هي في الأصل واحدة من أشهر لوحات الرسام الإسباني بيلاسكويث، رُسمت أواسط القرن السابع عشر كنوع من التكريم لسيّد كبير من سادة الفاتيكان، هو البابا إينوتشينتي العاشر الذي اشتهر بشيء من التسامح والهدوء واتّسم عهده بقدر كبير من الفعل النهضوي الذي بعث الكنيسة بعثاً مشهوداً بعيداً من تعصّب كان سائداً من قبل، تعصّب تزعمته محاكم التفتيش مصادرة الأفكار ومناوئة أية نزعة إنسانية للفن. ونعرف أن كثراً من فناني القرن العشرين تأثروا بفن بيلاسكويث وحاكوه في أعمال معاصرة كان همها مضمونياً أكثر منه شكلياً، وإذ ترد في أذهاننا هنا لوحة "لاس مينيناس" التي حاكاها بيكاسو بروعة وقوة جعلته يُعتبر نسخة معاصرة من سلفه ومواطنه الكبير، لا يمكننا إلا أن نتوقف عند محاك آخر لبيلاسكويث ينتمي إلى القرن العشرين هو الإنكليزي فرانسيس بيكون الذي تقيم له العاصمة الفرنسية في هذه الأيام، ولبضعة أيام أخرى، معرضاً إستعادياً يضم بعض أهم أعماله التي يتدافع أهل باريس وزوارها لمشاهدتها في محاولة منهم لسبر أغوار فن ملغّز لطالما إنغلق عليهم، ليس فقط لصعوبته وإنما أيضاً لقسوته. ففرانسيس بيكون المعاصر لنا تقريبا، أكثر مما كانت حال بيكاسو وغيره من متابعي بيلاسكويث، آثر حين حاكى أعمال فنان القرن السابع عشر الإسباني أن ينطلق منه ليشتغل على مفهوم الضد، بمعنى أنه، (كما يتبدّى لنا من المقارنة بين لوحة بيلاسكويث عن البابا "إينوتشنتي العاشر" ولوحة بيكون التي يصوّر فيها البابا نفسه) آثر أن "يعيد تدوير" اللوحة الكلاسيكية بشكل يجعل البابا الهادىء المعتدل يبدو في اللوحة الحديثة وكأنه ينعي على الأزمنة الجديدة عنفها. والحال أنه إذا كان بيكون قد اشتغل على لوحة سلفه الإسباني الكبير محافظاً على الإطار العام لجلسة البابا الموقرة، فإنه أحدث قلبة أساسية في نظرات البابا وتعبيره عن صرخة من الواضح أنها تحاول هنا أن تمزج بين صرختين تعتبران من أشهر وأقوى صرخات الأزمنة الحديثة: الصرخة التي عبّر بها الرسام النرويجي مونش عن الشرط الإنساني الحديث والماثلة بقوة ورعب في لوحته المعروفة تحديداً باسم "الصرخة"، والصرخة الأخرى التي تطلقها المرأة الجارّة عربة طفلها على سلالم مدينة أوديسّا جنوبي القرم في واحد من أقسى مشاهد فيلم السوفياتي إيزنشتاين، "الدارعة بوتمكين".
الفن ورعب الإنسان
من المعروف أن ذينك العملين الفنين الكبيرين أوصلا الرعب الإنساني إزاء ما تحمله العصور الحديثة، إلى ذروة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفنون، ومن هنا كان إختيار البريطاني فرانسيس بيكون لمرجعية الصرختين مسبغا إياها – أو حتى مقحما إياها إذا شئتم – على اللوحة الإسانية الكلاسيكية إختياراً يحمل دلالات بالغة القوة من حيث أنه حمّل كل الطاقة الإحتجاجية على ما آلت إليه أوضاع الإنسانية، للوحة وبالتحديد لبورتريه يخص قامة دينية ستبدو هنا وكأنها تحتج بقوة على ذلك الشرط إذ انبعثت من زمنها لترصد زمننا وما يحدث فيه. وتكمن مأثرة بيكون الأساسية هنا في كونه قد نزع عن الشخصية الدينية تلك الثقة التي اتسمت بها في لوحة كلاسيكية من الواضح أنها تأخذ في حسبانها جماهيرية الجلسة الباباوية إنطلاقاً من نظرة الشخص المرسوم المفعمة بالثقة بالنفس وبالناس وبالزمن، لصالح نظرة شخص يبدو أسير جلسته بل أسير عزلة قاتلة تظهره عاجزاً عن تقديم أي عون لإنسانية وصلت إلى هاوية رعب لا سابق له في تاريخ النوع البشري. من الواضح اننا هنا إزاء صرخة تتجاوز أي صراخ رعب آخر في الزمن الحديث.
ذلك الكابوس السعيد
وتلك سمة أساسية من سمات فن فرانسيس بيكون في لوحات قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها تنتمي إلى ذلك «الكابوس السعيد» الذي جرى الحديث عنه دائماً لمناسبة ذكر فيينا بدايات هذا القرن، فهي من الناحية الشكلية قد تبدو شبيهة ببعض أعمال اوسكار كوكوشكا، وقد يرى البعض قرابة ما بين جيمس آنسور وسوتين من جهة، وبين بيكون من جهة ثانية، غير أن هذا ليس إلا للوهلة الأولى، لأن تأملاً دقيقاً لعوالم فرانسيس بيكون ومتابعة متأنية لمساره الفني سيجعلاننا نرى فيه شيئاً مختلفاً تماماً، هذا إذا وضعنا جانباً قوته التقنية، التي تجعل أي لوحة له تبدو أشبه بمتاهة خطوط وألوان تحتاج اكثر من نظرة قبل إدراك ماهيتها متكاملة.
فرانسيس بيكون الذي تحتفل به الحياة الفنية الفرنسية في هذا المعرض الإستعادي الكبير الذي يقام في مركز جورج بومبيدو وسط باريس بعد سبعة عشر عاماً من رحيله عن عالمنا في العام 1992 بفعل أزمة قلبية نتجت عن نوبة ربو ألمت به، بشكل مفاجئ، كان، حين وفاته، لا يزال في قمة عطائه، على الرغم من أنه كان يومها في الثالثة والثمانين من عمره. فهو ولد العام 1909 في دبلن بايرلندا، من والدين انجليزيين. وكان الصبي في الخامسة من عمره حين انتقلت الأسرة لتقيم في لندن، غير أن ذلك لم يمنع فرانسيس وبقية أقرباء الأسرة من التنقل منذ ذلك الحين بين لندن ودبلن، مما جعل وعي الفتى يتفتح على عالمين ثقافيين سوف يتكاملان لديه لاحقاً في 1925 وكان فرانسيس في السادسة عشرة، حصل خلاف عنيف بينه وبين والده دفعه إلى ترك الأسرة بشكل نهائي متخذاً قراره بأن يصنع مستقبله بنفسه وبأن يكون مستقبله فنياً، وكان قد اكتشف الأدب والرسم قبل حين، واطلع بشكل جيد على أعمال الرسامين الألمان والهولنديين. ولقد تلت ذلك ثلاث سنوات (1926 - 1928) تنقل فرانسيس خلالها بين برلين وباريس، حيث اكتشف، إلى جانب الرسم، فن السينما وخاصة لدى بونيال وايزنشتاين، ثم اكتشف السورياليين وأعمال المصور ساندر الفوتوغرافية، ولكن خاصة لوحة «مجزرة الأبرياء» لبوسان التي لن تبرح خياله بعد ذلك أبداً، وستكون واحداً من الأسس التي بنى عليها فن الرسم لديه.
في تلك الآونة كان بيكون قد بدأ يرسم، وكانت لوحاته بدأت تلقى ترحيباً من لدن السورياليين الفرنسيين. وراح يرسم بكثرة ويشارك في معارض جماعية ويرتبط بصداقات مع شعراء رسمهم مثل فيليب سوبو وميشال ليريس، كما مع فلاسفة من أمثال جورج باتاي اكتشفوا الأبعاد الفلسفية للوحاته. لكن بيكون، ورغم إعجاب المثقفين بأعماله، كان لا يفتأ يعبر أزمات خلق مرعبة. ولقد قادته واحدة من تلك الأزمات لأن يدمر كل لوحاته، ما عدا عشر لوحات آثر استبقاءها. وكان ذلك في العام 1941. بعد ذلك بقي بيكون منكباً طوال عشرة أعوام على محاولة العثور على مفتاح جديد لإبداعه، وهكذا توصل في نهاية سنوات الأربعين إلى اكتشاف «قارة تعبيرية جديدة» - حسب تعبيره - هي وجه الإنسان وجسده. ومن هنا كانت تلك السلسلة من اللوحات التي أوصلت شهرة فرانسيس بيكون إلى الذروة طوال النصف الأول من الخمسينات، والتي كان موضوعها الأساسي، وجوه الأشخاص. وكان يرى أن أفضل الوجوه التي يمكن له أن يرسمها إنما هي وجوه الشعراء والفلاسفة، وهكذا راح يرسم أصدقاءه في لوحات، كان يقول إن مثله الأعلى في رسمها كان الصرخة العنيفة التي تطلقها تلك المرأة على سلالم أوديسا «الدارعة بو تمكين» لسيرغي ايزنشتاين.
وهنا لمناسبة معرض بيكون الجديد في العاصمة الفرنسية لا بد أن نذكّر أنه في العام 1957 أقيم أول معرض استرجاعي للوحات فرانسيس بيكون في باريس وكان رد الفعل عليه محبذاً، خاصة وأنه كان - بالنسبة إلى النقاد - مفتاحاً لعودة الفن البريطاني إلى الساحة بعد غياب، على الرغم من أن بيكون اعتبر نفسه، دائماً، أوروبياً قاريّاً، أكثر منه بريطانياً. بعد باريس، كان دور الولايات المتحدة لتكتشف اعمال بيكون في 1963. أما باريس فلقد عادت وخصته بمعرض شامل لأعماله في «الغران باليه» (القصر الكبير) أدخله مباشرة عالم كبار «كلاسيكيي القرن العشرين» ومنذ ذلك الحين وحتى وفاته في 1992، ظل فرانسيس بيكون بمثابة الإبن المدلل للحركة التشكيلية في العالم، وصارت لوحاته من أشهر ما رسمه فنان بريطاني خلال القرن العشرين، إذا استثنينا أعمال زميله ديفيد هوكني، البريطاني الآخر الذي لم يقل عنه شهرة وأهمية في قرننا العشرين هذا.