Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خطط إيران الانتقامية ربما أكبر من هجومها الصاروخي

طهران تتبنى سياسة محفوفة بالمخاطر مع واشنطن

شموع ومجسم صغير لسليماني على احد ارصفة طهران (غيتي)

بينما ينقشع الدخان من بغداد وقاعدة عين الأسد وأربيل التي كانت جميعها مسرحاً للعنف أدى إلى قتل الأميركيين قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني ورد إيراني بصواريخ سببت أضراراً مادية محدودة في قواعد يقيم بها أميركيون، فإن مسؤولين في الاستخبارات الأميركية يتحسّبون أن تكون الهجمات الصاروخية الإيرانية الصاخبة التي وصفها وزير خارجية إيران بأنها "تدبير متناسب" ليست سوى مجرد بداية، كما تشير التجارب التاريخية في الصراع بين البلدين إلى أن تتضاءل الخيارات المتاحة بشكل خطير.

يتفق محللون استراتيجيون ومسؤولون استخباراتيون في الولايات المتحدة على أن فهم السياق الأوسع للصراع الإيراني الأميركي مهم للغاية، كي يكشف عن الاحتمالات المتوقعة لما سيحدث خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.

الطريق المسدود

فبعد تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران إلى مستويات غير مسبوقة، وتعهّد الرئيس الأميركي دونالد ترمب باستمرار العقوبات التي دمرت الاقتصاد الإيراني وأشعلت احتجاجات شعبية عارمة ضد نظام الحكم، بدا أن استراتيجية ترمب أقنعت إيران بأن المسار العسكري أيضاً مع واشنطن هو طريق مسدود، يدخل مع غيره في إطار سياسة الضغوط القصوى وهو ما يفسر سبب الضربات الصاروخية الإيرانية المتناثرة التي لم تصب أحداً، ولم تحدث سوى خسائر مادية محدودة، بما جنّب طهران الدخول في حرب مع الولايات المتحدة.

لكن حتى لو دخلت أميركا وإيران في مرحلة مؤقتة من الهدوء، فإن هناك اتفاقاً بين المحللين الاستراتيجيين والمسؤولين الاستخباراتيين في واشنطن على أن تداعيات ما حدث لم تنته بعد، لأن الصراع ما زال مستمراً ولم يُحلّ من جذوره، كما أن الضربة التي قتلت قاسم سليماني، سيتردّد صداها في الشرق الأوسط على مدى سنوات وربما لعقود أخرى مقبلة، ومن المرجح أن تعمد إيران إلى استخدام الاستراتيجية ذاتها التي أرساها سليماني نفسه للانتقام من مقتله خلال الفترة المقبلة.

خيارات تتضاءل

يقول وليام توبي، أستاذ الشؤون الدولية في جامعة هارفارد الأميركية، إن التظاهرات الضخمة ضد النظام الإيراني بسبب المصاعب الاقتصادية، التي يتعهّد ترمب بفرض المزيد منها، لم تترك أمام طهران سوى خيارات قليلة دفعتها إلى النزوع أكثر إلى الأعمال العسكرية والميليشياوية بعدما فشلت الجهود الدبلوماسية والاقتصادية في حلحلة الأزمة.

ويشير الخبير الأميركي إلى النظريات السياسية التي تقول إن الدول التي تشعر باعتداء، تصبح أكثر تعايشاً مع المخاطر، وهو ما ينمّي الإحساس بأن الأمور أصبحت سيئة بالفعل، ما يجعل المخاطر التالية لها أقل صعوبة، ولهذا قد ينتهي الإيرانيون في سعيهم لتلبية ضرورات سياسية، إلى أنه لم يعد لديهم خيار آخر سوى التصرف، بغض النظر عن الأثمان التي تترتب على ذلك، وهو منطق تؤمن به الأنظمة الاستبدادية.

استراتيجيات الخطر

وحسب هذا التحليل، فإن إيران قد تصبح أكثر استعداداً لتبني استراتيجيات وتكتيكات محفوفة بالمخاطر خلال الفترة المقبلة، بخاصة إذا استمر نشاط فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني من دون عوائق.

وتقول مجلة "فورين بوليسي" الأميركية إنه يجب أن يُنظر إلى الهجمات الصاروخية الإيرانية على القاعدتين العسكريتين في العراق على أنه تكتيك وليس لأن الإيرانيين يكرهون قتل الأميركيين. ففي النهاية، تعرف إيران حدودها وهي ليست مستعدة لحرب واسعة النطاق مع الولايات المتحدة.  

عواقب نووية

وبينما لم تعد أمام ترمب خيارات أخرى سوى تشديد العقوبات، إلاّ أنّه في أول تعقيب له على الهجمات الإيرانية، أكد بشكل صارم أنه لن يسمح بامتلاك إيران لقنابل نووية، وهي إشارة واضحة لطهران أن أي إجراء تصعيدي تتّخذه في المسار النووي سيتجاوز الخطوط الحمراء ويُعدُّ عملاً استفزازياً يدفع إلى اتخاذ الولايات المتحدة قراراً بعمل عسكري ضد منشآتها النووية.

وحتى قبل جولة العنف الأخيرة، خرقت طهران غالبية الحدود المتفق عليها في البرنامج النووي وإن كان ذلك بكميات متواضعة، كرد فعل مباشر على العقوبات الاقتصادية الأميركية، لكن بعد قتل سليماني، أعلنت تخليها عن جميع حدود تخصيب اليورانيوم، لكنها أوضحت أنها ستواصل التعاون مع إجراءات التحقق التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما يجعل الولايات المتحدة والدول الموقعة على الاتفاق النووي الإيراني على علم كامل بما يجري في البرنامج.

وفي حين لا ترغب واشنطن وطهران في اندلاع حرب بينهما، إلاّ أنّ الحقائق المُلحة تدفع العاصمتين إلى تقليص خياراتهما، مما يزيد على المخاطر بانفلات الأمور، طالما بقيت قضيتا العقوبات الاقتصادية والملف النووي قائمتين، لكن الأكثر ترجيحاً في ظل استمرار الضغوط الأميركية القصوى، أن تسعى إيران إلى استخدام أساليب قاسم سليماني للانتقام الفعلي لمقتله من دون أن تُضطَّر للاعتراف بهذه العمليات. وفي الوقت ذاته، تضغط على الرئيس الأميركي من أجل إحداث انفراجة في الأزمة، وهي سياسة خطرة جداً قد تجلب لها المزيد من المشاكل، حسب تأكيدات عددٍ كبيرٍ من المسؤولين الأميركيين.

ليست روسيا أو الصين

يخشى المسؤولون الأميركيون من أن عمليات القتل التي أسسها قاسم سليماني ستتواصل بلا انقطاع، لأن فيلق القدس الذي قاده ويُعدُّ بمثابة جهاز استخبارات قوي داخل الحرس الثوري الإيراني وجناح العمل السري فيه، هو الذي شَكَّل الجماعات الشيعية المتطرفة في لبنان والعراق واليمن وسوريا وأفغانستان وأماكن أخرى حول العالم، ما جعل إيران نموذجاً مختلفاً عن روسيا والصين.

لقد أدرك سليماني منذ البداية، عدم قدرة بلاده على تحدي الولايات المتحدة، ولهذا، كان عليه الاستعداد للحرب بطرق مختلفة، فأسس ما تظن إيران أنه سيردع أي هجوم أميركي مباشر، عبر دعم الجماعات الوكيلة لها مثل حزب الله اللبناني ودعم طهران لأعمال العنف التي لا ترتفع إلى مستوى الحرب ولا تؤدي إلى نشوبها.

وهكذا تمكّن هذا البرنامج الإيراني عبر وكلائه من زرع القنابل على جانبَيْ الطريق لقتل الجنود الأميركيين في العراق عقب الغزو الأميركي، وتفجير حافلات سياحية وبعثات دبلوماسية وغيرها من أعمال العنف والإرهاب، ما أثبت أن إيران كدولة يمكن أن تتخلى عن الوسائل التقليدية في مواجهة قوى أخرى، ولكنها في الوقت ذاته، تؤكد نفوذها خارج حدودها.

الشيطان الذي تعرفه

وبهذه الوسائل، سيمارس النظام الإيراني انتقامه لمقتل سليماني، إذ يدرك مسؤولون في وزارة الدفاع الأميركية وأجهزة الاستخبارات أن اغتيال قائد عسكري كبير من شأنه أن يُعرّض الأميركيين إلى انتقام قاتل من الإيرانيين ووكلائهم مثل حزب الله الذي يمتد نشاطه إلى أميركا الجنوبية وجنوب شرقي آسيا، وشرق أوروبا. ويشير مسؤول بارز في الاستخبارات الأميركية إلى أن واشنطن تدرك تداعيات مقتل سليماني، إلاّ أنّه من الصعب معرفة الخطوط التي تحدّد المواجهة مع طهران، قائلاً: "الشيطان الذي تعرفه، أفضل من الشيطان الذي لا تعرفه".

ووفقاً لتقديرات أجهزة استخباراتية أميركية، فإن الإيرانيين تمكنوا من بناء شبكة تجسس إقليمية واسعة في عددٍ كبيرٍ من البلدان في الشرق الأوسط، ما يتيح لفيلق القدس تنفيذ عمليات سرية وأعمال إرهابية في نقاط عدّة.

الانتقام المقبل

إضافةً إلى الصواريخ الإيرانية المتفرقة التي لم تُصِب أحداً يوم الثلاثاء والتي بدا أنه لا مناص من إطلاقها، فإن مارك بوليميروبولس، المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية يقول إنه ليس هناك شك في أن الولايات المتحدة ستتلقى ضربات انتقامية حول العالم في وقت ومكان تختارهما إيران، وهو ما يتوقعه أيضاً مايكل موريل، القائم بأعمال وكالة الاستخبارات المركزية سابقاً، إذ رجّح في حديثه لشبكة "سي بي إس" الأميركية أنه سيكون هناك ضحايا أميركيون ومدنيون.

ويشير هؤلاء إلى أن إيران ظلت تستعد منذ عقود لصراع غير متكافئ مع الولايات المتحدة من دون مواجهة مباشرة، وذلك تحسباً لهجمات أميركية ممكنة ضد منشآتها النووية، أو كرد فعل على هجوم أميركي ضد النظام الإيراني نفسه.

رصد عملاء إيران

رصد مسؤولون أميركيون نشاطاً للاستخبارات الإيرانية ولعملاء حزب الله اللبناني حول المنشآت الدبلوماسية والمراكز الثقافية والقواعد العسكرية الأميركية خلال سنوات التسعينيات، كما رصد العملاء الإيرانيون مسؤولين أميركيين في الخارج للقيام بعمليات اغتيال محتملة حسب تقارير استخباراتية أميركية. وعام 2013، سارع مسؤولون في الولايات المتحدة إلى وقف ما يعتقدون أنها خطط وشيكة من مسؤولين في الاستخبارات الإيرانية لتنفيذ اغتيالات في أوروبا لمسؤولين استخباراتيين في وزارة الدفاع الأميركية.

ويعتقد المسؤولون نفسهم أن المعلومات التي جعلت الإيرانيين يتعرفون على المسؤولين الأميركيين وفّرتها لهم ضابطة سابقة في مخابرات سلاح الجو الأميركي تُدعى مونيكا ويت التي هربت إلى إيران في 2013.

ويرجح دوغلاس وايت، نائب مدير وكالة استخبارات الدفاع الأميركية أن مونيكا ويت ربما تزوّد الإيرانيين في هذا التوقيت بمعلومات مهمة عن توقعاتها حول الخطوات التي يمكن أن تنتهجها الحكومة الأميركية للدفاع عن نفسها ضد الهجمات الإيرانية المحتملة حول العالم.

سياسة الانتظار

وحتى لا تتلقى إيران ضربة عسكرية انتقامية أميركية في الوقت الراهن، فإنّها قد تتريّث قليلاً وتركز لاحقاً على أهداف ذات أهمية أقل تأثيراً، ربّما تشمل منشآت أو أشخاص أميركيين في الخارج أو مسؤولين سابقين مثل تدبير تفجير ينفذه مجهولون ضد بعثات دبلوماسية أميركية في أميركا اللاتينية أو جنوب شرقي آسيا أو استهداف ضباط استخباراتيين أميركيين يعملون متخفين تحت غطاء دبلوماسي وتكون هوياتهم معروفة للإيرانيين أو لحزب الله.

وصفة سليماني

مثل هذه الأعمال الإرهابية ستكون مطابقة للطريقة التي كان سليماني ينفذها في السابق، بمعنى أن تتوفر لإيران القدرة على استهداف مصالح أميركية، ثم تنكر المسؤولية عن هذه الهجمات.

وإذا اتّسعت دائرة الصراع، فإن بعض المسؤولين الاستخباراتيين الأميركيين يتوقعون أن تختار إيران أو حزب الله توجيه ضربات داخل الولايات المتحدة، بعدما أظهرت إيران رغبة في تجاوز الخط الأحمر عام 2011 حين كشفت أجهزة الأمن الأميركية مؤامرة دبّرها فيلق القدس لاغتيال السفير السعودي في واشنطن عبر تفجير مطعم شهير في ضاحية جورج تاون بالعاصمة.

خلايا نائمة

يقول زاك دورفمان، الباحث في معهد إسبن الأميركي إن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي ربما يتطلّع إلى أهداف عدّة مناسبة للرد على مقتل سليماني وإن إيران ووكلاءها وضعوا خططاً للطوارئ، منها تحريك خلايا نائمة لشن هجمات محتملة على أهداف سهلة داخل الولايات المتحدة الأميركية، وينبع ذلك التوقع من شواهد لوحظت العام الماضي حين أقرّ إيرانيان بأنهما عميلان للاستخبارات الإيرانية وراقب أحدهما مركزاً يهودياً في شيكاغو، كما جمعا معلومات عن منشقين إيرانيين في الولايات المتحدة.

وفي قضية أخرى، دينَ العام الماضي 2019 شاب أميركي لبناني يُدعى علي كوراني بتهمة العمل لحساب حزب الله في نيويورك وجمع معلومات عن منشآت حكومية محلية وعن مطار جون إف كينيدي الدولي.

وتكشف وثائق المحكمة في قضية كوراني على وجه الخصوص عن نظرة إيران وحزب الله تجاه المستقبل، إذ أبلغ مسؤولون في حزب الله الشاب كوراني بالبحث عن جنود إسرائيليين حاليين أو سابقين يعيشون في نيويورك من أجل تنفيذ اغتيالات محتملة.

وقال كوراني أمام المحكمة إن العملية كانت ستكون انتقاماً من قتل إسرائيل عماد مغنية، المسؤول البارز في حزب الله الذي اغتالته إسرائيل قبل هذا الموعد بعامين.

لهذا، تظل كل الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها أمام إمكانية تصاعد دائرة العنف، لكن الأمر سيتوقف في النهاية على رغبة أطراف الصراع في إشعالها أو إطفائها.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات