Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحية "نعش" تسترجع فكرة اللقاء بين الموت والحياة من سعدالله ونوس

 عرض سعودي من اخراج مسعد الزهراني قدم في مهرجان القاهرة

مشهد من المسرحية السعودية  (اندبندنت عربية)

في مسرحية الكاتب الأميركي أروين شو "ثورة الموتى"، نحن أمام مجموعة من الجنود الذين تم الدفع بهم ليلقوا حتفهم فى إحدى الحروب العالمية غير المبررة، ضد الإنسانية، من أجل بضعة أمتار تُضاف إلى أراضي الدولة أو من أجل جني ثروات بلاد أخرى. يأبى أولئك الجنود الموتى أن يدفنوا في قبورهم التي أعدَّها لهم فريق دفن الموتى، ويثورون في وجه من يريدون دفنهم مطالبين بوقف الحرب. واعتبرت "ثورة الموتى" عملاً مناهضاً للحروب التي تحصد أرواح الأبرياء، وصرخة تنادي بوقف الحرب وووقف التضحية بأرواح الكثيرين.

وفي مسرحية "الرقصة الأخيرة" للراحل سعد الله ونوس، نرى صديقين يزوران إحدى المقابر لكي يسهرا فيها، لكنهما يفاجآن بنهوض الموتى من قبورهم، ويبدأ الأموات بلومهما على الحال الذي وصل العالم إليه وما اقترفه الصديقان من حروب، ويستمر الحديث بينهم وسط جو من الرعب.

وتظهر المسرحية شخصية الفائزوالمهزوم في وطنه، الذي مع خسارته مايزال قوياً ولديه الشجاعة والجرأة ليتحرك وسط القبور باحثاً عن متنفس ليعبر به عن ذاته، وعن العنف وسط هذا الدمار الهائل. يدعو أحد أصدقائه للاحتفال بعيد ميلاده في مكان خالٍ إلا من الموتى الذين لن ينهضوا، لكن السهرة لم تكتمل بسبب قيام الموتى من قبورهم واستحضارهم لذكريات موتهم بكل تفاصيلها الموجعة والمفرحة. تأنيب الأموات للصديقين يدور حول أن الأحياء هم سبب هذا الدمار، وبالتالي يجد الصديقان نفسيهما متهمين في محكمة شهودها وقضاتها والمدّعون فيها من الموتى الأحياء، لتنتهي بالدعوة إلى حياة يعمها السلام. وفي مسرحية "نعش" التي قدمها فريق المسرح في جامعة الطائف السعودية أخيرا ضمن فعاليات ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي، تأليف إبراهيم الحارثي، إخراج مسعد الزهراني، نحن أمام مجموعة من الموتى الذين لا يجدون من يدفنهم، ويتساءلون عن سبب عدم دفنهم ويجيبون: "نحن في الانتظار". يقررون إجراء قرعة في ما بينهم ليختاروا واحدا يقوم بدفنهم، وبعدها يقوم هو بدفن نفسه. إلا أن الاتفاق لا يتم بسبب الخلافات بينهم، وخلال الحوارات الدائرة، نكتشف سبب موت كل منهم، مَن مات بفعل الحرب، ومَن مات محكوماً بالإعدام من دون ذنب، ونكتشف كذلك أن القاتل والمقتول، الظالم والمظلوم، معاً في مجموعة الموتى نفسها. الحوار شبه الشعري والذي حمل مضامين فلسفية، كشف في طياته عن أعماق الشخصيات، وبدت الحالة كما لو أنها جلسة لتطهير الذات، ليقرر الموتى بعدها العودة إلى الحياة مرة أخرى، بشرط ألا يصادر أحد على حياة غيره، مع الحرص على إقرار العدالة والسلام.

استفادة مسرحية

لا شك أن الكاتب استفاد من النصين، "ثورة الموتى" و"الرقصة الأخيرة"، وإن جاء بجديده هو، فالموتى هنا معا "الجاني والمجني عليه" حتى أن بالإمكان اعتبار أننا أمام مجموعة من الأحياء الأموات، ماتت أرواحهم بينما ظلت أجسادهم حية، وكانت الرحلة  أقرب إلى المحاكمة لاستعادة الأرواح التي ماتت بفعل عدم إنسانيتها واقترافها لظلم غيرها من بني البشر. حتى تأتي اللحظة التي تكتشف فيها هذه الأجساد ،التي فارقتها أرواحها، أن عليها أن تستعيد الروح في نقائها الأول الذي جبلت عليه ثم لوَّثته تصاريف الحياة والأطماع والرغبة في السيطرة. أي أن الرؤية اتسعت هنا ولم تكتف بإدانة الحرب فقط، لكنها أدانت كذلك كل عمل موجه ضد الإنسان سواء في الحرب أو في غيرها. اختيار نص كهذا أتاح الفرصة لمجموعة الممثلين، وكلهم من شباب الجامعة الذين يبدأ معظمهم خطواته الأولى في التمثيل، أن يؤدي كل منهم دوره في الحدود المطلوبة، فالمساحة موزعة بالتساوي تقريبا، والمونولوجات قصيرة وعابرة وتتطلب أداء تمثيليا بسيطا. وقد كان المخرج واعيا وقادرا على تدريب ممثليه على استخدام لغة الجسد بشكل طيب، لا مبالغات يمكنها أن تفسد "الخلطة" أو تؤثر على حركة الممثلين ودرجة احتفاظهم بسمات الشخصيات التي يؤدونها.

هو أدرك أن "كل ميسَّرٌ لما خُلق له"، ولا يعني ذلك أننا أمام مواهب تمثيلية ضعيفة، بل إننا أمام ممثلين على درجة ملحوظة من الموهبة و الوعي والتدريب الجيد، وإن كانت الخبرات لم تتراكم بعد. فكان اختيار نص يتيح لكل منهم مساحة معقولة يخرج منها بسلام ومن دون ارتباكات أو عشوائية أو مبالغة، وقد كانوا عند حسن الظن بهم، إنصباط في الأداء، استخدام جيد للجهاز الصوتي، مخارج حروف منضبطة، ولغة عربية سليمة غالبا.

لا ديكورات في العرض، هناك أربعة توابيت، استخدمها المخرج ببراعة، ونجح ممثلوه في تحريكها لتشكيل الفضاء المسرحي، استخدموها كبيوت، وكمنصات للجلوس والمحاكمة، وكمنصات للتمثيل من خلفها في بعض المشاهد، وحرَّكوها بعناية تحسب لهم ولتدريبات مخرجهم. وشكَّلت الملابس البيضاء التي ارتداها الممثلون وجهة نظر مؤداها أنهم موتي مشدودون إلى الحياة، فهي جمعت في تصميمها بين الملابس العادية وبين الملابس الممزقة التي تعلوها، كالأرواح الممزقة تماما، وهو تصميم واع جاء كجزء مكمل لبنية العمل ورؤيته.

ونجحت الإضاءة (صمَّمها مع الملابس شاكر بيك) التي كانت في أغلبها أقرب إلى البؤر الصفراء، في إظهار انفعالات الممثلين بشكل جيد، فشكلت مع البانوراما السوداء في عمق المسرح، وملابس الممثلين البيضاء، فضلا عن الموسيقى المتوترة، والأداء الحركي، سينوغرافيا نابضة ومؤثرة في توصيل رسالة العرض.

عرض "نعش" لكاتب سعودي؛ إبراهيم الحارثي، له تجارب مسرحية لافتة، ومخرج سعودي؛ مسعد الزهراني؛ يمتلك خبرة ووعياً واضحين، وممثلين جامعيين (عمر قاضي، عبدالعزيز اليامي ،عمر مسعود، أحمد دباش،م حمد السفياني، عبدالرحمن الحميدي) تدربوا بشكل جيد، وأدركوا قيمة ما يقدمون، ما يشي بأن تجربة المسرح في السعودية في صعود مستمر بفضل هؤلاء الشباب ومّن يسيرون على دربهم.

المزيد من ثقافة