نبّهت الأمم المتحدة في تقرير لها تناولته "اندبندنت عربية" منتصف الشهر الحالي إلى أنّ ليبيا تضم أكبر مخزونٍ في العالم من الأسلحة غير الخاضعة للرقابة، بما يوازي بين 150 و200 ألف طن في جميع أنحاء البلاد. ويلفت هذا التقرير إلى أن المواقف الدولية المتعلِّقة بالتسلح في أفريقيا تثير الكثير من علامات الاستفهام، لما تحتويه من مفارقات ومواقف متناقضة أحياناً، ولما يكتنفها من إحساس بالوصاية المشوبة بالحذر في أحايين كثيرة، فقد فرّخت النزاعات الأفريقية العديد من الحركات المسلحة يصعب حصرها على مستوى القارة، ولكن ما تأذى منه السودان على وجه الخصوص هو تسرّب الأسلحة إلى هذه الحركات تارة وإلى النظام السابق تارة أخرى، محقِّقةً تغذية مستمرة للصراع في دارفور. ومن هذا النموذج يبرز السؤال عن مستوى الرقابة التي تمارسها الأمم المتحدة على هذه الأسلحة ومدى جديتها في ذلك.
ترسانة القذافي
مع بدايات الثورة الليبية في 17 فبراير(شباط) 2011، دار جدلٌ واسع حول بأس السلاح الليبي الذي تم وصفه بأنه ترسانة لا يُؤمن شرها إن تم فتحها على دول المنطقة. ونتج الخوف من جانبين هما السلاح الذي كدَّسه العقيد معمر القذافي على مرِّ عقود، وسهولة تدفقه إلى دول الجوار وتأثيره في أمن المنطقة واستقرارها. والجانب الآخر انفتاح حالة الفوضى التي شهدتها ليبيا، ولا تزال، على انتعاش تجارة السلاح وتصديره إليها وإلى جوارها أيضاً من مناطق النزاعات.
في بداية الرد على العنف الذي مارسه القذافي على الثوار، ترددت الدول الداعمة للائتلاف الدولي واكتفت في البداية بإضعاف قدرات نظام القذافي العسكرية، ما ترك انطباعاً بأن أمر إطاحته متروك للثوار الليبيين. وبهذا فإنَّ سيطرة القذافي تعدَّت معاقله في ليبيا إلى الحدود مع السودان من جهة دارفور، وظلّ مخزن السلاح مصدر قلق للمنطقة بأسرها خصوصاً الأقاليم المجاورة عبر الحدود المفتوحة، وما عزّز من ذلك القلق اتهامات سابقة وُجّهت إلى القذافي بدعمه حركات دارفور وتسليحها عندما كانت علاقته تسوء وتشهد توتراً في أغلب الوقت مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وعندما تهدأ يعود إلى دعم ميليشياته في الإقليم. وبعد إطاحة القذافي قال البشير إنَّ بلاده ساهمت في ذلك بتقديمها دعماً عسكريّاً إلى قوات المجلس الانتقالي الليبي.
عوامل استعداد
يُعدّ السودان من ناحية بوابته الغربية المتمثلة في إقليم دارفور أكثر أقاليم الجوار استقبالاً للسلاح الليبي ومؤهلاً لأن يكون وجهة وممراً له وذلك لعوامل عدة:
ـ بحكم موقعه وسط منطقة نزاعات القرن الأفريقي التي تمثِّل ممراً نشطاً لأسواق السلاح في العالم. زادت هذه النزاعات وما نتج منها من عنف مسلّح تنامى مع الزمن من الرغبة العارمة في الاستحواذ على السلاح والذخائر بكل الوسائل وتسهيل مرورها أو تصديرها إلى الجماعات المسلحة بكلِّ الطرق البدائية والحديثة. أفادت إحدى إصدارات مشروع التقييم الأساسي للأمن البشري HSBA)) التابع لمسح الأسلحة الصغيرة، والذي طُوّر بالتعاون مع الحكومة الكندية وبعثة الأمم المتحدة في السودان (UNIMS) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) بأنَّ السلاح الخفيف في المنطقة يتمَّ نقله على ظهور الحمير والجمال.
ـ تعدُّد مداخل السودان على مختلف حدوده مما يسهِّل مهمة اشتراك دول أجنبية وسماسرة السلاح في توريده إلى السودان. ولأنَّ توافر السلاح يؤدي بشكلٍ مباشرٍ إلى انعدام الأمن فإنَّ المراقب يمكنه الوقوف على حال أقاليم عديدة في السودان بالإضافة إلى دارفور، تم تزويد مجموعات منها بالسلاح مما أطال أمد الصراع الداخلي.
ـ ارتباط حرب جنوب السودان بتأجيج النزاع في دارفور لأنَّ القبائل المتنازعة استفادت من الفوضى الأمنية في الجنوب ومن توفر السلاح الذي أعيد تهريبه من هناك. ولم يترك النظام السابق حمى تهريب السلاح إلى هذه القبائل وإنّما قام بتجييش وتسليح قواتٍ خاصة "الدفاع الشعبي" بالأسلحة الثقيلة والخفيفة. وساهم تدريبهم على استخدام السلاح وتجربتهم الطويلة بخوض الحرب في الجنوب إلى مواجهة القبائل مع بعضها بعضاً، وسهولة الحصول على السلاح وحمله ما أحدث طلباً كبيراً عليه من قِبل الجماعات المتمردة من الدول المجاورة وسماسرة السلاح لمواجهة الصراع مع الحكومة.
ـ تفكك نظام الأمن وعدم الاستقرار بسبب مخلفات الصراع التشادي الداخلي على الحدود السودانية من جهة، والصراع الليبي التشادي من جهة أخرى خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات. وفي ذلك الوقت كان البشير يوفِّر الدعم لمعارضي الرئيس التشادي إدريس ديبي. أدّت الصراعات إلى تفاقم الهجرات التشادية إلى دارفور بسبب تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية وزيادة حدة الجفاف والتصحر. ولكن بعد توقيع اتفاقٍ بين البشير وديبي في أواخر عام 2009 الذي قضى بموجبه إنهاء دعم تشاد حركة العدل والمساواة السودانية المعارضة، وافق الرئيس البشير على طرد الجماعات المسلحة المعارضة للرئيس التشادي إدريس ديبي من دارفور.
ـ وضع دارفور الأمني الهش، والعلاقات المتوترة والصراع بين القبائل التي تم تصنيفها بين مناوئة ومدعومة من قِبل الحكومة، وهو أمر أكدته معطيات الشعور العام بالغبن والتهميش لدى أبناء إقليم دارفور نتيجة فقر الموارد والتردي البيئي الذي أدى إلى تفاقم الصراع داخل الإقليم ما ساهم في حمل السلاح للمطالبة بحقوقهم. وأفادت إصدارة مسح الأسلحة الصغيرة أيضاً بأن اندلاع الحرب في دارفور وتفاقم النزاع بين الأبَّالة (رعاة الإبل) والبقَّارة (رعاة البقر) على المراعي والموارد كان نتيجةً لمعاملة الحكومة السودانية للطرفين بشكلٍ غير متكافئ. وأضافت أنَّ قيام الحكومة بدمج الأبّالة في وحدة استخبارات الحدود، أو حرس الحدود، والبقَّارة في شرطة الاحتياطي المركزي، ودعمها المجموعتين بأسلحة تباينت في أنواعها بحسب الولاء لها، أثار الغيرة بين المجموعتين وفاقم من تنافس التسلح.
القلق الدولي
يكتنف الرأي العام الدولي قلقٌ خصوصاً من قبل الدول المسيسة بصفقات السلاح الليبية. فروسيا مثلاً أعلنت منذ عام 2011 عن قلقها من أن تؤثّر الثورات في العالم العربي في صادرات الأسلحة الروسية إلى المنطقة، وظهرت تقارير إخبارية قدّرت خسائر روسيا جراء حظر الأمم المتحدة تصدير السلاح إلى نظام القذافي بأربعة مليارات دولار. وتجلّى الموقف المتحفِّظ الذي تبنته روسيا من الأحداث الليبية الخاص بالتدخلات الغربية عند تحذيرها من الانحياز إلى أحد أطراف الصراع الليبي واصفةً النزاع الليبي بأنه حرب أهلية. كما كشفت المعلومات المتداولة بهذا الشأن عن اتفاقية وقّعتها روسيا وليبيا في أبريل (نيسان) 2008، تنازلت روسيا بمقتضاها عن ديون مستحقة على ليبيا بقيمة أربعة مليارات ونصف المليار دولار مقابل عقود ليبية من قطاع التصنيع العسكري الروسي. هذا غير اتفاقيات كان من المتوقع توقيعها لولا اندلاع ثورة 17 فبراير. ولم تخفِ وثائق المخابرات الأميركية الهدف الأساسي حول برنامج التسلح الليبي الذي كان ينفق عليه القذافي ملايين الدولارات بغرض التباهي والتفاخر بامتلاك قوة عسكرية رادعة.
هذا التوجس الدولي والإقليمي حفَّز على أخذ خطر النزاع الليبي على السودان على محمل الجد، فلا يكفي إعلان قائد القوات السودانية التشادية المشتركة عن إنشاء قوات ثلاثية لضبط الحدود بين السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى. وقد لا يكفي العزم على إحباط محاولات تهريب السلاح الليبي إلى دارفور وبالأخصّ السلاح الخفيف والسيارات الرباعية الدفع المُجهزة بمدافع ذاتية الحركة وبطاريات سام المضادة للطائرات، لأنَّ حدود السودان المفتوحة على جميع جيرانه تشكل معضلة أمنية أحدثت إشكالات كثيرة على مدى التاريخ الحديث، وفوق ذلك تعدَّت أهميتها المعبرة عن سيادة الدولة التي اكتسبتها من القانون الدولي. وذلك لأنَّ طبيعة حدود السودان البرية الطويلة المتعددة المنافذ والمفتوحة على تسع دول أفريقية، أثبتت فشل السيطرة عليها والحفاظ على أمنها لخلو أغلبها من قوات حرس الحدود.
هذا هو التطور المتوقع للاضطراب في ليبيا ومن قبله اضطراب دول الجوار وإقليم دارفور نفسه. دخل السودان بإقليمه مرحلة لا ينفع فيها الحظر الموجَّه لنقل السلاح منه وإليه. وإن كان حظر السلاح ذا فعالية في ما قبل بإرساء قوانين دولية للحدِّ من تدفقه، فإنَّ الانتهاك لهذا الحظر في ظلِّ ظروف النزاع الليبي المستمر وعدم الاستقرار يبدو الآن أكثر شراسة. وكما أنَّ وجود هذا الكم الكبير من السلاح في ليبيا يهدِّد أمنها الداخلي، فإنَّه يُعد في الوقت نفسه نوعاً من الإمدادات التي بمقدورها توفير بيئة جديدة لإشعال أوار الحرب في دارفور من جديد.