Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"كوخ العم توم" لتيكس آفري: ضد الأفكار الراسخة

الرسوم المتحركة تسخر من أعظم روايات القرن التاسع عشر

من مشاهد "كوخ العم توم"

قد تبدو رواية المدرّسة الأميركية هارييت بيتشر ستو "كوخ العم توم" منسية بعض الشيء في أيامنا هذه، لكننا نعرف أنها كانت الرواية الأشهر في القرن التاسع عشر، وبالتحديد الرواية التي إذ باعت 300 ألف نسخة خلال عام واحد من صدورها في الولايات المتحدة، مقابل مليون نسخة في إنجلترا، نُظر إليه بوصفها أعظم روايات العالم في ذلك الحين، وثاني أنجح الكتب بعد الكتاب المقدس. بل اعتبرت أيضا الرواية التي "تسببت في اندلاع الحرب الأهلية الأميركية" بين الشمال المتقدم والصناعي الذي كان يعمل على إلغاء عبودية السود، والجنوب الزراعي المتخلف الذي يسعى إلى الإبقاء على العبودية. ونعرف أن أساطير كثيرة حيكت من حول الرواية من أظرفها تلك التي تحكي أن إبراهام لنكولن صرخ ما إن رأى الكاتبة: "إذا أنت أيتها المرأة الصغيرة من فعل هذا كله!!؟"

بين السياسة وفعل الخير

لن نعود هنا إلى تفاصيل ما تحكيه الرواية التي أهم ما فيها هو وقوفها بقوة ضد الإستعباد، لكننا سنشير إلى أنها تحولت في حينه بسرعة لتصبح "كتاًبا وطنياً" وضرورة في كل بيت، حتى وإن كان النقاد سوف يمعنون في تحطيمها لاحقاً واصفين حكاية انعتاق "العم توم" من العبودية وتحوّله إلى حكيم متمرس وفاعل خير وبالتالي إلى ذلك "الكليشيه" الذي سيسود لاحقا في الآداب والفنون الأميركية، بأنها "ميلودراما عاطفية ساذجة" و"تلعب على وتر العواطف والنوايا الطيبة" أكثر بكثير مما تلعب على وتر السياسة الحقيقية المحرّضة على الوعي والتفكير. والحقيقة أن قراءتنا اليوم لهذه الرواية، التي تُرجمت إلى لغات كثيرة، تجعلنا منضمّين إلى أصحاب هذا الرأي مكتشفين تبسيطية هذه الحكاية التي يختلط فيها البيض بالسود والبيض الطيبون بالبيض الأشرار وتكون كلمة الفصل فيها دائماً للمواقف الحكيمة الإنسانية التي يسهل تسجيلها على الورق لكنها تبدو بعيدة عن واقع الحياة. غير أن هذا ينبغي ألا ينسينا أن الرواية كُتبت قبل نحو قرن وثلاثة أرباع القرن لتنشر في جزأين في العام 1852، وبالتالي لن يكون من الإنصاف الحكم عليها بوعي زماننا هذا.

مهما يكن من أمر، ما نود الإشارة إليه هنا هو أن الفنون والآداب لم يفتها أن تستفيد من تلك الحكاية وأبطالها، من العم توم نفسه إلى آل شيلبي البيض الذين تُفتتح الرواية بهم وهم "مضطرون" لبيع عبيدهم إلى تجار الرقيق على مضض بسبب تدهور أوضاعهم الإقتصادية... ثم المسيرة الحياتية المدرّة للدموع أحيانا والمحرّكة للابتسام في أحيان أخرى، لمجموعة من شخصيات نتابع حياتها تترى أمامنا. ومن هنا نجد السينما الأميركية تشتغل على اقتباسات للرواية بدءاً من بدايات السينما الصامتة، على يد الرائد إدوين إس بورتر، ثم تباعاً على يد آخرين في السينما الصامتة ثم الناطقة، في وقت كان المسرح يغزو بعض أجزائها محوّلا إياها إلى أعمال للخشبة. فيما يسعى كثر إلى كتابة أعمال مشابهة غالباً ما تركز على أن المسيحية نفسها تنعى عن الإستعباد ما حوّل القضية إلى قضية إنسانية بحت. وبالتواكب مع ذلك، كان النقاد وطوال عقود، يتوزعون بين مؤيدين ومعارضين إلى درجة أن جورج أورويل وصف الرواية بأنها "أفضل كتاب سيء في تاريخ الأدب".

هذا الفنان اللئيم الساخر

ومن بين الفنانين السينمائيين الذين انكبوا على "كوخ العم توم" يمكن التوقف خاصة عند تيكس (فرد) آفري الذي قدّم لها، إنما بالرسوم المتحركة، واحداً من أعنف الإقتباسات وأكثرها سخرية. حيث نجده في شريطه القصير يسخر من الشخصيات الأصلية وما فيها من عواطف "رخيصة" في معرض سخريته من الفنون التي تتناول مسألة السود والعبودية باعتبارها تشتغل على نزعة دينية لا على نزعة إجتماعية، مركّزاً على الكيفية التي بها تُقدّم الشخصيات ساذجة وكأنها أعضاء في جيش السلام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد هوجم فيلم آفري بشدة وانتفضت ضده روابط فاعلي الخير، بل حتى الجمعيات اليمينية التي اعتادت أن تقف ضد تحرير العبيد، باعتبار أنه وجد "التحرير الذي تتحدث عنه الرواية" كـ"برّ وإحسان وليس فعلاً إجتماعياً إنسانيا". لكن آفري لم يعبأ بتلك المواقف بل واصل عمله على هذا النوع من السينما التخريبية التحريضية هو الذي عُرف دائما بوصفه "المتمرد الهوليوودي" الذي عمل على ترسيخ القيم المضادة جاعلاً من فن الرسوم المتحركة بألوانه الممتعة الموجهة للأطفال فناً يقول كلام الضد. ومن هنا كان تشبيهه بكافكا خاصة أن عوالمه السوريالية والعبثية وسخريته المرة وبخاصة تحويله للشخصيات المعروفة لتقول في أفلامه غير ما تريد قوله في العادة ما جعله فناناً ملعوناً وجعل إسمه يرتبط بأنواع من أفلام الرسوم المتحركة تحاول الأستديوهات أن تهرب منها قدر الإمكان.

صحيح أن هذا قد عرقل مسار آفري المهني وقلّل من شعبيته لدى عموم المتفرجين، لكنه في الوقت نفسه حوله إلى واحدة من أساطير هوليوود الكبيرة. ومن الواضح أن فيلمه المقتبس عن "كوخ العم توم" لعب دوراً كبيراً في هذا، هو الذي ظهر في نفس الفترة التي ظهر فيها واحد من أشهر أفلام والت ديزني، "بلانش نيج" (بياض  الثلج) ما جعل المقارنة، لدى النخبة على الأقل، سهلة بين مبدع يشتغل بشكل تقليدي ويرفّه عن الناس، ومبدع آخر يشتغل بشكل متمرد وهمّه الأساس أن يدفع متفرجيه إلى التفكير محطماً الأساطير، ساخراً من الأفكار الراسخة. وحسبنا أن نذكر هنا، إلى جانب هذا "الفضح الوقح" للأساطير التي حيكت من "حول قضية السود والعبودية" كما في الفيلم الذي نحن في صدده هنا، عملين كبيرين آخرين له، هما "سندريللا" الذي إشتغل فيه إنطلاقاً من قضية الشبق الجنسي التي تجاهلها دائماً متناولو الحكاية فيما إشتغل عليها علماء نفسيون من أمثال برونو بتلهايم، أو شخصية "ذات القبعة الحمراء" (ليلى والذئب) التي ركز في فيلمه المقتبس عنها على قضية "الإنحراف الجنسي". بهذا الإشتغال على نسف الأساطير وإخراجها من فضاء الطفولة البريء والساحر، جعل تيكس آفري من فنه فناً آخراً يحاول أن يقرأ بين سطور الحكايات والشخصيات التي يتناولها لا في سطح الأمور. وهذا تحديدا ما فعله في تناوله لـ"كوخ العم توم".

ولد تيكس آفري في ولاية تكساس الأميركية في العام 1907 وهو منذ صباه بدأ يهتم بقضية ارتباط الشخصية الأميركية بالحلم الأميركي، حين كان يبدو عليه أنه يعيش في عزلة عن الناس بينما كان في حقيقة أمره يرصد حياة الناس المحيطين به دارساً أخلاقياتهم وذهنياتهم ليجعل من ذلك مادة تكوينه الفكري الخاص الذي سنجد آثاره ماثلة لاحقاً في اختياراته حين تحول، وحتى قبل أن يشتغل في الصور المتحركة في هوليوود، إلى فن الشرائط المصورة وراح باكراً يشتغل على الحكايات القديمة مثل "خرافات إيزوب" محولاً إياها إلى صفحات مرسومة تتغلغل إلى قلب الحكاية لتقوّلها ما لم يكن يبدو أنها تريد قوله في بداية الأمر. ولقد كان نجاحه النخبوي طريقه إلى السينما حيث راح يطبق ذلك الأسلوب على أعمال راحت بالتدريج تلفت الأنظار اليه قاسمة متفرجيه إلى مؤيدين ومعارضين على عكس ما يحدث عادة في عالم الرسوم المتحركة حيث دائماً ما يكون ثمة توع من إجماع يتعاطف مع الأعمال معتبراً إياها محايدة طيّبة كريمة الأخلاق. وهو كله ما كان تيكس لآفري يسخر منه معتبرا أن الفن وحريته وقدرته على الإنتقاد، إن لم يكن على التدمير، هو الأخلاق الحقيقية وذلكم هو، في رأيه الدور الحقيقي، إن لم يكن الوحيد، للفن. ومن نافل القول أن تيكس آفري قد دفع غالياً ثمن نظرياته تلك، وعلى الأقل بالمقارنة مع المصير الذهبي الذي كان لوالت ديزني المعتبر دائما نقيضه الأساسي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة