Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمود درويش العائد في نصوص شبه مجهولة... شاعر النثر العالي

حسن خضر جمع منسيات مجلة "اليوم السابع"... في عقد الثمانينيات

الشاعر محمود درويش (أ.ف.ب)

يلقي كتاب "مقالات اليوم السابع" الذي يضم مجموعة من مقالات للشاعر محمود درويش كان قد نشرها في مجلة "اليوم السابع" الفلسطينية، ضوءاً على مساره السياسي ومواقفه إزاء قضايا مهمة وإشكالية برزت في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي. وكان هو دأب على كتابة هذه المقالات في المجلة الأسبوعية التي صدرت في باريس ثم احتجبت لاحقاً، وظلت مقالاته السياسية خصوصاً، طيّ أرشيفها، ما خلا بضع قصائد وبضعة نصوص اختارها هو بنفسه ونشرها في بعض دواوينه وكتبه. فهو كان حيناً تلو حين، ينشر في المجلة، عطفاً على المقالات السياسية، قصائد ونصوصاً نثرية ذات طابع وجداني أو شعري أو تأملي، تندرج في سياق أعماله النثرية التي كان لها حضورها المميز داخل تجربته الشاملة، ولم تبد أنها كتبت على هامش الشعر، وفي استراحة الشاعر، بل إن بعضها ذروة الإبداع النثري.

هذه المقالات والنصوص لم يكن لها أن تلتئم وتصدر في كتاب (مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2019) لولا الجهد الكبير الذي بذله الكاتب والناقد الفلسطيني حسن خضر بغية اختيارها وجمعها وتحريرها، ووضع لها مقدمة شاملة وضافية، هي خير مدخل إلى قراءتها وخير مرجع للوقوف على حوافزها وظروفها، سياسياً وتاريخياً. فقراءة المقالات تفترض إلماماً بما طرأ من تحولات في صلب القضية الفلسطينية في مرحلة الثمانينيات، وما نجم عنها من مواقف عامة وفردية، تختلف في ما بينها أو تتفق. وبدت مقدمة خضر رصينة ومنهجية، تعلّق وتشرح وتحلل، وهو أحد النقاد العارفين القلائل بمسار درويش وإبداعه وسيرته، وكان تولى تحرير مجلة "الكرمل" وأصدر أعداداً منها بُعيد غياب الشاعر، قبل أن تتوقف.

وزّع خضر المقالات في ثلاثة أجزاء هي: "فضاء الآخر" وضم مقالات صرف سياسية، و"كتاب المراثي" وحوى ما كتب الشاعر من مراثي في مبدعين فلسطينيين وعرب من مثل: الشاعر معين بسيسو والمفكر اللبناني حسين مروة الذي اغتيل في شيخوخته، الفنان عاصي الرحباني والشاعر المصري صلاح جاهين والرسام الكاريكاتوري ناجي العلي عطفاً على نص بديع رثى فيه والده. الجزء الأخير "سهم في الخاصرة" احتوى على نصوص نثرية متنوعة تتراوح بين السياسي والوجداني إضافة إلى بضع كلمات ألقاها الشاعر في مناسبات عدة. وفي الختام نشر قصيدة "عابرون في كلام عابر" التي أحدثت في ربيع العام 1988 ثورة في دولة الاحتلال وتحديداً في البرلمان الإسرائيلي وواجهت هجوماً عنيفاً شنّه عليها وعلى صاحبها مسؤولون في الحكومة وصحافيون وكتّاب. وقد خص درويش قضي هذه القصيدة بمقال عميق بعنوان "هستيريا القصيدة"، وجاء في مطلعها: "القصيدة، القصيدة... الى متى؟ هل بقي في اللغة العبرية ما يكفي لمحاربة قصيدة أخرى، يكتبها شاعر آخر يطالب الغزاة بالرحيل؟".

 

نصوص مستعادة

قلة هم القراء الذين تمكنوا من الاطلاع على هذه المقالات والنصوص التي ظلت شبه مجهولة عربياً، لا سيما لدى "جماهير" محمود درويش، فالمجلة على الرغم من أهميتها في تلك الحقبة، لم تكن توزع في كل البلدان العربية. ولعل قراء درويش سيجدون في هذا الكتاب فرصة سانحة للاطلاع على مقالات سياسية مهمة، ولو أنها وصلت إليهم متأخرة زمنياً، جراء تناولها وقائع وقضايا "ثمانينية" أصبحت جزءاً من الذاكرة من دون أن تفقد دلالاتها الراهنة، على أنها تشهد على فرادة "الصنعة" الدرويشية في فن المقال السياسي. ناهيك عن النصوص الإبداعية التي تجلى فيها نثر محمود درويش وتجربته الفريدة في الإبداع النثري. وفي هذا الصدد يقول خضر: "أصبح الكثير من أحداث تلك الفترة جزءاً من الماضي، الآن. وربما تراكم عليها قليل أو كثير من غبار الزمن، لكنّ النصوص التي كتبها محمود درويش، في ذلك الزمن، وقرعت في حينها الجرس، تصلح في الوقت الحاضر "ذاكرة للنسيان" وفق عنوان أحد كتب درويش". وفي رأي خضر أن هذه النصوص تستمد أهميتها من حقيقة أن صاحبها محمود درويش، فهي تحمل، عطفاً على نثر درويش البديع، ولغته التي لا يخبو بريقها عبر مر الزمن، "شهادة، على فترة بالغة الحساسية في تاريخ الفلسطينيين، وهموم محمود درويش ومشاغله الشعرية والسياسية، والمعيشية، أيضاً".

ويوضح خضر بعين "المؤرخ" السياسي معالم الفترة التي كتبت فيها المقالات والنصوص والتي تمتد عقداً من الزمن وقعت فيه "أحداث مفصلية، وتحوّلات حاسمة، أسهم تضافرها، والرد عليها، والتفاعل معها، في تحديد مصير الفلسطينيين، شعباً وقضية، على مدار عقود لاحقة". وبرأيه أن ما حصل بين الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، ومؤتمر مدريد للسلام 1991، وقع الانشقاق الكبير في حركة فتح 1983، ونشبت حرب المخيمات 1985، واندلعت الانتفاضة الأولى 1987، وأذاعت منظمة التحرير، في الجزائر، وثيقة إعلان الاستقلال 1988.

أما في شأن مجلة "اليوم السابع"، فيوضح خضر الظروف التي رافقت انصراف درويش إلى الكتابة فيها وهي جمعت بين تداعيات الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وخروج منظمة التحرير منها، وإقامة محمود درويش في باريس، وصدور المجلة الأسبوعية، بدعم من منظمة التحرير، وقد أسسها وترأس تحريرها الصحافي بلال الحسن. فعلى صفحات هذه المجلة، نشر درويش مقالة أسبوعية ما بين عامي 1984 و1989. وبدا واضحاً أن درويش لم ينصرف، خلال هذه الفترة، إلى مواكبة ما يجري من أحداث وحسب، بل تعددت وسائله التعبيرية في التفاعل معها أيضاً، فكتب المقالة والقصيدة والمذكّرات، والتعليقات السريعة، ومداخلات أو خطب ألقاها في مناسبات معيّنة، وأعاد نشرها في "اليوم السابع"، كما فعل مع بعض افتتاحيات "الكرمل".

ويخلص خضر إلى ملاحظة مهمة وهي أن ما ميّز درويش، في هذا السياق، "ليس المشاركة الفاعلة، ولا حماسة الواقف في الميدان"، بل "وعي مَنْ يمشي على حبل رفيع، فيخشى الوقوع في الدعاية، بالمعنى السلبي للكلمة من ناحية، وترفّع التحليل السياسي البارد عن سخونة الحدث من ناحية ثانية". وكان لا بد لمحمود درويش أن يحقق في مقالاته توازناً بين كونه شاعراً وكاتباً في حقل السياسة.

ويلاحظ خضر أن مشهد عشرية الثمانينيات، حفل بـ"دلالات ملحمية لاحت، في أعوامها الأولى، في صمود الثلاثة أشهر في بيروت المحاصرة، وتتوجت، في أعوامها الأخيرة، بانتفاضة الفلسطينيين الأولى في الأرض المحتلة". ومن هنا، يمكن أن تقرأ هذه النصوص بوصفها "نصاً واحداً يقوم على قناعات ومرافعات، وهموم شعرية وسياسية، تجد تعبيرها، حيناً في "التحليل السياسي"، وحينا آخر في "تمارين شعرية"، منها ما لم يُعد درويش نشره مثل "خطاب الدكتاتور الموزون"، ومنها ما أعاد نشره مثل بضع قصائد ضمها ديوان "ورد أقل"، و"مأساة النرجس وملهاة الفضة"، وبضعة نصوص جمعها في "ذاكرة للنسيان"، وومضات كثيرة ومتناثرة في "خطبة الهندي الأحمر".

استثنى حسن خضر كل ما أعاد درويش نشره في مجموعات شعرية، وكتب نثرية، وما نُشر في "الكرمل"، من إعادة النشر في هذا الكتاب، وحرص على تذييل المقالات بهوامش لتوضيح بعض الأحداث، أو التعريف ببعض الأسماء. وارتأى أن يتكون الكتاب من ثلاثة أقسام يجمع بين مقالاتها ونصوصها معادل موضوعي واحد، دائم الحضور والتكرار، حتى وإن تباعدت المساحة الزمنية بين نص وآخر. عنوان الجزء الأول "فضاء الآخر"، يدل على هوية أو ماهية إسرائيل كدولة، والصهيونية كأيديولوجيا سياسية، وعلى أوهام واستيهامات ثقافية، تمثل "هاجساً معرفيا وسياسياً، رافق درويش على مدار ستة عقود من الزمن، منذ صدمة النكبة، التي عاشها طفلاً، في عام 1948، حتى أيامه الأخيرة في عام 2008".

هاجس معرفي

ويمعن خضر في تحليل ما يسميه الهاجس المعرفي والسياسي لدى درويش فيرى أنه "لم يكن إشباعاً لنزعة ثقافية عامة، وحسب، بل كان إدراكاً واعياً لحقيقة أن "مَنْ يكتب حكايته يرث أرض الحكاية"، أيضاً". وهذا ما يُفسِّر فاعلية الكتابة عن "الآخر"، في هذه المقالات، بوصفها نوعاً من قواعد الاشتباك". وأصلاً لم يكف درويش كما يقول خضر، عن ملاحقة ما يصدر عن الإسرائيليين من كتابات في حقول مختلفة، لم تنحصر، بالضرورة، في الأدب. وكان من عاداته اليومية، بعد العودة والإقامة في رام الله، الحرص على قراءة جريدة هآرتس الإسرائيلية. ويتبدى في المقالات السياسية موقف درويش النقدي من إسرائيل، والصهيونية ومسألة العداء للسامية وهوية أو ماهية الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وقد لا تختلف كثيراً مقالات الجزء الثالث "سهم في الخاصرة" عن مقالات الجزء الأول، فهي تستوحي بمعظمها صراع البقاء، والدفاع عن وحدانية التمثيل، ومأساة صبرا وشاتيلا، معاناة اللاجئين، البربرية الإسرائيلية، اجتياح بيروت...

أما نصوص أو مقالات الجزء الثاني وعنوانه "كتاب المراثي"، فتفاجئ القارئ الذي يكتشف مزيداً من نثر درويش الإبداعي، الذي يقارب الشعر ويتقاطع معه ويضاهيه جمالية ورمزية. لم يكتب درويش نصوصاً رثائية في المفهوم الإنشائي التقليدي للرثاء، مقدار ما شاء مراثيه محاورات داخلية مع من يرثيهم، يسائلهم ويتحدث إليهم ويتعمق في رسم بورتريهات لهم، يحلل آثارهم على اختلافها، ينفذ إلى أعماقهم، ويلقي عليهم نظرة ملؤها المعرفة والحدس. مراث بديعة حقاً، هي قصائد حيناً وحيناً نصوص، لا تسلم أسرارها بسهولة، تُقرأ مرة تلو مرة، لما تحمل من لحظات متوترة وبوارق وجماليات أليفة ومصقولة في آن ولغة شديدة المرونة والطلاوة والإيحاء. وإن بدا الشاعر يودع هنا، شعراء وفنانين ومناضلين فلسطينيين وعرباً، فهو يُغرق في أسر لحظة الوداع تلك إبداعياً في رحاب اللغة التعبيرية العالية. يكتب في مطلع رثائه الشاعر معين بسيسو: "كم مرة ستموت؟ كم لغة ستخطئ كي تصل؟/ خرج الطريق على الطريق، تشعبت خطواتنا.../ كم مرة ستعدّ من أجلي وأجلك خيمتين على الشواطئ؟/ كم مرة ستجيء مملكة البنفسج دون أن تجد البنفسج؟". وفي مطلع نصه الرثائي للمفكر حسين مروة يقول: "في زحام الموت العام في بيروت، يفتح حسين مروة شارعه الخاص، ليمر موته الخاص على آخر المعاني. هل من معنى؟ هل من مبنى؟". وهكذا يكتب عن عاصي الرحباني الذي "صارت أغنيته إطار قلوبنا المرجعي، هي الوطن المستعاد، وحافز السير على طريق القوافي الطويل"، وعن الشاعر الفلسطيني راشد حسين الذي "اختنق بدخان القصائد"، والشاعر المصري صلاح جاهين الذي "يجلس على ضفة النيل تمثالاً من ضوء، يعجن أسطورته من اليومي"، والرسام ناجي العلي "أحد مهندسي المزاج الوطني، أحد نتاجات الإبداع الوطني، هو ابننا وأخونا ورفيق مذابحنا وأحلامنا، وخالق "حنظلة" الخالد"، والروائي إميل حبيبي والمناضل خليل الوزير الملقب بـ"أبو جهاد"...وقد تكون مرثيته لأبيه واحدة من أجمل المراثي التي يمكن أن تكتب عن أب عاش بعيداً ومات بعيداً: "لم نكن على موعد. كان يعرف أني لن أعود، وكنت أعرف أنه لن يسافر... اسمه في طفولتي ما يرادف الحقول من صور ومن نباتات وفصول...". يقول حسن خضر عن هذه المرثية: "ما يستحق التنويه هنا، استناداً إلى مُنجز محمود درويش الشعري، ونصوصه النثرية، وإلى معرفة شخصية عن قرب، أن الأب يحتل مكانة مركزية، في عالمه، لا تقل أهمية ودلالة عن مكانة الأم، التي كرّستها في المخيال العام قصيدة تحوّلت إلى أغنية شائعة".

كانت مقالات مجلة "اليوم السابع" تستحق فعلا أن  تجمع في كتاب، فهي تضيف الى "التراث" الدرويشي مخزوناً جديداً، من قصائد ونصوص شبه مجهولة، وتكشف المزيد من  ملامح التجربة الفريدة التي خاضها شاعر "جدارية"، وتلقي ضوءاً ساطعاً على اسرار هذا المبدع الكبير الذي يزداد حضوره تألقاً وتزداد الحاجة الى قراءته إلحاحاً وضرورة.

المزيد من ثقافة