Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيلم "صندوق الدنيا"... القاهرة ليست مدينة سيئة السمعة

الواقعية لا تكفي لصنع سينما... ولعبة الاغراء التصويري بلا هدف

لقطة من الفيلم المصري "صندوق الدنيا" (شركة الإنتاج)

ثلاثة أفلام مصرية تعتمد على فكرة البطولة الجماعية، وعلى تقاطع الشخصيات وتكدس الأحداث في زمن قصير، لا يتجاوز تقريباً اليوم الواحد والليلة. هذه الأفلام بحسب ترتيب عرضها هي "يوم وليلة"، "راس السنة" و"صندوق الدنيا". يتفاوت المستوى الفني للأفلام الثلاثة، تختلف القصص التي تعرضها، لكنها تشترك في إثارة ملاحظات عامة حول سبب شيوع هذا القالب السينمائي مؤخراً بصفة كبيرة، وعن مدى براءة صناعة المسلسلات التلفزيونية إذا اتهمناها بتلوين السينما بسماتها الفنية، لأن المسلسلات تحتاج إلى شخصيات عديدة، تشغل الحلقات، وتسمح بمط الأحداث.

فيلم "صندوق الدينا" وهو آخر ما عُرض بين الأفلام الثلاثة من تأليف عماد البهات وأسامة حبشي، وإخراج عماد البهات. يشترك في بطولته خالد الصاوي ورانيا يوسف وباسم سمرة وصلاح عبد الله وأحمد كمال وعلاء مرسي وعمرو القاضي؛ يمكن أن يُغرينا بتجريب مشاهدته بوصفه حلقة من مسلسل تلفزيوني، أو على الأقل مقدمة لشيء ما أو حدث ما، قد يأتي لاحقاً وقد لا يأتي أبداً. يبدأ الفيلم باستعراض لصبي مراهق، يؤدي الدور رابي سعد، يمسك بين أصابعه خيوط عرائس الماريونيت، يحركها فترقص معاً أو تتصارع، على أنغام موسيقى ميلودرامية تُثير الرثاء أو تنبئ بكارثة، ألفها د/ أمير جادو، في فقرة تمثل "تيتر" العمل، وشيء من هذا مجدداً يُذكرنا بتيترات المسلسلات التلفزيونية، لكن ينبغي هنا أن يكون ذلك لصيق الصلة بالحدث الرئيسي الذي ينطلق منه الفيلم.

فهذا الصبي المراهق هو ابن سائق ميكروباص يلعبه باسم سمرة، يتوجه من الصعيد إلى القاهرة مُكلفاً بتوصيل نساء من بلدته لزيارة الحُسين والعودة بهنّ مجدداً. في حوار شارح بطريقة زائدة عن الحد، يحكي الأب لولده، عن حياتهما التي لا يعرفها المشاهد، عن وحدته بعد أن فقد زوجته ولم يعد له من ذكراها سوى هذا الابن. يُلقن الأب ابنه حكمة عن الحياة، يحذره من المدينة القاهرة، ولاحقاً عندما يصل الميكروباص إلى وسط البلد، يطلب منه أن يبتاع له علبة سجائر، ويهبط الابن فعلاً، الخائف من الميادين والجاهل بها ولن يعود من بعد إلى السيارة.

في هذه اللحظة ننتقل للتعرف على عالم آخر، حيث يلتقط شخص ما، كيساً ما، ويهرب به بين الحواري الضيقة، في هربه يقتحم مشهد باسم سمرة، بينما ينتظر الأخير ابنه طويلاً في إشارة المرور من دون جدوى وتُجبره السيارات المسرعة على التقدم، يسعى الشاب للإفلات من مُطارديه وينقض بسلاح أبيض على الأب، يطعنه ويسرق منه الميكروباص.

ينبني "صندوق الدنيا" بالكامل على هذا المشهد الجنائزي، أو على حدث القتل الذي يقع بالصدفة البحتة. قبل الحادثة يسير الناس في الشارع، خلالها كذلك وبالطبع بعدها. من بين هؤلاء الناس العابرين هناك شخصيات اختارها صناع الفيلم لتسليط الضوء عليها، أو بالأحرى لتسليط بعض نقاط الضوء عليها. مثلاً شخصية الكاتب "آدم" ويؤديه خالد الصاوي الذي يواسي الصبي الجالس على الرصيف، من دون أن يعرف أنه متورط تقريباً في قتله. وكذلك نشاهد الريجيسير "حاتم" يلعبه عمرو القاضي، الذي أقام للتو علاقة جنسية أشبه بالاغتصاب مع امرأة تود أن تعود للتمثيل لأن زوجها المثقف آدم لا يستطيع أن يتكفل بمصاريفها، وتدفع بهذه العلاقة ثمن عودتها للفن، يتقاطع حاتم الريجيسير لزمن قصير جداً مع الصبي بينما هو ضائع لا يعرف الاتجاهات في الشارع، وهذا هو المبرر الدرامي لعرض قصته من وجهة نظر صُناع الفيلم.

استغلال النساء

يأخذنا "صندوق الدنيا" إلى مجموعة من الأفكار الشائعة التي لا تمل السينما المصرية من عرضها، منها أن عالم صناعة السينما والتلفزيون هو عالم يسكنه الشياطين من مستغلي أجساد النساء. في مشهد العلاقة بالإكراه بين هذا الريجيسير وزوجة الكاتب تستعرض الكاميرا الأجزاء العارية من جسد رُبى، وكأن الصورة تقدم خطابين مُتضاربين، خطاب يرثي بيع أجساد النساء، وخطاب آخر يعتمد على هذه الأجساد نفسها كمُغريات يقدمها الفيلم لجمهوره، أي يعيد بيعها للعين بطريقة ما. لن يرجع "صندوق الدنيا" لحياة رُبى مجدداً، في المقابل سيعرض شخصية "روحية" التي يطاردها الريجيسير وهي بائعة خضر وفاكهة في الشارع، ويحترمها أكثر من "رُبى" فقط لأنها قالت له لا، بتعبير البائعة.

لاحقاً سينتقل الفيلم إلى شخصية "فاطمة" أو رانيا يوسف، الممرضة التي تعمل في عيادة طبيب قلب شهير في وسط البلد يقوم بدوره صلاح عبد الله. تدخل فاطمة طرفاً في صفقة عادية يُفترض أن النساء تجريها كل يوم، حيث توافق على بيع جسدها لرجل مقتدر مالياً، مقابل ورقة زواج عُرفي، تنتزع منها كما تعتقد لقب عانس. في الأثناء تسمح الصورة لنا بمشاهدة الممرضة، وهي خجلى وغير سعيدة، في علاقتها بالطبيب الجشع، الذي يُذكرنا حضوره والطريقة التي يتقدم بها بفيلم "عمارة يعقوبيان"عام 2006، في العلاقة التي مثلها كل من نور الشريف وسمية الخشاب.  

في "صندوق الدنيا" النساء لسن سوى أجساد غاوية، إما تُشترى وإما تُباع أو تصبح موضوعاً للانتقام من هزيمة شخصية. إن مشكلة الكاتب "آدم" هي أنه يريد أن يثأر لكرامته من رُبى التي تستهين به وتخونه مع آخرين، والكيس الأسود الذي ظهر في بداية الفيلم، يحمل مسدساً كان يجب أن يصبح أداة قتل الزوجة. دافع غريب على مثقف بالطبع، ومتناقض مع شخصية "آدم عصام" الذي أصدر من قبل سبعة كتب ونراه الآن جالساً في ندوة يحتفل بالثامن، بمعنى أننا نفترض ضمنياً في الكتابة محبة على الأقل للذات للحياة، نفترض فيها بعض التحليل للأمور وليس الاندفاع للثأر على طريقة القبيلة. لكنه، أي الدافع ينسجم مع حالة عامة سوداوية، ترى في القاهرة مدينة غادرة، تقتل القادمين من بعيد وتُيتِّم أولادهم وتبيع فيها النساء نفسها بسهولة غريبة. رؤية الفيلم سطحية إلى حد كبير ليس فقط إزاء الواقع، لكن أيضاً إزاء الشخصيات المٌقدمة في صيغة بدائية جداً، نعم تتحرك الشخصيات في الفيلم بخيوط الماريونيت، أي أنها لا تتطور على نحو طبيعي، ولا نعرف لها أبعاداً، وحتى الروابط الدرامية في ما بينها واهية جداً.

عالم مظلم

تسمح لنا حكاية الكاتب ومُسدسه بالانتقال إلى عالم الممثل المغمور "عصفور" يقوم بدوره أحمد كمال، يؤدي عرضاً للبلياتشو على سطوح إحدى عمارات وسط البلد، ما يذكرنا بأول أفلام المخرج عماد البهات مع الممثل الراحل هيثم أحمد زكي. تُعتبر شخصية عصفور مجرد خيط للوصل بين عالمين، لا يتطرق السيناريو إلى حياتها الداخلية؛ يساعد عصفور صديقه آدم من جهة، يصحبه في شوارع القاهرة مُخففاً عنه ضغينته الشخصية ضد زوجته السابقة، دافعاً إياه للعودة إلى صوابه، ومن جهة أخرى يُبرر حضور شخصية الدرويش "سيد مورجيحة" علاء مرسي، المُحب الذي يطلب من عصفور نصيحة تمكنه من الاعتراف بالحُب لمعشوقته فاطمة، هو الأبكم الذي لا يستطيع الكلام.

يعتمد الفيلم على ممثلين محترفين يظهرون في أدوار تشبه ضيوف الشرف، يخدمون حلم في رأس صُناع الفيلم يودون تحقيقه، حلم مظلم- يدور معظم الفيلم ليلاً- أكثر منه قصة متمساكة تروي حياة أبطالها، وتصل إلى غاية معينة ولو كان مجرد نقل شعور ما للمتفرج.

أما أفضل ما يقدمه "صندوق الدنيا" لمشاهديه فهو تصويره شوارع وسط القاهرة، أثناء الازدحام، وسط القاهرة التي نستمتع برؤيتها على شاشة السينما بشكل مماثل لاستمتاعنا بالتسكع فيها. كما تكرس الصورة نفسها لتقديم عروض الأداء، فتُسجل بذلك أداء مسرحياً أكثر منها أسلوباً سينمائياً. تتحرك الكاميرا أمام بار الجريون الشهير، وتستعرض مشاهد لنافخي النار والفنانين الجوالين الذين يؤدون اسكتشات صغيرة في الممرات الجانبية، لا تحفل غالباً باهتمام مرتاديها الغارقين في همومهم الداخلية، السائرين في عجلة دائمة وتقريباً على غير هدى. يسعى "صندوق الدنيا" لخلق حالة تُشبه اسمه، لكنه يتمسك في طريقه بالإكليشيهات، فارضاً منذ البداية فلسفة عدمية متشائمة، قد تبرر صيحة المتفرج العادي في نهاية العرض عندما قال: "عرض للواقع تمام، لكن أنا استفدت إيه؟".

المزيد من سينما