Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المجتمع المفتوح وأعداؤه" لكارل بوبر: هؤلاء ضد الإنسان

"لست نبيّا ولا باني أنظمة بل آخر فلاسفة التنوير"!

كارل بوبر

"هذا الكتاب دفاع قوي وعميق عن الليبرالية". هذه العبارة التي سُجّلت للمفكر برتراند راسل عقب صدور كتاب المفكر النمساوي الأصل كارل بوبر "المجتمع المفتوح وأعداؤه" في العام 1945، كانت كافية لتعم في العالم الغربي شهرة ذلك الكاتب الذي كان منزوياً حينها يدرّس في إحدى جامعات نيوزيلندا بعيداً عن أضواء الحياة الثقافية الأوروبية. في ذلك الحين كان راسل سلطة فكرية معنوية كبيرة فيما كان بوبر مجرد باحث جامعي يحاول أن يعثر على مكانته ويتابع خوض معركة أيديولوجية قاسية. والحال أنه منذ صدور الكتاب في جزأيه، لم تعد معركة بوبر صعبة خاصة أن نذر الحرب الباردة كانت تلوح في الأفق بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، ولسوف يكون كتاب بوبر سلاحاً ماضياً في تلك الحرب حتى وإن لم يكن، لا هو ولا غيره، يتوقعون تلك المكانة أو الوظيفة لكتاب علمي يحاول أن ينصر ما أسماه "المجتمع المفتوح" – وإقرأ هنا: المجتمع الليبرالي الغربي – على ثلاثة على الأقل من "أعدائه"، أفلاطون، هيغل وكارل ماركس. فما كانت التهمة التي وجهها بوبر إلى الثلاثة معاً؟ بكل بساطة، النزعة التاريخانية التي تسم كتاباتهم متحدّرةً من حتمية تاريخية يرى بوبر أنها تحوّل الإنسان الفرد إلى آلة تلعب بها أقدار تخرج عن إرادة الأفراد.

ذنب لا يُغتفر

بالنسبة إلى بوبر كان الذنب الفكري الذي اقترفه أفلاطون، على الضد تماماً من رؤى أستاذه سقراط، النظر إلى حركة التاريخ باعتبارها تخضع لقوانين حديدية أراد أن يخضع الإنسان لها. ومن هنا حمل الجزء الأول من الكتاب عنواناً فصيحاً هو "سحر أفلاطون"، حيث أن بوبر يكرس صفحات الجزء كله للحديث عن "الإنبهار" بأفلاطون الذي كان منذ العصور الإغريقية رائجاً. وبوبر، على الضد من كل الباحثين الجديين في فكر أفلاطون، أراد أن يُظهر "الجوانب الخفية" في المتن الأفلاطوني الحواري الذي فيه "إختبأ أفلاطون خلف عباءة أستاذه لينشر ويؤيد أفكاراً شمولية سيتلقفها من بعده مفكرون كبار، سيمارس كل منهم نفس الإبهار بنفس اللجوء إلى سحر الخطاب معززين من النزعة الشمولية التي تستند دائما إلى النزعة التاريخانية الحديدية غير تاركة للفرد أيّ دور يلعبه لا في مصيره ولا في مصير العالم".

وهكذا إذ "يصفّي كارل بوبر حسابه مع أفلاطون، ولا سيما مع أفلاطون كتاب "الجمهورية" حيث "لا يتورع فيلسوف الفكر اليوناني الكبير عن تصوير سقراط وكأنه منافح عن التوتاليتارية"، ينتقل في الجزء الثاني من الكتاب – وعنوانه "الجزر العالي للنبوءة: هيغل، ماركس وما بعدهما" - إلى من يعتبرهما "تلميذي أفلاطون الكبيرين في العصور الأكثر حداثة". وهنا نجده يسدد لهيغل تلك "الضربة القاضية" التي تجعله يصف فيلسوف المنطق الكبير بـ"النصاب صاحب الفكر والرأس المسطحين" معتبراً إياه بتاريخيته، المؤسّس الأكبر للتوتاليتارية في العصور الحديثة حيث حتى ماركس سيبدو بالمقارنة معه إنسانيَّ النزعة هو الذي "رغم جموده الفكري دافع على الأقل عن المضطهدين في العالم غير مكتف بالثرثرة إنطلاقا من برج عاجي". لكن هذه الكلام إذ يأتي فقط انطلاقاً من رغبة بوبر في الحطّ من شأن هيغل، لا يعني أن لماركس شفعة حقيقية لديه. فهو "لا يقل عن أستاذيه الكبيرين تاريخانية ومساهمة في وضع القوانين التاريخية في وجه إنسانية الإنسان منكراً على هذا الأخير أي هامش للمناورة"!

وضع بوبر هذا الكتاب خلال سنوات الحرب العالمية الثانية لينشره في أوروبا ما إن انقضت الحرب غير دار بأنه سيكون، إلى جانب روايات لجورج أورويل وألدوس هاكسلي وشهادات لأندريه جيد وأبحاث معمقة لهانّا آرندت، أسلحة فعالة في الحرب الباردة. غير أن الكتاب يبدو لنا في النهاية جديراً بنظرات أخرى تبعده من الصراع الأيديولوجي، ولا سيما إنطلاقاً من دفاعه عن الوعي والمعرفة الإنسانيين ودورهما في صناعة تاريخ وصياغة قوانين له يفلت وتفلت معه من إسار الحتمية المرسومة مرة وإلى الأبد "كما يدّعي أعداء المجتمع المفتوح"...

والحقيقة أن هذه الفكرة التي تهيمن على فكر بوبر على الدوام لتجد أوجها وتحليلها المنطقي في «المجتمع المفتوح وأعداؤه» الذي اعتبر على الدوام واحداً من أفضل الردود على نظريات التقدم التاريخاني، وجعل لكارل بوبر شهرة كبيرة بوصفه مفكراً ليبرالياً ذا نزعة إنسانية. هو الذي وصل عبر نقده لثلاثي أفلاطون - هيغل - ماركس إلى نبذ فكرة الحتمية التاريخية مبرهناً على أن مستقبل الإنسان بين يديه، وأنه لا توجد أية قوانين مسبقة تحكم ذلك المصير.

حياة علمية حافلة

وكارل بوبر، الذي رحل عن عالمنا في العام 1994 عن عمر يناهز الثانية والتسعين، نمساوي الأصل، ولد في فيينا، وبدأ حياته الفكرية مهتماً بأينشتاين وماركس، كما بفرويد وآدلر، ثم بدأ يصيغ أفكاره الرئيسية حول ما كان يعتبره فارقاً جذرياً بين العلم الحقيقي والعلم الكاذب، حيث برهن، كما يقول محبذوه، على أن علم الفلك والسيكولوجيا الفرويدية والماركسية ليست سوى علوم كاذبة، لأنها تختلف عن علوم حقيقية مثل علم الفضاء والسيكولوجيا التجريبية. وإضافة إلى هذا، برهن بوبر باكراً على الفشل الحتمي لكل المجتمعات المؤطرة سياسياً بشكل نظري مسبق. وبرأي بوبر فإن ما يميز العلم الحقيقي هو أن بإمكاننا ضمن إطاره أن نقيم التجارب التي تصل إلى رفض النظريات غير الصحيحة، طالما أن العلم صحيح وحسابي أما النظريات كافة التي تقف خارج العلم فإنه من غير الممكن البرهنة على صحتها أو على خطئها وذلك لمجرد أنها غير دقيقة وغير حسابية. فالعلم يمكنه أن يقول لنا بكل دقة، المدى الزمني الذي يحتاجه صاروخ للوصول إلى القمر. أما من ناحية الاقتصاد فإن هذا العلم لا يمكنه أن يقول لنا متى يزيد التضخم أو ينقص، بصورة محددة، والماركسية لا يمكنها أن تقول لنا متى يبدأ حكم البروليتاريا حقاً.

بمثل هذا النوع من الأفكار «غزا» كارل بوبر الحلقات الثقافية في لندن، لا سيما حين حيّاه برتراند راسل. وفي لندن واعتباراً من 1945 بنى كارل بوبر لنفسه حياة جديدة، هو الذي كان قد قطع مع «حلقة فيينا» منذ أواخر سنوات الثلاثين ثم اختلف مع زملائه من منظري الوضعية المنطقية حين وضع كتابه «منطق الاكتشاف العلمي» (1934)، والذي كان بعد مبارحته فيينا قد توجه إلى نيوزيلندا حيث عاش حتى 1945 وعلّم في جامعتها.

إذن في 1945 عُيّن بوبر مدرّساً في جامعة لندن، ثم ترأس «الجمعية البريطانية لفلسفة العلوم» وأصدر العديد من الكتب وألقى محاضرات في الولايات المتحدة حيث استُقبل على الدوام بوصفه أحد ممثلي الليبرالية المحافظة. أما هو، فكان يعتبر نفسه فيلسوف أنوار حقيقي حسب ما يروي الباحث الفرنسي غي سورمان - من آخر الذين كتبوا عنه، بعد أن التقاه في لندن قبل فترة يسيرة على رحيله. فـ «من دون تواضع أو خيلاء، أنا الأخير بين فلاسفة الأنوار: لست باني أنظمة، ولا نبياً، لكني رجل ارتبطت طوال حياتي بحل المشكلات. إنني أعتبر نفسي منتمياً إلى تقاليد كانط وفولتير، اللذين كانا يخضعان للتفحص العقلي كل ما يتعلق بالفلسفة كما بالرياضات والعلوم الطبيعية». أما ماركس، فظل بوبر يقول عنه، حتى أيامه الأخيرة، إنه «مع هيغل، أسس لعصورنا الحديثة، عبادة الأفكار المجردة: دين الدولة والأمة، والبروليتاريا. ولقد كانت نجاحات أفكاره من المباغتة بحيث حالت دون متبنيها والتفكير فيها. كانت نجاحات جعلت أصحاب العقول الساذجة يعتقدون أن بإمكانهم أن يفهموا العالم إن هم رددوا عبارات طقوسية ذات مظاهر علمية غامضة».

المزيد من