Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أوروبا في مؤتمر ميونيخ: إذلال أميركي وتلاعب روسي

مارست واشنطن من على منبر مؤتمرَي وارسو وميونيخ إملاء المواقف على بريطانيا وفرنسا وألمانيا.

مركيل تتحدث إلى وزير خارجيتها هايكو ماس بحضور وزير المالية أولاف شولز (رويترز)

أوروبا في ورطة تتجاوز أثقال التاريخ على القارة العجوز. بعضها ذاتي بفعل الحرص على رخاء العيش بعد مآسي الحرب العالمية الثانية والركون إلى الاسترخاء الاستراتيجي تحت مظلة الحماية الأمنية الأميركية، وبعضها الآخر موضوعي فرضته المتغيرات الهائلة بعد نهاية الحرب الباردة والانتقال من الثنائية القطبية الأميركية-السوفياتية على قمة العالم الى الأحادية الأميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ثم الى التعددية القطبية، مع صعود روسيا والصين الى جانب الولايات المتحدة من دون أن يأخذ الاتحاد الأوروبي المكان الذي يليق به بين الأقطاب.

ولم يكن غريباً وإن بدا مستغرباً أن يُقال في أميركا إن "الأميركيون من المريخ، والأوروبيون من الزهرة". ولا كان أمراً قليل الدلالة أن يشهد "مؤتمر ميونيخ للأمن" في دورته الأخيرة قمة الغطرسة الأميركية، بعدما شهد في دورات ماضية قمة الاستخفاف الروسي بالغرب. فحتى دولة اقليمية مثل إيران تهدد أوروبا وتتهمها بالتقصير معها في الملف النووي، بحيث تجد القارة العجوز نفسها في موقع اغضاب واشنطن من دون إرضاء طهران. وهكذا التقى الاذلال الأميركي لأوروبا والتلاعب الروسي بها والتشكيك الايراني بنياتها والرهان العربي على اعتدالها ودورها غير المنحاز نسبياً في الصراع العربي-الاسرائيلي.
ومارست واشنطن من على منبر مؤتمرَي وارسو وميونيخ إملاء المواقف على بريطانيا وفرنسا وألمانيا. ودعا نائب الرئيس الأميركي مايك بنس هذه الدول إلى الخروج من الإتفاق النووي مع إيران، واتهمها مع وزير الخارجية مايك بومبيو بأنها تحاول "كسر العقوبات الأميركية" على إيران. ومن أغرب ما قاله مسؤول في إدارة الرئيس دونالد ترمب هو أن "السيارات الألمانية تشكّل تهديداً للأمن القومي الأميركي".
أما روسيا، فأعلنت في مؤتمر سابق في ميونيخ بلسان الرئيس فلاديمير بوتين استراتيجية التخلص من نتائج الحرب الباردة، لأن الذين تصوروا انهم ربحوا "يريدون كل شيء". ولم يتأخر وزير الخارجية الروسي المخضرم سيرغي لافروف في الدعوة إلى "نظام ما بعد الغرب" على أساس أن النظام الليبرالي العالمي الذي صنعته نخبة دول غربية انتهى". وكرر في المؤتمر الحالي الدعوة إلى بناء "البيت الأوروبي الواحد" من لشبونة إلى فلاديفوستوك، بما يعني انهاء حلف شمال الأطلسي (ناتو)، عمود الأمن الأوروبي، من خلال "التضامن الأطلسي"، أساس مؤتمر ميونيخ.
وهكذا تلتقي روسيا برئاسة بوتين، وأميركا برئاسة ترمب، على الرغبة في اضعاف اوروبا وشرذمة الاتحاد الأوروبي، بصرف النظر عن اختلاف الأهداف. وينقل المعلق روجر كوهن في صحيفة "نيويورك تايمز" عن سفير فرنسي قوله إن إدارة ترمب حققت عملاً غير عادي هو تحويل الألمان إلى "ديغوليين" بمعنى الإستقلال الاستراتيجي الذي مارسه الجنرال شارل ديغول. وأقلّ ما قالته المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في مؤتمر ميونيخ هو: "هل الانسحاب الأميركي من سوريا أفضل وسيلة لاحتواء إيران؟ هـل يخدم الاحتواء خروجنا من الاتفاق الوحيد الموجود مع إيران؟ وأين مصلحة أوروبا في قطع العلاقات مع روسيا. وإن خرقت القانون الدولي بضم القرم ودعمت التمرد شرق أوكرانيا؟".
فضلاً عن أن روسيا، كما قال ديمتري ترينين مدير مركز كارنيغي في موسكو، خرجت في نهاية القرن العشرين من بابين: "واحد يقود الى السوق المعولمة في القرن الـ 21، وآخر مفتوح على اللعبة الجيوسياسية الكبرى في القرن الـ 19". والعالم، برأي ترمب، ليس مكاناً للتضامن بل "ميدان للتنافس بين الخصومة والحلفاء من أجل المصالح". وبعض ما تعانيه أوروبا، لا فقط شعوب العالم الثالث التي كانت مسرحاً لصراع القوى الأوروبية، هو تعاظم التنافس على المصالح والأدوار على مسرح القارة العجوز. وتجد في أميركا كما في روسيا، مَن يقول صراحةً إنه يريد أكثر من "بريكست"، أي خروج دول أخرى غير بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولا أحد يجهل التشجيع على تعاظم الشعبوية والانتقال من جوهر الديموقراطية إلى حكم الرجل القوي الواحد. ولا شيء يوحي أن النظام العالمي الجديد مرشح للتبلور النهائي سريعاً على أنقاض النظام القديم الذي انتهى. ففي الغرب الأميركي والأوروبي فراغ قيادي"، وفي روسيا "امتلاء قيادي" من فوق، يقابله فراغ في القاعدة. وفي الصين طموح قيادي كبير مع امكانات اقتصادية واسعة وامكانات عسكرية محصورة في الجوار، وحرص على حكمة كونفوشيوس أكثر من ايديولوجية ماو.
وأبسط طريقة لفهم ترمب هي المبدأ المركانتيلي القائل "الثروة أهم من الدفاع". وأقل الطرق تعقيداً لفهم بوتين هي قوله إن "ستالين أنجح حكام روسيا في القرن العشرين. فهو مدّ الإمبراطورية إلى أبعد من أيام قياصرة آل رومانوف، وجعل روسيا قوة نووية عالمية، وكانت اعداماته ضرورية للاستقرار. وحين هنأه افريل هاريمان على دخول قواته إلى برلين، قال ستالين: لكن الكسندر الأول وصل الى باريس".

المزيد من آراء