Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آرثر غابرييل ياك روائي من جنوب السودان… يسترجع سنوات الانفصال

أدب سوداني بالانجليزية والعربية لا يزال مجهولا

الروائي السوداني الجنوبي آرثر غابرييل ياك (يوتيوب)

قامت دولة جنوب السودان عام 2011، وأقرت الإنجليزية لغة رسمية. لكن العربية تبدو اللغة الثانية، فهناك صحف بالعربية، وهناك الكتاب العربي ومن يكتب بالعربية – وأولاء قلة من قلة – مثل أستيلا قايتانو في القصة القصيرة، وبوي جون وآرثر غابرييل ياك في الرواية، الأول في باكورته "جنة الخفافيش" والثاني في روايتيه "يوم انتحار عزرائيل" و"سوبرانو القيامة".

يقدم آرثر غابرييل ياك لروايته الجديدة "سوبرانو القيامة" (دار مسكلياني، تونس 2019) فيخبر أنه سمع قصة قيامة الزعيم من شاهد رفض أن يذكر اسمه خوفاً من السلطات التي أمرته بالكتمان. ويمضي الكاتب إلى أن هذه القصة هي، من حيث الغرابة، الثالثة في تاريخ البشرية. وقد روى الشاهد بلغة قبيلته "الباريا" عن طريق مترجم إلى الإنجليزية، ثم ترجمها الكاتب إلى العربية، مثلما ترجم ما نقل المترجم الفوري عن شخصيات أخرى تنتمي إلى خمس قبائل/ خمس لغات، ورفض الكاتب تحديدها.

في هذه الرواية، كما في سابقتها "يوم انتحار عزرائيل" التي صادرها الأمن، وكما في رواية بوي جون أيضاً، تقوم المواجهة الفنية مع الحاضر متمثلاً في انفصال الجنوب السوداني عن شماله. والمغامرة الروائية بالتالي هي في كتابة التاريخ السائل/ الساخن/ الجاري.

يذكر الكاتب في مقدمة الرواية أن شخصياتها واقعية، لكنه بدّل أسماءها، وإذا بالرئيس موسوليني يؤشر إلى مرجعه الواقعي في عمر البشير، والزعيم يؤشر إلى جون قرنق (1945-2055). وثمة غيرهما من جاء باسمه الحقيقي مثل عبد الخالق محجوب والشفيع من القادة الشيوعيين الذين أعدمهم جعفر النميري (1930-2009) إثر الانقلاب في 19/5/1971.

السودان الجديد

توزعت "سوبرانو القيامة" على أربعة أقسام، منها ما جاء بضمير المتكلم، ومنها ما تولاه ضمير الغائب. وقد تعنون القسم الأول بـ "معجزة القرن". وهذه المعجزة هي اللعبة الكبرى في الرواية، إذ ظهر الزعيم منذ بدايتها وقد بعث حياً ليسأل عما حل بمشروع السودان الجديد، وليفاجئه الجواب: قد تحقق بالانفصال. وتحدد الرواية أن هذا الزعيم كان نائباً لرئيس الجمهورية في الخرطوم، وأنه قضى في حادثة طائرة حفّت بها الشكوك. إنه إذن قرنق الذي سيحرر الرواية بتحوله إلى الزعيم الميت الحي من الوثائقية أو التسجيلية أو التأرخة، فينطلق بها التخييل في الفضاء السوداني، حيث تتسامق شخصيات الرواية بإبداع مميز.

يسري نبأ قيامة الزعيم، مما رواه سانتينو لأجانْقْ واني ولأنطوني، وتبدأ الأسطرة، فيقال إن الزعيم ينتمي إلى قبيلة يموت الإنسان فيها نهاراً ويقوم ليلاً ليتحول إلى أسد يلتهم الناس. وتبدأ زيارة الضريح وتقديسه، فيشبه الناس قيامة الزعيم بقيامة المسيح، بينما تصدح إذاعة دولة الجنوب بالمارشات وبإدانة فكرة القيامة، فالأمر ليس غير إشاعات سياسية تبثها المعارضة. وفي مشهدية مروعة يأتي نبش الجنود مقابر المسلمين والمسيحيين وأصحاب اللادين ومعتنقي الديانات الإفريقية الطبيعية، سعياً إلى دحض إشاعة مشاهدة الزعيم.

في القسم الثاني "موعظة القصر" يحضر التاجر في سوق جوبا: عبد المنعم الشيخ، ويلتقي بالزعيم الذي يختفي عندما يحضر الضابط ليقبض عليه. وسيتكرر هذا الاختفاء المفاجئ، ومنه أن عبد المنعم نفسه ينفي للزعيم أن يكون في قاموس الحكومة السياسي شيء اسمه المواطن. كما يشرح له أن الناس مجرد أموات يمشون على الأرض، وأن لا فرق بين دولتي الانفصال، فهما بالنسبة إلى المواطنين نفق داخل كهف ضخم داخل جهنم. ويختم القول إن دعوة الزعيم تثبت شعاع الأمل، ثم يغلق الرجل محلّه، ويلتفت، فلا يرى الزعيم. وتشرع الدولة بالقبض على أشباه الزعيم وإعدامهم، لكن خمسة عشر من سلاطين القبائل يؤكدون للرئيس أن الزعيم زارهم. وهكذا، ما إن يتأكد اختفاء الزعيم حتى يتأكد حضوره. وقد أدهش السلاطين أن الرئيس خاطب الزعيم الذي اتصل به هاتفياً، بالقول: سيدي، فيتساءلون عمن يكون المتصل إذن، ما دام الرئيس هو من يأتي بعد الرب. لكن سيد البلاد الأول، الرئيس، ما عاد يميز بين حلم وواقع، وقد سكنه الرعب بعدما التقى الزعيم الذي فرض عليه مشروعه لمحو أمية السياسيين. وبالسخرية الكاوية التي لا تفتأ تلون الرواية، وبملاعبة الزمن، يقضي الرئيس ست سنوات لم يتعلم فيها سوى الحروف الثلاثة الأولى، كما دخلت حكومته في إجازة مفتوحة وسط الأحراش طلباً لمحو الأمية، ولكن. بعد اختفاء الرئيس يشاهَد في بيوت الدعارة، ويشاهَد يجري خلف فتاة عارية إلا من ورقة التوت، تصرخ بأن كلب صيد شرس يطاردها. وكان الزعيم في لقائه بالرئيس قد قال إنه اكتشف عند موته أن الحياة وأنت ميت أرحم وأنفع من الموت وأنت ميت، تتعذب بموت الأحياء. أما الأسوأ فهو أن تكون ميتاً وأنت حي في آن. وبصدد الرئيس وتأليه الرئيس، يقول الزعيم مواصلاً سخرية الرواية: "الرئيس في دولة ما ليس سوى إله ينصبه الناس ليكون مسؤولاً عنهم. أنت إله سيدي الرئيس، ومسؤولية كل روح وكل نفس تمشي على هذه الأرض هي أمانة في عنقك". وبصدد الحرب يقول الزعيم إن المهلوسين كانوا يبعثون بأطفالهم إلى الحرب الجنوبية، ليدخلوا الجنة، وقد فعل الرئيس ما فعلوا.

شبح الزعيم

يأمر الرئيس بمحو كلمة الزعيم من ذاكرة كل مواطن. لكن شبح الزعيم يزلزل كيان الرئيس، فتسعى زوجته سوزي في علاجه. لكنها ترفض حكم الطبيب الألماني بأن الرئيس بحاجة إلى راحة لا يوفرها إلا الابتعاد عن السلطة. وبعد الرحلة العلاجية يعود الزعيم إلى الرئيس الذي يدفع عن نفسه تهمة الفساد الذي هو فساد المؤسسات. لكن الزعيم يتدفق كأنما يتحدث عن الفساد اليوم في لبنان أو العراق أو الجزائر أو إيران أو سوريا أو مصر أو... فيذهب إلى أن فساد المؤسسات يعني أن هناك كارثة في القيادة، والقائد الضعيف يحول أية مؤسسة قوية إلى ضعيفة، والضعف يجلب معه الفساد: "عندما تكون وزارة ما ضعيفة وفاسدة فلا بد من تغيير من يرأسها، وهو الوزير، وليس الموظفين، أما عندما تكون كل مؤسسات الدولة ضعيفة ومنهارة وغارقة في الفساد إلى أذنيها، وتستمر هكذا حتى بعد تغيير الوزراء مراراً وتكراراً، ودكهم وخلطهم كأوراق الكوتشينة أو قطعات الدومينو، فلا بد، سيدي الرئيس، أن تكون أنت هو التغيير المطلوب، لأنك رأس السمكة المتعفن. في هذه الحال سيكون لديك خياران فقط لا ثالث لهما: الاستقالة وتسليم الحكومة لرئيس جديد، أو إعلان انتخابات مبكرة كي تأتي بخيار تراه مناسباً".

ويشرح الزعيم للرئيس أنه مجرد رئيس وليس قائداً. فالقيادة تتطور يومياً، لكن هذا الرئيس يتطور إلى الخلف، إلى المنطقة والقبيلة والعشيرة والأسرة، بينما ليس للقائد الحقيقي من قبيلة إلا الأمة.

يصفع الزعيم الرقيب أجانْقْ بوصمة أن الانفصال قد أفسده، فيرد أجانْقْ بأن ما أفسده هو اللهاث خلف مشروع الزعيم المسيحي الذي لن يتحقق مع وجود الأغلبية المسلمة، وإن يكن الزعيم هو من قال: "الدولة لا تذهب إلى الكنيسة يوم الأحد ولا إلى الجامع يوم الجمعة". ويتابع أجانْقْ الحي الميت أيضاً أنه قد صار للجنوب دولته التي ليست بدولة: "إنه شيء لا هو دولة ولا هو إقليم، شيء يمشي ويقفز في آن". وسوف يلتقي أخيراً سانتينو بليزا زوجة أجانْقْ، وهو أول من أطلق قيامة الزعيم، فيؤكد أن الزعيم لم يقم ولن يقوم، وما قيامته إلا كذبة: "كلنا كذابون، وما العالم الذي نعيش فيه سوى مسرح كبير للكذب، ونحن ممثلون فيه".

حكايات متوالية

في لقاء أجانْقْ بالحكّاء نيما الذي يحدثه عن أن "الحكي" شيء عميق ومتجذر في البشر، فيرد أجانْقْ بما يوجز اللعبة الروائية البديعة والآسرة والمتجذرة في التراث السردي العربي: "كان أخي يحكي لي قصة جديدة كل ليلة. كنت أظن أن في رأسه كتاباً كبيراً للحكايات، يخرج منه كل ليلة قصة".

على هذا النحو من التوليد "الألف ليلي" للحكايات، لا تفتأ رواية "سوبرانو القيامة" تسخر من وتعري سوءات السودان منذ "عام اللعنة"، كما يصف عبد المنعم سنة الانقلاب الذي جاء بعمر البشير إلى كرسي الرئاسة، فتسمّر فيها ثلاثين سنة حتى أطاحته الثورة للتو. وقد انتهى عبد المنعم بمقتضى تبادل المجرمين بين دولتي الشمال والجنوب إلى أن تم تسليمه إلى الثانية التي تتهمه بتهديد الأمن القومي بين الدولتين، جرّاء لقائه بالزعيم. وفي هذا المآل يلتقي المتهم برفيق الماضي اليساري عباس كرشة الذي انقلب كما شاءت الانقلابات السودانية، ويبرر لعبد المنعم الذي ارتد هو الآخر على ماضيه، أن الوطن شيء والحزب شيء آخر، والوطنية شيء والأيديولوجيا شيء قد نختلف عليه، ثم إن رفيقاً اعتدى على زوجته بينما كان هو سجيناً. وينتهي عباس كرشه إلى أن دولتي الشمال والجنوب عبارة عن "عضمة ولحمة"، إن انفصلت إحداهما عن الأخرى تضررتا كلتاهما.

في منتهى الرواية يبرز أنطوني النبي الذي كان جندياً في "حرب التحرير"، فانتهى إلى القيّوم على كنيسة القيامة، وصاحب المعجزات، ومنها حمل عاقر وشفاء أعمى، لكنه سيعجز عن إحياء الزعيم، فينقل عنه أنه عزم على الانتحار والعودة إلى القبر، لأن الحياة لا تطاق. وما هذه الشخصية، وهذه الأخيولات إلا بضعة من الكل الجمالي اللعوب الفاتن المدعو: "سوبرانو القيامة"، سواء في المعمار الروائي بكليته، أو بتفصيلاته المشهدية، أو في اللغة، أو في بناء الشخصية، أو في السخرية اللاذعة. ولعل هذه الرواية إذن بشارة بما تحمل الرواية العربية في الجنوب من الوعود.

المزيد من ثقافة