Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكذا باحوا بعواطفهم... رسائل تاريخية كتبها قادة وفنانون وعشّاق مشهورون

107 خطابات جمعها وحققها المؤرخ والروائي البريطاني سايمون سيباغ مونتيفيوري

رسالة موقعة من نابليون بونابرت عام 1813 عثر عليها في جزيرة كورسيكا (غيتي)

هذا الكتاب، الذي يحمل عنوان "مكتوب في التاريخ – خطابات غيّرت العالم" Written in History: Letters that Changed the World الصادر في اكتوبر (تشرين الأول) من العام الحالي، مثير للاهتمام وجدير بالقراءة لأنه يوظف خطابات المشاهير ليفتح لنا نوافذ تطل على حقب وأحداث تمتد منذ زمن الفراعنة إلي القرن الحادي والعشرين. وهذه في مجملها 107 رسائل مدونة علي 267 صفحة من متن الكتاب المحتوي على 304 صفحات، جمعها وحققها المؤرخ والروائي البريطاني سايمون سيباغ مونتيفيوري.

الخطابات نفسها مصنفة في 18 فئة هي: الحب، الأسرة، الخلق والإبداع، الشجاعة، الاكتشاف، السياحة، الحرب، الدم، الدمار، الكوارث، الصداقة، الحماقة، التأدب، التحرير، القدَر، السلطة، السقوط، الوداع. وهي بهذه تغطي أهم عنصرين في أي تاريخ وهما الاستمرارية والتغيير، وكان تخير المحقق لها مبنيا على هذا الأساس وإن لم يقل ذلك بنفسه. وكل هذا يعني أن كلا من الرسائل المختارة يأتي في منعطف ما، إما في حياة الشخص الفاعل النافذ أو في وقائع فصوله التي جعلته فاعلا نافذا في المقام الأول.

وطبيعي أن يتحسر المحقق على أن فن الرسائل المدونة، كتيار رئيسي ساد منذ القرون الوسطى عشر – مع توفر الورق وتيسر السفر – شهد بداية النهاية مع شيوع الهاتف في ثلاثينات القرن العشرين ثم رقد على فراش الموت في عصر الإنترنت والكتابة الإلكترونية. وينبهنا الى أن هذه الأخيرة إنما تحدث على منبر عام يستطيع العارف بمكامن مفاتيحه أن ينفذ اليه متى أراد. وهكذا يمكن القول إن الخصوصية والحميمية التي يحملها الخطاب التقليدي المسطّر بالقلم على الورق ماتتا مع قدوم هذا العصر الرقمي.

والرسائل - النوافذ التي اختارها المحقق تقع تحت إحدى مظلتين كبيرتين هما الخاص والعام. أما الأولى فقد قُصد بها شخص واحد وأبتغى لها كاتبها السرية بدون أن يدري أنها قد تصبح ملكا عاما اليوم بفضل باحثين ومحققين على شاكلته. والمثال لهذا رسائل السلطان العثماني سليمان الأول لجاريته الروسية (زوجته لاحقا) روكسيلانا التي صار اسمها خرم سلطان، ونابليون لزوجته جوزيفين، والرسائل الموغلة في البذاءة والفحش مما كان يبعث به عبقري الموسيقى موتسارت الى ابنة عمه ماريان. وأما الثانية فقد أريد لها الإعلام والإعلان، على غرار رسالة ماو تسي دونغ الى الطلاب يحثهم فيها على مهاجمة المعلمين، ورسالة بلفور لليهود التي وعدهم فيها بفلسطين، ورسالة زولا "إني أتهم" لرئيس الجمهورية الفرنسية التي يدين فيها العنصرية المؤسسية في بلاده.

جوهر الجبل

من رسائل الحب التي حواها الكتاب تلك التي كتبتها الفنانة المكسيكية فريدا كالو إلى معلّمها وعشيقها ولاحقا زوجها التشكيلي دييغو ريفيرا الذي كان في سن الثانية والأربعين وهي في العشرين عندما التقيا أول مرة في أروقة الحزب الشيوعي. وكان زواجهما (1929 – 1939) عاصفا بركانيا ولخصّته فريدا بقولها "الجبل فقط يدرك جوهر جبل آخر". وكانت مفردات رسائلهما المتبادلة (عندما كان هو في أوروبا) مثل لوحاتهما مستقاة مباشرة من الطبيعة والخضرة المكسيكيتين. فها هي تخاطبه: "أجد الفواكه جميعا في عصير شفتيك... دم الرمان وآفاق المامية ونقاء الأنناس. اعتصرتك الى نهديّ فاخترق وجودك كتابي عبر أناملي. رائحة الزان وذكريات الجوز والأنفاس الخضراء من شجرة الدردار... آفاق ومناظر طبيعية اتتبعها بقبلة وألج بها فرْج الأرض نفسه".

من رسالة نابليون الملتهبة إلى جوزفين: "هذه قبلة على قلبك. وهذه أخرى أسفل ذلك...".

قبلتان من نابليون

نابليون هو نابليون. وجوزوفين فتاة كريولية من جزر المارتينيك. ترملت قبل أن تلتقي بالجنرال ثم تتزوجه في 1796 لتبلغ قمة السلطة في العالم عندما نصّب نفسه امبراطورا وجعلها امبراطورة في 1804. وفي غزواته الإيطالية كاد يجن بالغيرة لأنه كان يعلم انها – وهي زوجته – ساحرة الجمال ومحل إعجاب الرجال، والأدهي من ذلك، لعوبا لا تفرّط في من اعجبها هي منهم ولا يهمها إن كان زوجها هو الامبراطور نفسه. لذا أكثر نابليون من الكتابة لها، وتحمل رسالته الملتهبة المختارة لهذا الكتاب خاتمة جاء فيها: "هذه قبلة على قلبك. وهذه أخرى أسفل ذلك... أسفله بكثير".

اسأل مجرّب

ثامن أمراء المؤمنين في الأندلس وأحد الأشهر بين حكامها المسلمين هو أبو المُطرف عبد الرحمن الناصر لدين الله، المعروف في الغرب باسم عبد الرحمن الثالث (تمييزا له عن جدّيه عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الأوسط). يعرض الكتاب رسالته الى أبنائه وهو على فراش الموت وما استخلصه هذا الرجل الذي كان لأكثر من نصف القرن الأقوى على الإطلاق في عموم اوروبا القرون الوسطى. وجاء في الرسالة أنه ظل في عهده "محبوبا من رعيتي، مهابا من أعدائي، موقرا من حلفائي". ثم يمضي قائلا إنه - طوال جلوسه على العرش فوق الخمسين سنة - احتوى بين يديه على كل ما يحلم به المرء من سلطة وجاه وميسرة ومسرّة ومتعة، لكنه لما انكبّ على عداد الزمن الذي ذاق فيه طعم السعادة الحقيقية وجد أنه لا يزسد قيد أنملة عن أربعة عشر يوما... "فازهدوا في هذه الدنيا".

كلب الروم

اما رسالة هارون الرشيد للامبراطور البيزنطي نقفور الأول فهي مثال على ما يحدث للغة عندما تنهار الدبلوماسية دفعة واحدة. فمع خلافة نقفور العرش الذي أخلته اخته رفض دفع الجزية التي كان تدفعها الامبراطورة السابقة للخليفة العباسي. وبعث اليه برسالة يعلمه بذلك ويقول فيه إن اخته كانت تنصاع لأمره وتخافه كالبيدق أمام الرخ (في الشطرنج) لأن الضعف شيمة النساء. فرد عليه الرشيد برسالة اكتفى بكتابتها على ظهر رسالة الامبراطور نفسها وكان نصها كالآتي: " بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون الرشيد أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم. لقد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما ستراه لا ما ستسمعه".

الفأر يخيف الأسد

على ذكر انهيار الدبلوماسية فلننظر الى رسالة الرئيس اليوغوسلافي جوزيب بروس تيتو الى جوزيف ستالين بعدما راح تيتو يوغل في النأي ببلاده عن الكتلة السوفياتية. فقرر ستالين أن يزيح شوكة تيتو من جانبه مرة والى الأبد. وردا على ذلك كتب اليه تيتو ما يلي: "توقف عن إرسال عملائك لقتلي. لقد ألقينا القبض على خمسة ممن أرسلتهم، أحدهم ببندقية وآخر بقنبلة. إذا رفضت التوقف عن إرسال قتلتك هؤلاء، بعثت اليك في موسكو بواحد فقط بالغ الكفاءة والسرعة، ويقيني أنني لن أكون بحاجة لإرسال غيره".

وفعلا توقف ستالين بعدها عن محاولات اغتيال تيتو.

 

كوميديا فرعونية

ومن الخطابات التي تتخذا لها لبوسا كوميديا رسالة الفرعون رمسيس الى الامبراطور الحيتي هيتوسيلي حوالي العام 1240 ق.م. وكان الطرفان قد تحاربا زمنا الى ان حل بينهما السلام حتى ان رمسيس سعى للزواج من اميرة حيتية. ومع هذا الصفاء طلب هيتوسيلي عون رمسيس في أمر أخته متنازي التي كانت بلا أطفال ومتقدمة نوعا في السن، "فهل يتفضل أخي الفرعون الجليل بأن يبعث بعض كهنته وأطبائه لعلاجها رجاء؟" وعلى ذلك بعث رمسيس برده قائلا إنه يستجيب للطلب الامبراطوري، لكنه يمضي قائلا: "بلغني أن شقيقتك في الخمسين وربما الستين من عمرها. يا أخي ليس لأحد دواء يعيد الخصوبة لامرأة في مثل هذا العمر. هذا أمر ميئووس منه. على أية حال سنستعطف لها إله الشمس وإله العواصف وسنرى."

ليس ذلك وحسب...

ما اقتطفناه في هذه العجالة مجرد غيض من فيض من مراسلات أقرب ما تكون الى صور فوتوغرافية التقطت في مختلف الدهور والأمكنة. وصحيح أنها وليدة حالات مزاجية معينة، لكنها أمزجة لأناس صنعوا التاريخ بشكل أو بآخر. وهي في أغلبها مدهشة في إنسانيتها (أو قلّتها) وتشكّل مجتمعة فصولا في رواية ملحمية هائلة تبدأ بالاف السنين قبل الميلاد وتنتهي باجتماع رجلين غريبي الأطوار هما الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والكوري كيم جونغ ايل.

وعلى سبيل وليس الحصر سيجد القارئ رسالة رتشاد قلب الأسد الى صلاح الدين الأيوبي عن آفاق السلام في حال تقسيم القدس ورد الأيوبي عليه، ورسالة جورج بوش الأب (وهي درس في التهذيب واللياقة) الى خصمه بيل كلينتون المنتصر عليه بعد ولاية واحدة فقط، ومكاتبات كارل ماركس وفريدريك انجلز التي تقطر كراهية لليهود، ونيلسون مانديلا السجين يشد أزر زوجته الحرّة ويني، وت. س. إليوت (الأرض اليباب) يرفض نشر رواية جورج اورويل العظيمة "مزرعة الحيوانات"، وفرانتز كافكا (المحاكمة) يطلب الى ناشره وصديقه ماكس برود إحراق كل أعماله.

تأمل أيضا رسائل ادولف هتلر الى بنيتو موسوليني والمهاتما غاندي إلى هتلر، ومايكل انجلو الى جيوفاتي دا بيستويا، وبيكاسو الى عشيقته وملهمته ماري تيريز والتير، وفرانكلين د. روزافلت إلى ونستون تشيرتشل والعكس، والماركيز دو ساد إلى "الصعاليك الأغبياء الذين أذاقوني الأمرّين" ثم نيكيتا خروتشوف الى جون كنيدي وجاكلين كنيدي لخروتشوف بعد اسبوع من اغتيال زوجها وسريان إشاعة تفيد أن خروتشوف هو القاتل... إلى آخر القائمة الطويلة.

 

أبواب إلى المعرفة

ربما كان في عنوان الكتاب شيء من مبالغة. فالخطابات التي غيّرت العالم فعلا نادرة، لكننا نعلم أن أن ما يقصده المحقق هو أنها رسائل لأناس ساهموا قليلا أو كثيرا في تغيير العالم. وعموما فهذا يهون بالقياس الى إجمالي المستفاد من هذا الإنجاز. فإضافة الى مادته الرئيسية، وهي المراسلات، فإن "مكتوب في التاريخ – خطابات غيّرت العالم" يفتح لنا أبوابا إلى المعرفة بقدر عدد الخطابات التي يحملها الينا. والشكر للمحقق إذ يمهد لنا الطرق بمقدمة الى كل رسالة تعرّفنا بهوية كاتبها ومتلقيها وأي شخصية أخرى قد يرد ذكرها إضافة الى الأطر الحدثية والتاريخية التي تأتي فيها. وعلى هذا النحو فالكتاب معين هائل للباحث سواء سعى للتاريخ أو الجغرافيا أو السياسة أو الآداب والفنون أو غيرها، وبنهايته يعلم القارئ أنه ازداد علما وفتح عينه على كثير كان مخبأ عنه، وهذه سمة الكتاب الجيّد.

 

الكتاب: مكتوب في التاريخ – خطابات غيّرت العالم Written in History: Letters that Changed the World

المؤلف: تحقيق سايمون سيباغ مونتيفيوريSimon Sebag Montefiore

الناشر: وايدنفيلد آند نيكولسون

اللغة: الانجليزية

304 صفحات

المزيد من ثقافة