Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد حسن خليفة فاجأه موته المبكر... حين صدور كتابه الأول

"إعلان عن قلب وحيد"... مجموعة قصصية تنم عن موهبة كبيرة

الكاتب المصري الشاب الراحل محمد حسن خليفة (يوتيوب)

المؤلم حقاً أن تكون هذه المجموعة القصصية التي تحمل عنوان "إعلان عن قلب وحيد" للكاتب الموهوب محمد حسن خليفة هى عمله الأول والأخير (دار كنزي) بعد سقوطه مغشياً عليه في أول أيام معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة لتفشل جهود إسعافه ويفارق الحياة. وهذه المجموعة تؤكد الموهبة المتميزة التي كان يتمتع بها هذا الكاتب الذي رحل عن عمر يناهز الثالثة والعشرين سنة. وتبدو غالبية القصص كأنها نبوءة بهذا الموت المبكر. ففى قصة "روحى مقبرة" – ولنتأمل دلالة العنوان – نقرأ: "علَّقتُ خبر موتي أمامي على الحائط. كل صباح ومساء كنت ألقي نظرة عليه لأطمئن أن ورقة الجرنال التي كتب فيها الخبر بخط كبير وصفحة أولى بعيداً عن الوفيات ما زالت سليمة وتستطيع أن تقاوم معي الأيام القادمة".

نحن أمام إنسان يعيش موته – إن صحَّ هذا التعبير – ويعلق خبر هذا الموت أمامه على الحائط لكي يطالعه صباحاً ومساء، وهي حيلة توحي بتداخل الموت والحياة واختلاطهما في وعي السارد. كما أنها صورة كنائية عن "تهميش" هذا "الحي/ الميت" في واقع الحياة، فالموت لا يكون – فحسب – في صورته الفيزيائية، بل يتخذ صوراً عدة؛ منها افتقاد الفاعلية والشعور بالغربة والعزلة. يقول خليفة في القصة نفسها: "رغم أني حي؛ آكل وأشرب وأنام وأقضي حاجتي وأسير على رجلي في الشوارع أمام الكل، لكنهم مصرون على أني مت وتم دفني أيضاً في مقابر الجبل الأحمر، حارة ألف، مقبرة رقم ثمانية". إن الكاتب يوغل فى إيهام المتلقي بموته من خلال هذا التحديد الرقمي الذي تنتهي به السطور السابقة، وهو إيهام متأثر بالمسرح الأرسطي الذي يقوم على إقناع المشاهد/ المتلقي بأن ما يراه حقيقة واقعية. لكن هذا الإيهام سرعان ما ينكسر في نهاية القصة التي يكشف الكاتب من خلالها، أن ما قاله كان على سبيل التجربة وأنه اخترع قصة بدأها بخبر موته وهو على قيد الحياة.

ولتأكيد هذه الدلالة يستدعي هذا السارد – الحي الميت – أشباهه من الشعراء مثل بودلير صاحب "أزهار الشر" بدلالاته الواضحة على رفض المدينة الحديثة، أو "الفراديس المصطنعة" على حد تعبيره الذي يستعير الكاتب عنوان قصته من قوله: "روحي مقبرة أسكن فيها وأطوف"، ومثل بيسوا الذي يتصدَّر عنوان قصة "بيسوا وأنا" التي يستعير فيها السارد قوله: "أريد أن أفقد عادة الصراخ نحو الداخل"، حيث يراها تمثيلاً صادقاً لحالته بما أنه لم يتعلم أبداً الصراخ في وجه القبح والظلم. ويظل التماهي قائماً بينه وبين بيسوا، فنجد أن كليهما يعاني من اضطراب ثنائي القطب، فيختلط عنده الحلم والواقع حين يرى نفسه أمام دير ضخم يفضي به إلى قبر بيسوا وهناك يقابل فتاة شديدة الجمال تشاركه حب هذا الشاعر وتهديه كتاباً وحين يصحو من نومه يجد بالقرب منه هذا الكتاب بالإهداء نفسه الذى كتبته الفتاة: "إلى صديقي الغريب". ويستمر الكاتب في آلية الاستدعاء، فنجد في "سيرة غائب" استدعاءً للشاعر الأميركى والت ويتمان وللحلاج حين يقول: "كانت الغرفة مظلمة لم ير الاثنان إلا الوجه، تربَّع ويتمان مقلداً الحلاج في جلسته" (ص163). في هذه السطور يسقط البعد الزمني ما بين زمن الحلاج وزمن ويتمان، والغرفة – هنا – ليست سوى السجن المظلم الذي كان جزاء مقاومتهما للقبح والظلم. وتوظف القصة تقنية "تحول الشخصية" لتبرر هذا الجمع بين زمانين متباعدين؛ هذا التحول الذي يحدث لويتمان بمجرد قراءته لكتاب قديم ونومه المفاجئ وعندما يصحو يجد نفسه مرتدياً ملابس غريبة ويتحدث بلسان لا يعرفه ويقول الشعر ويجري عابراً من مدينة إلى أخرى؛ حتى يجد نفسه في بغداد زمن الخلافة العباسية التى يصفها الحلاج بقوله: "هنا تُحَاسب على النظرة، على الكلمة وما تخفيه نفسك وما لا تعرفه... الناس تعوَّدوا الصمت وإلا وُضعوا تحت أعواد المشنقة" (ص166)، وكما ضمَّن الكاتب سطراً لبودلير في قصة سابقة، يقوم – هنا – بتضمين بعض أبيات الحلاج: "غبت وما غبت عن ضميري/ فمازجت ترحتى سروري – واتصل الوصل بافتراق/ فصار في غيبتي حضوري".

شخصيات معذبة

وفي قصة "إعلان عن قلب وحيد" يستدعي فان غوخ وآخر لوحة رسمها قبل بضعة أيام من موته؛ المسماة "على عتبة الخلود". ويلاحظ أن هذه الشخصيات التي يستدعيها السارد هي – في الحقيقة – شخصيات معذَّبة ومصائر أغلبها تنتهي بالانتحار أو الموت المبكر وأن السارد يربط – دائماً – بينه وبين هذه الشخصيات حين يقول مثلاً: "لم يكن – يقصد جوخ – مجنوناً ولا أنا مجنون ولا حتى صاحب هذا الإعلان عن قلب وحيد"، أو يربط بين إحدى هذه الشخصيات – بيسوا – وبين أبيه اللذين ماتا في عمر واحد. ولا شك أن رؤية هذا السارد – الحي/ الميت أو المعذَّب المغترب – تنعكس على تصويرها لما يحيط بها من عناصر طبيعية، كما يبدو فى قوله: "هناك في البلكونة نبتة نعناع وحيدة أيضاً زرعتُها من فترة قصيرة لتكفي الشاي، لكنها خابت ولم تظهر أي بادرة احترام لي". فصفة "وحيدة" التي يخلعها الكاتب على نبتة النعناع ليست مجانية، فهي تعكس إحساسه بالوحدة؛ مثلها مثل الفعل "خاب" الذي يوحي بعدم قدرة هذه النبتة على الازدهار والتفاعل والحيوية. ومن اللافت كذلك أن مفردة "الفراشة" – في قصة "لحظة في حضن الحياة – بكل ما توحي به من رقة وبهجة، يقدمها الكاتب في صورة مقبضة بما أن حياتها قصيرة؛ يقول: "وانفتحت عيناه على فراشة خرجت من يوم أو يومين من شرنقتها وربما غداً تنتهي حياتها" (ص43).

ثم ينتقل – بعد هذا التمهيد الموحي – إلى الحديث عن خموله والبرد الشديد الذي أصيب به بسبب بقائه في منتصف الصالة عارياً من كل شىء؛ كأنه يتجرد من الحياة أو يتركها عارياً كما دخلها. ويظل حب "ليلى" و"جابر" في هذه القصة نوعاً من مقاومة النهايات، فعلى الرغم من بلوغهما الستين فإنهما يصران على الاستمتاع بالحياة. تقول "ليلى": "نعم؛ نحن الآن في الستين، طويلة أو قصيرة – تقصد الحياة – سأستمتع" (ص44). لكن نهاية القصة تأتي بعكس هذه الرغبة حين نجدهما ينتظران الموت القادم بهدوء واستسلام. وفى قصة "إعلان عن قلب وحيد"؛ تواجه الذات كوابيسها المتكررة: "مرات كثيرة أجد نفسي في بئر عميقة فارغة من الماء وأصرخ طالباً النجدة لكن بعد فترة أتعب منزوياً واضعاً رأسي بين رجليَّ، ثم أرفعها فأجدني جالساً على السرير في البيت وملابسى معفَّرة بالتراب وعلى وجهي بقايا دموع" (ص116). ومن المهم ملاحظة اختلاط الكابوس والواقع وتداخلهما وآية ذلك تلك "الملابس المعفَّرة بالتراب" التي وجدها السارد بمجرد استيقاظه.

وفي قصة "عيد الميلاد السابع عشر"، يبدو غياب الأب مستوى آخر من مستويات الموت، الذي هو في النهاية غياب عن الوجود. يغيب والد "أحمد" بعد انفصاله عن أمه ويظلان سبعة عشر عاماً لا يعرفان عنه شيئاً وتشعر الأم بتلك الخدعة الكبيرة المسماة الحياة حيث كل شيء بلا معنى ولا فائدة كأنها تبرر رغبتها في "الموت". هذا الإحساس بعبء الحياة يتزايد مع افتقادها الطمأنينة الروحية والامتلاء باليقين الديني؛ تقول: "لم أعد أصلي. أصبحت هالكة. في السابق كنت أتردد عليها متوترة خائفة. الآن لا تمس جبهتي الأرض. السبب مني. أعترف أنني بحاجة لمن يعيد لي إيماني الضائع". وكما يتداخل الموت والحياة والوهم والحقيقة يتداخل الظل وصاحبه حتى لم نعد نعرف أيهما الظل وأيهما الأصل. يقول الظل مخاطباً صاحبه: "التجربة – يقصد تجربة القتل التي ترتكبها الظلال مع أصحابها – نجحت مع الحيوانات يا رفيقي في الظل طوال الوقت تعتبر بحسابات خيالية أنني الظل... لا؛ أنت ظلي لا أنا". وربما يكون هذا التداخل وتبادل المواقع تمهيداً لما سوف يقدمه الكاتب في قصة "عين القطة" عن تناسخ الأرواح ومسخ الكائنات حين يتحول البشر إلى قطط. يقول صاحب السارد: "القطط الموجودة هنا هي ليست قططاً بالضبط، كانت لها في السابق حياة مختلفة. جميعها من البشر". (ص148). لكن ما سبب هذه اللعنة؟ لماذا يتحول الإنسان إلى قط أو قطة؟ بكل ما يوحى به ذلك من معاني الاستكانة والاستسلام. ربما تكون الإجابة متضمنة في قصة "مريض عنبر رقم ستة"، فنحن أمام سارد كأنه "عروسة ماريونيت"، ولا تتحقق آدميته إلا بتمرده على هذه الوضعية.

المجموعة مسرودة بضميري المتكلم والغائب، لكن السارد يكسر أحادية الصوت بمسرحة الأحداث، كما يعتمد على الرؤية العجائبية لنفسه وللعالم في أكثر من موضع. هذه بعض سمات المجموعة الوحيدة لهذا الشاب؛ محمد حسن خليفة، وهي تثبت خسارة القصة القصيرة كاتباً موهوباً، كان يعِد بالكثير لولا قسوة هذا الموت المبكر.

المزيد من ثقافة