Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"طريق عالية دجيرزيلليز" لإيفو أندريتش... الفارس والحب المستحيل

 البحث عن الحبيبة في شاعرية تسبق وشاعرية ضياع البلد

إيفو أندريتش أمام الجسر الذي شهره أدبه  (غيتي)

إذا استثنينا واقع أن واحدهما قد نال جائزة نوبال للآداب فيما أمضى الثاني سنوات عديدة من حياتها ينتظرها بل يتوقعها حتى باتت في نهاية الأمر "فردوسه المفقود"، يمكننا القول إن هناك الكثير من الأمور المشتركة بين الكاتب البوسني (وبالأحرى اليوغوسلافي الذي كان يكتب رواياته الصربو – كرواتية) إيفو أندريتش، وزميله، ومعاصره تقريبا، التركي-الكردي ياشار كمال.

ولعل آية ذلك أن الاثنين ظهرا في ستينيات القرن العشرين، وكل منهما عبر روايات سرعان ما انتشرت في العالم إلى درجة اعتبر كل منهما بفضلها الناطق الوحيد باسم أدب بلاده؛ ثم كان أن ظهر في تركيا أورهان باموق الذي سرعان ما سحب البساط من تحت قدمي كمال منسياً العالم مآثره الأدبية بأعمال أكثر حداثة وأقل أيديولوجية جعلته يحصل على نوبل التي عزّت على صاح "محمد النحيل".

ويمكن القول أن شيئاً شبيهاً بهذا حدث  للبوسني أندريتش الذي ظل مالئ الدنيا وشاغل الناس بوصفه الاسم المفرد في الأدب "اليوغوسلافي" حتى ظهر الألباني إسماعيل كاداري فسرق الصورة منه ليجعله، رغم نوبل، شبه منسيّ. ومن هنا بقدر ما يحق لياشار كمال أن ينقم على باموق لا شك أن من حق أندريتش أن ينقم على كاداري، لكنه لن يفعل لمجرد أنه حين رحل عن عالمنا لم يكن قد توطد لمنافسه و"وريثه" موقعه في خارطة الأدب العالمي. ونكتفي هنا بهذا القدر من المقارنة بين عملاقين التهمهما الزمن، لنتوقف عند البوسني وحده. وتحديداً من خلال رواية له ليست الأكثر شهرة بين أعماله، لكنها ربما تكون الأجمل والأكثر غرابة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من امرأة إلى أخرى

نتحدث هنا عن رواية "طريق عالية دجيرزيلليز" التي نشرها أندريتش باكراً منذ عام 1920 وهو في الثامنة والعشرين من عمره، فكانت روايته الأولى التي سبقت أعماله الكبرى، لا سيما "جسر على نهر الدرينا" (1945) و"وقائع مدينة ترافنك" (1945 أيضاً)، بربع قرن ومهدت لها الطريق.

والحقيقة أن الكاتب حين انطلق في عمله الروائي عبر هذا العمل كان لا يزال مرتبطاً بنزعة شاعرية وربما رومانسية أيضا طغت على كتاباته الأولى السابقة عليها. أي لم يكن قد اختار بعد طريق الأدب الملحمي متعدد الشخصيات والأصوات. فعلى رغم امتلاء هذه الرواية بعدد كبير من الشخصيات، سنلاحظ بسرعة أن كل تلك الشخصيات لن تظهر إلا في العلاقة مع ذلك الفارس الغريب عالية الذي بعدما خاض الحروب الطاحنة، المظفرة أحيانا، والفاشلة في أحيان أخرى وغالباً ضد الاحتلال العثماني للبلقان ها هو اليوم وحيداً تقريباً يتجول بين منطقة وأخرى، ومدينة وأخرى في ذلك البلقان المدهش والمتنوع. فما الذي يدفع بذلك الفارس إلى تجواله الذي يبدو بلا نهاية؟. الحب! وليس أي شيء آخر غير الحب.

فالحقيقة أن فارسنا كان قد حدث له ذات حلم يقظة أن لمح امرأة، أو لنقل طيف امرأة أو نظرة امرأة لن يعرفها أبداً، لكنه سوف يقع في هواها لتوه ويروح باحثاً عنها إذ أدرك أنه لن يجد لا الحب الحقيقي ولا المبرر النهائي لوجوده إن لم يلتق بها. ومن خلال ذلك التجوال وذلك البحث، سيلتقي الفارس عدداً كبيراً من النساء. نماذج متنوعة لكل واحدة منهن مزاياها وسيئاتها وكل واحدة منه تحمل قبساً، ولو غامضاً، مما يريده في حبيبته الموعودة. فمن القسطنطينية إلى ترافنك البوسنية نفسها سيتابع عالية طريقه محملاً بظمأ إلى الحب لا يرتوي وبتطلع إلى امرأة واحدة هي "كل النساء" بالنسبة إليه. سيقوده شغفه تباعاً من خان إلى آخر ومن بلدة إلى أخرى. سيلتقي يونانية من سالونيك تسلبه كل ما يملك تاركة إياه معدماً، ثم بأرملة تاجر من سكوبيي ستحاول إيقاعه في هواها رغم وزنها المفرط، وسيكون من بعدها دور الغجرية زامكا التي ستعامله بكل نزق ووقاحة قبل أن ينتقل إلى كاتنكا ذات الحسن الغامر، التي سرعان ما يكتشف أنها واقعة ضحية حسنها نفسه، حيث إن أهلها يبقونها خوفاً عليها أسيرة سجن لا تبرحه، بحيث إن لقاء الفارس بها سيبدو أشبه بالحلم منه بالواقع.

أما الواقع فلسوف يجمعه بحسناء من البندقية تكاد تفقده عقله. وتكون النتيجة أن الهوى الذي يعتصره تجاهها هي التي ربما تكون حبيبته المنشودة، ينسي الناس مآثره البطولية في حروبه ضد المحتل العثماني. وفي نهاية الأمر سوف يعرف عالية نوعاً من استقرار مضطرب مع محظية يرتاح إليها لكنه سيبقى يسأل نفسه: أي واحدة من النساء اللواتي التقاهن كانت هي حبه الضائع؟

البحث المتواصل عن الوطن المفقود؟

فهل يحتاج الأمر إلى جواب؟ أبداً لأن الموضوع هنا هو البحث عن الحب وليس الوصول إليه. وما أدب أندريتش في مجمله سوى أدب بحث طويل عن المعنى كما عن الحب كما عن الوطن الذي لا يفتأ أن يختفي ليعود، ثم يعود ليختفي، على مدى تاريخه.

والملفت هنا أن صاحب نوبل لعام 1961، كتب أهم أعماله في اللحظات الحاسمة في تاريخ بلاده، هو الذي وجد في الكتابة مخرجاً من مأزقه الشخصي والوطني، حين احتل النازيون بلغراد في عام 1942، فارتعب وهو الذي كان سبق له أن شغل منصب سفير يوغوسلافيا في برلين، وأحس أن الوقت قد حان للتعبير كتابة عن أحداث تتحكم فيها الصدمة الحضارية بين غرب متحرك (حتى ولو كان تحركه نحو الأسوأ) وشرق ثابت جامد.

  ولد إيفو أندريتش بالقرب من مدينة ترافنك في البوسنة عام 1892، ودرس التاريخ والأدب، قبل أن ينخرط في شبابه في جماعة «البوسنة الفتاة» ويناضل ضد النمساويين ما أدى إلى رميه في السجن واضطهاده قبل نفيه. وهو لئن كان قد عبر عن تلك التجربة في كتابين أولين «اكس بونتو» (1918) و«قلق» (1920)، فإن التجربة نفسها كشفت له هشاشة الوضع الإنساني، فكانت تلك الهشاشة واحداً من موضوعات رواياته الأثيرة. وهو بعد ذلك وبالتوازي مع عمله الكتابة، خاض العمل الديبلوماسي وعاش بين 1921 و1941 متنقلاً بين العديد من العواصم الأوروبية متأملاً، متسائلاً عن أسباب التخلف الشرقي الذي ما برح يهجس به انطلاقاً من ذكريات وطنه الأم. وبعد ذلك إذ فاجأته الحرب العالمية الثانية وهو سفير لبلاده في برلين، عاد إلى بلده المحتل من قبل النازيين، واكتشف أن نشر أعماله ممنوع، فأخلد إلى ذلك الصمت الذي أتاح له أن يكتب روايتيه الكبيرتين: «وقائع مدينة ترافنك» و«جسر على نهر الدرينا» (1945) اللتين تشكلان معاً نظرة عميقة يلقيها الكاتب على مصير يوغوسلافيا وأوروبا. وكانت هاتان الروايتان سبب شهرة هائلة نالها إيفو أندريتش، وألفة بدأ قراء عديدون في العالم يعيشونها مع تاريخ تلك المنطقة من العالم، وهي الشهرة التي توجت في عام 1961 بحصول أندريتش على جائزة نوبل للآداب، كما أشرنا.

بين السياسة الرسمية والأدب

بالتوازي مع عمله الكتابي، خاض أندريتش السياسة، فكان عضواً في المجلس الوطني في جمهورية البوسنة - الهرسك وفي المجلس الاتحادي لجمهورية يوغوسلافيا، إضافة إلى عضويته في مجالس تحرير العديد من المجلات الأدبية، وعضويته في الأكاديمية اليوغوسلافية.

 وفي يوغوسلافيا نفسها، كان أندريتش الكاتب الأكثر شعبية، بفضل نشر وإعادة نشر العديد من الكتب التي وضعها، والتي لئن كانت الروايتان اللتان ذكرناهما، أشهرها، فإن القراء أقبلوا بشغف على روايات عديدة أخرى له مثل «فيل الوزير» (1948) و«جسر نهر جيبا» (1931) و«حكاية القن سليمان» (1948) إضافة إلى «حكايات» التي صاغها على غرار ألف ليلة وليلة. وفي كل تلك الأعمال كان الموضوع الأساس الذي يشغل بال إيفو أندريتش، موضوع العلاقة بين الشرق والغرب، وهي علاقة رمز إليها دائماً بالجسر، ذلك الجسر الرمزي الذي يشغل مكانة أساسية في رواياته، وكذلك في الصدمة الناجمة، أما عن وجود قناصل غربيين في ترافنك، أو في تصوير لحظة انتقال حكم البوسنة من الأتراك العثمانيين إلى النمساويين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة