Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين يقتل الفقهاء الفلاسفة

دم فرج فودة في رقبة محمد عمارة

"محمد عمارة انضم الى الفئة التي طالبت برأس فرج فودة" (عن الإنترنت)

على هامش رحيل الداعية الإسلامي السلفي محمد عمارة، نقول إن للميت طلب الرحمة والغفران، ولمواقفه وأفكاره النقاش العقلي، ما لها وما عليها.

وأنا أتابع ما كُتِب عن الداعية السلفي محمد عمارة عقب وفاته يوم 28 فبراير (شباط) الماضي، أُدرك يقيناً بأننا بالفعل نعيش في مجتمع ثقافي وفكري ديني بامتياز، يتجلى ذلك في علاقاتنا مع الآخر، مع المختلف، مع الثقافة، مع الفكر، مع العلم، مع التربية، ومع السياسة، كل شيء نفسره بالدين ونحيله إلى الديني، نفضله ونتعاطف معه لأن فيه رائحة الدين ونرفضه ونعاديه لأن فيه سؤال العقل، نتعاطف مع رجل الدين حتى ولو كان على خطأ، ونحاسب الفيلسوف العقلاني حتى ولو كان على حق.

أفكر في كل هذا وأنا أقرأ ما كُتب عن الداعية الإسلامي محمد عمارة، على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الصحافة الورقية أو الإلكترونية، كتابات ونقاشات كلها أو جلها صنَّفَت هذا "الداعية" الإخواني المتستر بعباءة "الباحث" في صنف "المفكر التنويري"!  

إن مثل هذه الكتابات والنقاشات تبين إلى أي مدى تظل ذاكرتنا العربية والمغاربية مصابة بالعطب، مصابة بمرض النسيان، مصابة بمرض "العاطفة الجياشة"! تخشى المراجعات والنقد والوضوح، إننا نتعاطف بغباء، فكرنا حماسي، ومواقفنا ضبابية ومضببة، وفكرنا يسكنه الغضبُ لا التأمل. 

أمام موت الداعية السلفي محمد عمارة رحمه الله، أريد أن أذكر القارئ بأمرين يشكلان عطباً كبيراً في حياته الفكرية، بخاصة في المرحلة التي لم يعد يخفي فيها "غزله" و"إعجابه" بالتجربة السياسية للإخوان المسلمين، وقد تجلى ذلك بوضوح في الربع قرن الأخير من نشاطه الفكري والدعوي.

أولا: دم فرج فودة في رقبة محمد عمارة

في المرحلة الجامعية، وفي ظل الحماس اليساري الذي كانت تعيشه الجامعة الجزائرية، كنا وقتها طلبة نخرج مع كل عطلة شتوية أو صيفية للتطوع في الأرياف والعمل في الحقول مع الفلاحين، ساعين لتوعيتهم بضرورة الدفاع عن الاشتراكية لأنها هي التي تحميهم وتحمي أبناءهم من الفقر والجهل والتخلف. في هذه الفترة كانت تصلنا كتب محمد عمارة التي كانت ماركسية المنهج في تناولها التراث والتاريخ الإسلاميين، وكنت كسائر مجايليّ معجب بفكرته الأساسية وهي "نقد مفهوم الخلافة" الدينية، وكيف أنه انتقد عثمان بن عفان وهو أحد الخلفاء الراشدين عن تصرفه في أموال المسلمين واعتبارها أمواله الخاصة، وكنا وقتها نقرأ كتابات محمد عمارة إلى جانب كتابات حسين مروة بخاصة مؤلفه الشهير "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، وكتابات طيب تيزيني وعلى رأسها كتابه "من التراث إلى الثورة" وكتابات مهدي عامل وبخاصة مؤلفه "نمط الإنتاج الكولونيالي". كانت هذه الكتب وأخرى غيرها باللغة الفرنسية أيضا ككتب غرامشي وألتوسير وبورديو وسمير أمين زادنا في فهم العالم وقراءته والحماس في تغييره نحو الحداثة والعدالة.

لقد اغتيل حسين مروة من قبل الإرهاب الديني في 18 فبراير 1987، واليد الدموية الإسلامية ذاتها التي اغتالت حسين مروة اغتالت أيضا مهدي عامل في 18 مايو 1987، وتوفي طيب تيزيني في 18 مايو 2019 وفي قلبه غصة ممّا آل إليه العالم العربي والمغاربي من "تَخَوْنُجٍ" و"تَدَعْشُن"، وحين بدأ العالم العربي والإسلامي يسقط تحت رحمة الإسلاميين المتطرفين وأخذت تجربة الاشتراكيات في البلدان العربية والمغاربية تسقط الواحدة تلو الأخرى، انقلب محمد عمارة على فكره وعلى قناعاته كلياً والتحق بالتيار الإخواني متمترساً في السلفية العلمية، وفي فترة قياسية أصبح أحد منظريهم من خلال سلسة كتبه الأخيرة، ومقالاته الافتتاحية التي كان يكتبها لمجلة الأزهر التي تولى رئاسة تحريرها حتى العام 2015، لقد أصبح محمد عمارة مفكر الإخوان المسلمين وأحد رموزهم الفكريين الشرسين بخاصة بعد رحيل محمد الغزالي العام 1996.

ومن هذا الموقع الفكري الإخواني الجهادي العلمي الجديد، ساند محمد عمارة، بل كان من الموقعين على الفتوى التي دعت إلى قتل المفكر التنويري العلماني فرج فودة (اغتيل في 8 يونيو 1992)، على إثر مناظرة حول "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية" وقد شارك فيها عن التيار الإخواني كل من محمد الغزالي ومحمد عمارة ومأمون الهضيبي (عن الدولة الدينية) وفرج فودة ومحمد أحمد خلف الله (عن الدولة المدنية)، لم يتردد محمد عمارة في  الانضمام إلى الميليشيا الفكرية التي تحلقت حول دعوة محمود المزروعي والتي طالبت وبوضوح برأس المفكر فرج فودة، وتم تنفيذ الفتوى باغتيال المفكر فرج فودة بيد مدفوعة من "فكر التجييش" الإخواني، ولم يقدم محمد عمارة حتى اعتذاره عن هذا العمل الشنيع الذي ساهم فيه، من باب الأخلاق والإنسانية.

كيف يمكن إطلاق تسمية "مفكر إسلامي تنويري" على من يدعو إلى قتل مفكر آخر لا لشيء إلا لأنه لا يتفق معه في المنهج والقراءة والتأويل للنصوص؟

ثانيا: في احتقار المسيحية وذم أقباط مصر 

بعقلية سلفية طائفية وبخلفية فكرة "دفع الجزية"، كتب محمد عمارة في كتابه الدعوي الذي يحمل عنوان "فتنة التكفير" والصادر عن وزارة الأوقاف المصرية ما لا يمكن تصديقه، ففيه دعوة إلى استباحة دم مسيحيي مصر، وفيه ازدراء للدين المسيحي الذي هو دين جزء كبير من أبناء مصر الذين يتجاوز عددهم عشرة ملايين نسمة، وفيه أهان الكتابَ المقدسَ "الإنجيل" من دون أي اعتبار للمؤمنين به من المسيحيين المصريين أو من غيرهم. وقد أثار الكتاب ردود فعل مستنكرة في الأوساط التنويرية المصرية المسلمة والمسيحية على حد سواء وتمت معارضة صدوره، وتحت الضغط الإعلامي والثقافي والفكري والسياسي قرر وقتها وزير الأوقاف الدكتور محمود زقزوق سحب الكتاب من الأسواق، ليصدر الداعية محمد عمارة طبعة ثانية منه بعد حذف الفقرات التي تدين المسيحيين وتحرض على قتلهم، وتهين مواطنين مصريين كاملي الحقوق باسم الدعوة للدولة الدينية الإسلامية.

بانضمامه إلى نشطاء التنظيم الإخواني سياسياً ودعوياً، عاد محمد عمارة إلى الدفاع عن فكرة الخلافة الإسلامية التي كان قد انتقدها في تجربته الفكرية الأولى، ووضع أسبقية الدين عن "الوطن"، وأصبح رافضاً لفلسفة "العيش المشترك" بين المؤمنين بالديانات المختلفة، وبهذا أنهى حياته وقد انفصل عن المقاربات بالعقل وأنكر فكرة التسامح الديني واحترام الاختلاف، ليدخل تجربة "التكفير"، وفي هذا الإطار هاجم وكفَّر لويس عوض صاحب كتاب "مقدمة في فقه اللغة العربية" الذي أثار ضجة كبرى، وكفَّر أيضا سعيد العشماوي وحسن حنفي ونصر أبو زيد وغيرهم.

لقد قتل الفقيهُ الأديبَ في المرة الأولى حين كفّر محمد الغزالي نجيب محفوظ مع نشر رواية "أولاد حارتنا" في خمسينيات القرن الماضي، ودعا إلى مصادرتها، بحجة "التطاول على الذات الإلهية" ومتهما إياه بالكفر والمروق عن الملة، وظل هذا المنع يلاحق الروائي وهذه التهمة ملتصقة به حتى تعرضه لمحاولة اغتيال بالطعن في عنقه في أكتوبر 1995.

وقتلَ الفقيهُ الفيلسوفَ في المرة الثانية حين أصدر بيان التكفير والمطالبة بالقتل في حق الفيلسوف والمفكر فرج فودة، ووقعه مرة أخرى محمد الغزالي ومحمد عمارة وغيرهما.

المزيد من آراء