Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حصاد الهشيم" لابراهيم المازني: كروبتكين في الميزان

الفوضوي الروسي في "ضيافة" الأديب المصري المدهش

الأمير كروبتكين (1842 – 1921)

من الصعب أن نعرف تماما ما الذي جعل الأديب المصري إبراهيم المازني يهتم ذات يوم بالزعيم الفوضوي الروسي كروبتكين فيفرد له مقالا مدهشا وغير متوقّع يمكننا أن نقرأه في كتاب "حصاد الهشيم" الذي يعتبر من أجمل وأشهر كتب المازني، وفيه من الدراسات النقدية ما كان يُعتبر جديدا ومفاجئا في حينه. كان أمرا طبيعيا أن ينشر المازني في ذلك الكتاب دراسة تأسيسية عن المتنبي أو عن إبن الرومي، أو يستعرض صوفية عمر الخيام بل حتى أن يتناول شكسبير من خلال مسرحية "تاجر البندقية" أو "ديوان العقاد"... فما الذي جاء كروبتكين يفعله هنا؟ سؤال عويص لكن له في النصّ نفسه ما يبرّره وربما في المناسبة التي كُتب انطلاقا منها مزيد من التبرير... غير أن الغرابة تظل قائمة إذ يأتي النصّ من كاتب ما عُرفت له هموم إشتراكية أو فوضوية. ونعرف أن هاتين كانتا ميدان تحرك الأمير الروسي الثائر، حتى على لينين وحزبه البوسشفي وسياساته...

بين الخيّام وجمال المرأة

إذا بين دراسة عن "عمر الخيام" وأخرى عن "الجمال في نظر المرأة"، يمكننا العثور على كروبتكين في كتاب المازني الذي يبدأ مؤكدا أن "قلة من الناس يعرفون شيئا - قلّ أو كثر – عن "البرنس" كروبتكين العالم الإشتراكي الروسي الذي جاءت الأنباء بأنه توفي بمدينة موسكو بالغاً من العمر ثمانية وسبعين عاما، وإن كانت شهرته قد طبقت الخافقين وآثاره قد سارت في العالمين". وهنا بعد أن يشكك المازني بصحة الخبر وبعموم الأخبار التي كانت ترد من موسكو حينها، يروح مادحاً الرجل دون أن يدنو من كلمة "فوضوية" إطلاقاً، مؤكدا أن حياته "كانت حافلة بالتجارب المضنية التي ليس أقسى من امتحانها للصبر وعجمها للنفس ولقد ذهب بخير شطريها السجن واستبدّ المنفى بالشطر الثاني" لكنه، كما يقول المازني "لم يُعرف عنه أنه شكى وتوجّع وبكى وتفجّع" بل "كان يُدهش الناس بمرحه وانبساطه وإيمانه بفوز الحق في روسيا وغيرها آخر الأمر". وبعد أن يحكي المازني فصولا من حياة الرجل الشاقة سواء أيام القيصر ثم أيام الثورة، نراه يستعرض أفكاره الرئيسة بثلاث نقاط: "تحرير المنتج من نير الرأسمالية" - "التحرر من نير حكومة موطدة حتى يتيسّر للأفراد أن يتحدوا ويصيروا طوائف منتظمة" - وأخيرا "التحرر من نظام الأخلاق الكنيسي والاعتياض منه بالأخلاق الحرة التي تدعو إليها حياة المجتمع نفسه".

من الواضح أن المازني تعرّف بشكل لا بأس فيه على فكر كروبتكين قبل أن يكتب مقالته هذه. بل يبدو واضحا إلى حدّ ما، حسن إلمامه بكتابه "التعاون"، وإدراكه أن كروبتكين الذي كان أميرا حقيقيا، "ما صاغ مذهبه إلا نتيجة رد فعل لإغراق النظام القيصري في إرهاق الروسيين وتقييدهم بكل أنواع الأغلال وتحميلهم جميع أنواع الظلم والعنت".

وبعيدا من كتابة المازني الواعية والمبكرة عن ذلك "الأمير الثائر" كما وصفه، قد يكون مفيدا هنا أن نستكمل ذلك النص بالعودة إلى كروبتكين الذي لا شك أن المكانة التي يحظى بها في أيامنا هذه، ليست مكانة كبيرة، والأصح أن نقول أنه نُسي تماماً، فلم يعد يذكره سوى قلّة من الناس، وبالكاد تعاد طباعة كتبه أو تنشر أفكاره، مع أنه كان عند الزمن الفاصل بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين واحداً من ألمع العقول ومن كبار المتنورين. والغريب في أمر كروبتكين، على أي حال، أنه إن ذكر، ذكر فقط بوصفه واحداً من زعماء التيار الفوضوي، إلى جانب برودون وباكونين، أي بوصفه مناضلاً سياسياً أنفق جلّ عمره في النضال. فذاكروه يضربون صفحاً عن جوانب أخرى من حياته ومن عمله الفكري، لو نظرنا إليها ملياً لوجدناها أهم من تحركه السياسي بكثير، ولاكتشفنا في شخص ذلك الأمير الثائر المتنوّر، واحداً من العقول الموسوعية التي باتت نادرة في أيامنا هذه وهو أمر لا نجد له ذكرا حتى لدى المازني ما كان من شأنه أن يخدمه كمبرر للكتابة عنه في ثنايا كتاب أدبي!.

مهما يكن، كان من سوء حظ كروبتكين أن يموت في ديمتروف، ضمن محافظة موسكو، في زمن كان الروس ملتهين فيه بحروبهم الأهلية وبصراعاتهم الفكرية، فلم يكن من شأن موت زعيم «فوضوي» أن يعني لهم شيئاً في حينه. كان ذلك في شهر شباط (فبراير) 1921، بعد سنوات قليلة من انتصار الثورة البلشفية التي ناصبها كروبتكين العداء بكل صراحة، لأن أفكارها المركزية «الانقلابية» حسب تعبيره لم تكن تلتقي مع أفكاره الباحثة عن تطبيق ضروب اللامركزية التطورية والتسيير الذاتي. ومع هذا، كانت تلك الثورة هي التي ارجعته إلى روسيا بعد تشرد أوروبي طويل تواصل طوال فترة الحرب العالمية الأولى التي ناصر فيها كروبتكين الحلفاء ضد ألمانيا في «انبعاثة» قومية كانت غريبة عن عالمه الفكري على أي حال.

حياة أمراء متنورين

ولد الأمير كروبتكين العام 1842 في موسكو لأسرة من الأمراء، وبدأ حياته كجندي، ثم ضابط في حرس سان - بطرسبرغ، قبل أن ينقل إلى فرق ترابط في القوقاز وسيبيريا بناء على طلبه. وكان سبب إصراره على مثل هذا النقل رغبته في استكشاف حوض نهر آمور ومناطق سيبيريا الشرقية، لأن تكوينه العلمي الأساسي كان تكويناً جغرافياً وعلمياً. وهو بعد ذلك، حين عاد إلى روسيا، راح يدرّس مادة الرياضيات في كلية موسكو، كما شغل منصب أمين الجمعية الجغرافية، ليصبح من ثم رئيساً لقسم الجغرافيا الطبيعية وينشر كتاباً مهماً حول العصر الجليدي. وفي 1872 نجده يسافر في رحلة علمية إلى أوروبا، لكنه بدلاً من أن ينكب على بحوثه العلمية انضم إلى مجموعة برودون الفوضوية، ثم التحق بمجموعة باكونين ووقف موقف العداء من «الأممية الأولى» المتحلقة حول الاشتراكيين الألمان والروس، ولدى عودته إلى روسيا انضم إلى مجموعة فوضوية داخلية عرفت باسم مجموعة تشايكوفسكي وبدأ يهتم بالنشاط السياسي أكثر من اهتمامه بالنشاط العلمي، فقبض عليه في 1874 وأودع السجن، ثم ادعى الجنون فوضع في مستشفى تمكن من الهرب منها في 1876، فلجأ أولاً إلى سويسرا ثم إلى لندن حيث عاش حتى 1917، سنوات وزع خلالها وقته بين السياسة والعلم والأدب، وتمكن من أن يجمع من حوله عشرات المناصرين حتى صار له صوت مسموع في النشاط السياسي، صوت كان غالباً ما يثير حفيظة الاشتراكيين أكثر مما يثير غيظ «الرجعيين» في طول أوروبا وعرضها.

خلال وجوده في المنفى، بشكل خاص، وضع كروبتكين كتبه الرئيسية التي انطبع أغلبها بطابع الفلسفة المثالية التفاؤلية المرتبطة بنظرية التطور. وكان من أبرز كتبه في ذلك الحين كتابه «الحقل، المصنع، والمحترفات، أو الصناعة مرتبطة بالزراعة والعمل الذهني مرتبط بالعمل اليدوي»، وهو الكتاب الذي عرض فيه أبرز أفكاره السياسية والفلسفية، وصدر في 1909 ليترجم إلى العديد من اللغات في العام التالي. وفي الوقت نفسه وضع كروبتكين كتابه الشهير عن «الثورة الفرنسية» (1909) إضافة إلى «المثال والواقع في الأدب الروسي» وهو واحد من الكتب الأساسية التي أرّخت لذلك الأدب وربطته ربطاً محكماً بالأفكار الفلسفية التي عاصرت أبرز تياراته. وفي 1906 نشر كروبتكين كتابه الأشهر «مذكرات ثوري» الذي أسبغ عليه شهرة كبيرة، وغطّى على كتبه الكثيرة الأخرى، فجعل القرّاء يعتقدون على الدوام أن كروبتكين لم يكن أكثر من ثوري محترف أنفق جل وقته في مجادلات إيديولوجية وسياسية، مع أن واقع حياته يقول لنا أن الرجل ضحّى بالكثير من ثقافته الموسوعية لصالح السياسة، ما جعل واحداً من مؤرخي حياته يقول: «لو أن كروبتكين أنفق في العمل العلمي والأدبي ذلك الوقت الذي أضاعه في نضال سياسي لا طائل من ورائه، لكان أعتبر واحداً من العقول الرئيسية في بدايات القرن العشرين».

المزيد من ثقافة