Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وباء العمى ينتقل من رواية ساراماغو... إلى مسرح مصري

عرض أخير قبل اقفال الصالات بسبب كورونا

من المسرحية المصرية "عمى" (اندبندنت عربية)

ليس أصعب من تحويل رواية مركّبة ومربكة ومتعددة الأصوات والدلالات، إلى عمل مسرحي يحافظ على رؤية كاتبها الأصلي وخطوطها الأساسية، حتى لو جرى اختزال الكثير من أحداثها الطويلة والمتداخلة، والاكتفاء بإشارات دالة.

نجح الدراماتورج الشاب أحمد عصام في صياغة نص مسرحي محكم عن رواية "العمى" للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، قدَّمته فرقة المركز الثقافي في مدينة طنطا (80 كيلومتراً شمال القاهرة). رواية ساراماغو الشهيرة تحوَّلت من قبل إلى فيلم سينمائي كندي، وأوبرا تم تقديمها في مدينة زيورخ، وعروض مسرحية عدة حول العالم، لكنها المرة الأولى التي تقدَّم كعرض مسرحي في مصر، وهو ما يحسب لصناع العرض.

الفرقة التي تنتمي إلى الهيئة العامة لقصور الثقافة (مؤسسة حكومية)، جميع ممثليها من الهواة، (محمد فتح الله، بوسي المنشاوي، آية سامي، محمد سلامة، مؤمن الشافعي، مصطفى العشري، محمد سامي، جمال شريف، أحمد خفاجي، محمد محسن، أحمد الرمادي، محمد السليسلي، محمد أسامة، عبدالله نافع، أمل عبدالمنعم، إسلام سمير، بدرية صابر، منى أبوزيد، عبدالرحيم نجم، إسراء سمير، حاتم الجيار، رنا فتحي، وهاجر عزت)، وتضم ثلاثة محترفين فقط: المخرج السعيد منسي، مصمم الديكور والملابس محمود الغريب، مؤلف الموسيقى صادق ربيع. وعلى الرغم من ذلك قدمت عملاً مسرحياً نوعياً ومتماسكاً، مشوقاً وأسياناً ومقبضاً في الوقت ذاته، فقط لأن هؤلاء عملوا على أنفسهم بشكل جيد، واستوعبوا طبيعة العمل وأزمة شخصياته الوجودية.

أداء احترافي

ولعل خبرة المخرج، الذي قاد هذا الفريق، هي ما أدى إلى هذه النتيجة التي بدا فيها كل شئ مسيطراً عليه بدقة، وجاء أداء الممثلين كأنهم محترفون يدركون جيداً قيمة وصعوبة العمل الذي يتصدون له، لا مبالغات ينحرف العمل معها عن غايته، بخاصة أننا أمام أكثر من عشرين شخصية مصابة بالعمى، باستثناء شخصية واحدة، ما يغري بعض الممثلين، الهواة، بالمبالغة في الأداء لانتزاع الضحكات، أو – بحسب لغة المسرحيين- "السوكسيهات"، مدركين أن أي إنحراف ولو بسيط سيذهب بالعمل إلى جهة أخرى تماماً.

أحداث العرض تدور داخل عنبر في مستشفى، لم يهتم الدراماتورج بالتفاصيل الدقيقة في الرواية، ومنها أن هؤلاء العميان أصابهم العمى فجأة، وأن إصابتهم تنتقل بالعدوى، ولذلك فهم محتجزون في مستشفى للأمراض العقلية مهجور، وموزعون على عنابر "حجرات" ثلاثة. تم الاكتفاء بعنبر واحد يقبع فيه الجميع، ما زاد من وطأة الأحداث والصراعات ولاإنسانيتها، وفي بعض المشاهد، ومن خلال بانوراما خلفية شفَّافة صور لنا عنبراً آخر يضم مجموعة العميان الأشرار الذين انفصلوا عن المجموعة ومارسوا الابتزاز على بقية نزلاء الحجر الصحي الذي استخدمته السلطات لعزلهم، وتركت لهم تدبير شؤونهم بأنفسهم، مكتفية بمدهم بوجبات لا تسد الرمق، وتعيين جنود يقفون للحراسة على مبعدة منهم، يهددون بقتل كل من يتجاوزالخط الأحمر الذي لا يراه العميان أصلاً.

برودة وعزلة

مصمم الديكور والملابس اهتم بتفاصيل ذلك العنبر، الذي بدا، على الرغم من فوضاه وقذارته، مريحاً على المستوى الجمالي، وأعطى إيحاء بالبرودة والعزلة، وجسَّد حجم المأساة التي يحيا فيها أولئك العميان، كما اكتفى بزي موحَّد للنزلاء باللون البرتقالي، وتكفلت الإضاءة (صممها عمرو جودة) بتنويعاتها المختلفة، بعكس الأجواء النفسية والروح الوحشية التي تلبَّست معظم النزلاء، وكانت ذروة نجاحها في المشهد الختامي، مشهد الحريق الذي لعبت فيه الإضاءة دور البطولة، فضلاً عن الموسيقى التي أسهمت هي الأخرى بشكل لافت في تصوير نقلات العرض وتوتراته بخاصة أنها مؤلَّفة للعمل ومستغرقة في تفاصيله الإنسانية الدقيقة، وليست مختارات من الموسيقى العالمية مثلاً، كما يحدث في معظم عروض الهواة. وهناك كذلك الاستعراضات (صمَّمها سمير نصري) التي راعَت طبيعة الشخصيات وما تتطلبه من حركة نوعية لا تفضي، هي الأخرى، إلى الضحك أو السخرية.

الأحداث تبدأ مباشرة من "عنبر" الحجر الصحي، ومن خلال الحوار بين الشخصيات نكتشف تاريخ كل شخصية وكيف أصابها العمى وجاءت إلى هذا المستشفى، وكذلك علاقة كل منها بالأخرى، حيث ثمة أحداث وقعت بينهم قبل دخولهم الحجر، وكما جاء في الرواية فإننا في العرض لا أسماء لدينا بل صفات: الطبيب، زوجة الطبيب، الفتاة ذات النظارة السوداء، الطفل الأحول، الأم، وهكذا. فضلاً عن عدم تحديد الزمان والمكان اللذين تدور فيهما الأحداث، وكأننا أمام أزمة يمكن أن تحدث في أي زمان وأي مكان، وهي أزمة الإنسان الذي يتعرض لمحنة يتحول على إثرها إلى كائن آخر ربما أدنى من الحيوان.

قناع زائف

نحن هنا- حتى لمن لم يطالع الرواية- أمام الإنسان في أحط صوره وأقذرها، بخاصة عندما يتعرض لأزمة لا يفقد معها إنسانيته بقدر ما يخلع عنها ذلك القناع الزائف المسمى بالتحضر، وكأننا أمام إدانة شديدة البلاغة لفكرة المدنية أو التحضر التي لا تعدو أن تكون مجرد قناع زائف يخفي خلفه وحوشاً في هيئة بشر. إن الإنسان، هنا، تكمن بداخله بذور الشر، يعود كائناً متوحشاً شرهاً، لا هم له سوى إشباع حاجته إلى المأكل والمشرب والجنس، لديه استعداد لبيع كل شيء حتى شرفه لتتحقق له هذه الحاجات، ولديه استعداد للقتل والخيانة وارتكاب الموبقات كافة من أجل البقاء، وما التحضر الذي يبدو عليه وقت الرخاء سوى قناع زائف ما يلبث أن ينزعه وقت الشدة. ولعل الأمر أيضاً، في وجه آخر للمأساة، يخص الأنظمة الديكتاتورية حول العالم، وكأنه إنذار أن انتبهوا إلى ما يمكن أن يصبح عليه المواطن إذا لم يستطع أن يلبي حاجاته البسيطة والطبيعية.

يعكس المستشفى القذر، الذي يقيم فيه العميان، صورة المجتمع في الخارج، سواء من حيث السلطة المستبدة وغياب عدالتها، وكيفية تعاملها مع مرضى عميان وتركهم يديرون شؤونهم بأنفسهم، من دون حتى أن توفر لهم حاجاتهم اليومية التي تبقيهم على قيد الحياة، وعلى قدر من الإنسانية، ما يجعل مجموعة منهم تلجأ إلى العنف والابتزاز للحصول على حاجاتهم، بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه الآخرون. أي أن الإدانة هنا لا تخص المجتمع فقط بل تخص، وربما بصورة أكبر، الحكَّام الذين أوصلوه إلى هذه الدرجة من الانحطاط والتوحش.

وإذا كانت الأخلاق قد انتفت في هذا المجتمع البائس، وماتت الضمائر، فإن ثم أملاً تجسده زوجة الطبيب التي ادعت اصابتها بالعمى لتكون إلى جوار زوجها، وتظل النقطة الوحيدة المضيئة في العرض، وهو، في كل الأحوال، أمل مشوب بطعم التشاؤم. تقول الزوجة: "لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم في الحقيقة لا يرون". وكأنها تلمح إلى ذلك العمى الفكري الذي أصاب المجتمع، وجعله يتغذى على نفسه، في حين أن وحشيته هذه يجب أن تتوجه إلى من أوصله إلى هذه الحالة التي تشوَّشت فيها أفكاره وبصيرته.

لا تلتزم المسرحية بنهاية الرواية، فهي تتوقف عند قيام مجموعة العميان، الواقع عليهم الابتزاز، بإحراق المستشفى والهروب، لا نعلم إلى أين، لكنه هروب يضعنا أمام المزيد من الأسئلة عن مصير الإنسان في عالم يدعي الإنسانية لكنه ليس كذلك على طول الخط.

المزيد من ثقافة