكّنه من أن ينقل عنها تلك الكتب الأربعة، على الأقل، التي صدرت خلال الثلث الأول من القرن العشرين مترجَمةً عن الفرنسية لا عن لغتها الأصلية الإغريقية، ونعني بها كتب أرسطو التي تكاد تكون أساسية: "الكون والفساد"، "السياسة" و"علم الطبيعة" ثم بخاصة "كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس". فما الذي دعا أحمد لطفي السيّد إلى بذل كل ذلك الجهد مع علمه أن الكتب كانت مترجمة إلى العربية منذ مئات السنين ومشروحة من قبل ابن رشد وغيره؟

ليس من الصعب الإجابة على سؤال كهذا وبخاصة لمَن يعرف أشياء عن السيّد وجهوده الفكرية والتعليمية والسياسية المنتمية إلى فكر نهضوي حقيقي كما سنرى. فبالنسبة إلى السيّد، كانت المسألة معركة لا بد من خوضها. فأن تنهض بأمتك معناه قبل أي شيء آخر أن تنفتح على أفكار الآخرين وتنهل من المشترك في الفكر الإنساني: المعرفة. وهو، إذ وجد في المفكر والجامعي والسياسي الفرنسي بارتيليمي دي سان هيلير قدوةً له على أكثر من صعيد واستعان بترجمات هذا الأخير لأرسطو من اليونانية إلى الفرنسية ليعرّبها، فما هذا إلا لإدراكه أن تلك الترجمات كانت بدورها معركة خاضها سان هيلير مكرّساً لها سنوات طويلة من حياته. ومن هنا اغتنت العربية بتلك الكتب التي جعلها السيّد مقروءة بلغة الضاد على عكس الترجمات العربية/ السريانية القديمة التي أُنجزت قبل التجديدات التي طاولت تعامل اللغة العربية مع المصطلحات الفلسفية، كما انطلاقاً من المعلومات حول الفلسفة الإغريقية، لا سيما حول أرسطو، التي تراكمت طوال القرون الفاصلة بين حقبتَي الترجمة، من زمن حنين بن إسحاق وزمن ابن رشد، إلى زمن ما بعد نهضة نهاية القرن التاسع عشر الذي كان السيّد أحد أعلامه.

من هنا لم يكن صدفة أن يقول محمود عباس العقاد عن ترجمة السيّد لكتاب "الأخلاق" عند صدوره في عام 1925، أن هذه الترجمة أتت كـ "أكمل عمل لأرسطو في اللغة العربية" إذ جاءت دليلاً "على أن اللغة العربية أصلح في هذا العصر حالاً، وأوفر حظّاً في العلم والأدب عما كانت عليه إبان المدنية العربية والدولة الإسلامية"، مضيفاً أن "الواضح في مواضيع كثيرة أن الأستاذ أحمد لطفي السيد يفوق من تقدموه في الدقة والفهم وصفاء العبارة". ولا يفوت العقاد في هذا السياق أن يذكّر بأن "مباحث أرسطو تحمل فائدة لكل مكان وزمان (...) بل وربما كانت فائدة كتاب الأخلاق هذا أكبر لنا نحن المصريين من فائدته لليونان الذين كُتب لهم وللشعوب الغربية التي تُعنى به اليوم...".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


معركة الدور التنويري


والحقيقة أن العقاد فهم تماماً المشروع التنويري الحضاري الذي أقدم عليه أحمد لطفي السيّد في وقت كانت مصر والثقافة العربية عموماً، تشهدان معركة طاحنة بين أصحاب الحنين إلى الخلافة العثمانية وإلى الماضي عموماً، وبين انفتاح على النور والحياة يقوده التنويريون، الذين أدركوا أن المعركة ستكون عبر الفكر أو لا تكون، وفي طليعتهم طه حسين ومحمود عبد الرازق، إضافة إلى أحمد لطفي السيّد وغيره... ومن الواضح أن الاختيار الأرسطي للسيّد، نبع من همّ الإنفتاح على الآخر بدءاً من الفكر الإغريقي الذي كان يرى فيه البوتقة التي ولِد منها الجانب العقلاني في الفلسفة الإنسانية.
وكان السيّد يرى أن أرسطو يمثل قمة العقلانية في تلك الفلسفة ما جعله يعود إلى الظهور، بمؤلفاته كلها أو على الأقل بمؤلفاته الرئيسية في كل مرة أُتيح فيها للعقل أن يتحرك متصدياً لكل أنواع الفكر الأسطوري. ولئن كانت اللحظة النهضوية الأولى شهدت عودة إلى أرسطو في ترجمات مشرقية ثم في التفسيرات الرشدية التي سرعان ما سرت في أوروبا الخارجة لتوها من العصور الوسطى، ما خلق ذلك التيار الرشدي الذي أسهب إرنست رينان في الحديث عنه، وخلق حالةً سجالية مدهشة، فإن اللحظة النهضوية الجديدة المتاحة الآن - أي في زمن أحمد لطفي السيّد -، تفترض عودة مجدَدة إلى أرسطو نفسه، ولكن في ثوب أكثر معاصرة ولغة أقل تعقيداً.

ومن هنا كان المشروع الذي بادر إليه ذلك المفكر المصري. ولعل اختيارات أحمد لطفي السيّد للترجمة من أرسطو تلقي الضوء الكاشف على الوجه الحقيقي للمعركة. وهذا ما أدركه عباس محمود العقاد في تعليقه على كتاب "الأخلاق"، حيث وجد من الحتمي له أن يربطه بالواقع الاجتماعي المصري، وربما العربي والشرقي أيضاً، حيث نراه يكتب في المقال المذكور أن كثراً من الشرقيين لا يفهمون الأخلاق إلا على "أنها "فضائل سلبية" تكتفي "بإبعاد الإنسان عما يشينه"، وتنهاه عن "أن يقتل أو يسرق أو يعتدي على غيره، وتبعده عن أن يجبن أو يبخل أو ينقاد لشهواته وينشغل بصغائره". وهكذا بالعودة إلى أرسطو يرى العقاد أن "لا شيء أكثر وبالاً على الأخلاق وأشد إيذاءً للهمم من هذه العقيدة المعكوسة، التي لا ترى في الإنسان إلا عبداً للقانون"، مضيفاً أن هذه هي "العقيدة التي يناقضها ويمحوها مذهب أرسطو في الأخلاق، مستخلصاً أن "أجمل ما في كتاب أرسطو أنه سجن فيه خلائق اليونانيين الإيجابية وجعل الفضيلة كلها في العمل والإنشاء لا في التخلي والسكون". وهو ما نحتاج نحن "معشر الشرقيين إلى فهمه"، وشكّل "دافع أحمد لطفي السيّد إلى الاشتغال على هذا المشروع الهام".


حياة غنية بين الفكر والسياسة


ولا ريب أن أحمد لطفي السيّد يُعتبر، بكتاباته وأفكاره وتطلعاته وبخاصة بترجماته للعديد من أعمال أرسطو، وكذلك بمواقفه وممارساته السياسية ثم بالدور التنويري الذي لعبه في السياسة والفكر في مصر، تجسيداً حيّاً للمهمة التي كان المثقفون العرب قد آلوا على أنفسهم القيام بها، منذ بزوغ عصر النهضة على يدي رفاعة رافع الطهطاوي، وتوضّحت سماتها على يدي محمد عبده وأستاذه الكبير جمال الدين الأفغاني. وكان السيّد تلميذاً مباشراً للأفغاني حيث تعرف إليه وانضمّ إلى حوارييه.

ولِد أحمد لطفي السيّد، في قرية صغيرة تدعى برقين تابعة لمركز السنبلاوين في مصر في عام 1870، وكان في التاسعة عشر من عمره، كما يبدو، حين تخرج من مدرسة الحقوق ليبدأ العمل بالمحاماة. وتعرف في تلك الفترة إلى حلقة الشبان المصريين المحيطين بجمال الدين الأفغاني، فبدأ اهتمامه بالربط بين الفكر والحقوق والسياسة. وبعد ذلك بمدة، وإثر تعرفه إلى مصطفى كامل ومحمد فريد اللذين كانا يعملان، في ذلك الحين، تحت رعاية الخديوي عباس حلمي، ألّف معهما الحزب الوطني الذي كان بدوره يسعى إلى تحرير مصر. ولكن بعد ذلك، وحين ازداد تقرب السيّد من محمد عبده انفصل عن الحزب الأول وعن الخديوي ليشارك في تأسيس حزب الأمة ويرأس تحرير صحيفة "الجريدة" في عام 1907 وحتى عام 1914.

من الناحية العملية، عُيّن لطفي السيّد بعد ممارسته المحاماة في النيابة العامة التي أُقيل منها بسبب نشاطه السياسي عام 1905. وأعيد إليها عام 1915، لكن ذلك لم يمنعه من متابعة نشاطه السياسي، حيث رأيناه يشارك عام 1918 في تشكيل حزب "الوفد المصري"، لكنه سرعان ما يخرج على "الوفد" ليناصر حزب الأحرار الدستوريين، وكانت أول وظيفة شغلها بعد ذلك إدارته لدار الكتب، ثم حين تأسست الجامعة المصرية سُلّم رئاستها أولاً عام 1925، ثم بين عامي 1930 و1932، وتولى بين المرتين وزارة المعارف، فعُرف بانفتاحه وليبراليته. وعُيِّن وزيراً مرات عدة بعد ذلك، فشغل منصب وزير الدولة ثم وزير الداخلية بين عامي 1937 و1938، ثم عُيّن وزيراً للخارجية خلال عام 1946، ثم اختير نائباً لرئيس الوزراء. وكان ذلك المنصب آخر عهد له بالعمل الوزاري، إذ نجده في عام 1945 رئيساً للمجمع اللغوي الذي كان عضواً فيه منذ عام 1940، وظل رئيساً للمجمع حتى وفاته في مارس (آذار) 1963. وكان إضافةً إلى ذلك عضواً في مجلس الشيوخ. وعُرف عنه أنه منذ بداياته الفكرية، تأثر بالفكر اليوناني، بشكل عام، وبفكر أرسطو بشكل خاص.

المزيد من ثقافة