Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكاتبة الأميركية سيري هوسفيت تشحذ مخيّلتها... لقراءة ماضيها

روايتها الجديدة "ذكريات من المستقبل" تجمع السرد والسيرة

الكاتبة الأميركية سيري هوسفيت (اندبندنت عربية)

في "مادّة وذاكرة"، يميّز الفيلسوف هنري برغسون بين ذاكرتين: الأولى تحفظ الأحداث والأحاسيس اليومية، مشكٍّلةً لصاحبها مكتبة خاصة من الصور، والأخرى، مرسَّخة في جسده، تجعل من الذكريات محرّكاً لأفعاله الحاضرة. ولفهم الديناميكية الخصبة بين هاتين الذاكرتين، رصدت الكاتبة الأميركية سيري هوسفيت (زوجة بول أوستر) روايتها السابعة، "ذكريات من المستقبل"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود"، بعد أشهر قليلة من صدورها في نيويورك.

"نحن جميعاً مكوَّنون من "أنوات" (جمع أنا) لا تحصى"، تقول فيرجينيا وولف. وفي "ذكريات من المستقبل"، التي تسحتضر بمضمونها ونبرتها رواية الكاتبة البريطانية "لحظات حياتية"، تنجح هوسفيت في ليّ ذراع الزمن عبر وضع "أناها" الشابة في حالة حوار مثير مع "أناها" اليوم.

القصة التي ترويها في هذا العمل المميَّز يمكن اختصارها على النحو الآتي: عام 1978، تغادر الشابة س. ه. ريف مينيسوتا وتستقر في نيويورك بحثاً عن المغامرة ومن أجل إشباع رغبتها الملحّة في التهام الشعر والتعمّق بفكر سيمون فييل وفيتغنشتاين ومفكّرين كثر آخرين، وخصوصاً من أجل كتابة روايتها الأولى: "لدى وصولي، لم يكن بطل روايتي شخصية مكتمَلة بقدر ما كان إمكانية إيقاعية، كائناً جنينياً من مخيّلتي كنت أشعر به كسلسلة من النبضات التي كانت تتسارع أو تتباطأ وفقاً لخطواتي". لكن سرعان ما تلهيها عن مشروعها جارتُها الغامضة، لوسي برايت، بمونولوغاتها الملتبسة والمقلِقة التي كانت تبلغ مسمعها عبر الجدار الرقيق الذي يفصل بين شقّتيهما. هل هذه الأخيرة مجنونة؟ ممثّلة مسرحية؟ امرأة  خاضعة لمؤامرة؟ لغزٌ لا يلبث أن يدفع الشابة إلى تدوين هذه المونولوغات الغريبة التي تستحضر جارتها فيها الوفاة العنيفة لابنتها وتعبّر عن رغبة في معاقبة قاتلها. لكن في إحدى الليالي، تطرق هذه الجارة بابها...

أربعون عاماً بعد هذه الحادثة، ونظراً إلى استقرار أمها العجوز في عيادة طبية بسبب مرضها، تعود س. ه. إلى منزل والديها لجمع ما تبقّى لها فيه من أغراض، قبل بيعه، فتقع على الدفتر الذي كانت تدوّن فيه يومياتها عام 1978، ما يشكّل محرّكاً بالنسبة إليها للانطلاق في سردية سيرذاتية تخلط داخلها نصوص هذه اليوميات مع مسودّات الرواية التي كانت تحاول كتابتها، والملاحظات التي توحي بها هذه المسودّات لها اليوم وقد أصبحت روائية متمرِّسة، وذلك بهدف مقابلة "أناها" الشابة بـ "أناها" الحاضرة. وبقيامها بذلك، تدعونا إلى سفرٍ مدهش داخل الزمن: "كل كتاب يتضمن رغبة شاذّة في العبث بالزمن وخداع مجراه الذي يتعذّر تجنّبه"، تقول س. ه. في مكانٍ ما من نصّها الذي تستسلم فيه لذهابٍ وإيابٍ ثابت بين الماضي والحاضر من دون إشعارنا أبداً بمللٍ أو ضياع.

وبالنتيجة، ما هي الاختلافات التي تستخلصها بين الشابة الناريّة س. ه. التي عاشت مغامرات لا تحصى في نيويورك على رغم بؤس وضعها المادّي، والمرأة المسنّة س. ه. التي تكتب هذه الرواية من غرفتها في أعلى المنزل الذي تقطنه اليوم في بروكلين؟ قبل أي شيء، الحقيقة التالية: "في سن الثالثة والعشرين، كان من المستحيل عليّ أن أدرك معنى العبارة الرهيبة "الحياة قصيرة" كما أدركه اليوم، في سن الواحدة والستين، بعدما بات الوقت الذي أمامي أقلّ بكثير من الوقت الذي خلفي. أعرف أيضاً أن فضول تلك الشابة تجاه نفسها كان معدوماً مقارنةً بالفضول الذي تثيره فيّ حالياً نظراً إلى ما تجسّده من آمال وأخطاء كان لها تأثيرٌ حاسم على ما أنا عليه اليوم". وثمة حقيقة أخرى مثيرة تستخلصها الراوية ومفادها أن في الأدب، الذي هو فضاء حرّية مطلقة، لا يعود الزمن مشكلة، بل يصير حليفاً: في هذا المكان، أملك الحرّية في الرقص فوق عقود من الزمن (...)، في التوقّف خلال صفحات وصفحات عند دقيقة واحدة مؤثِّرة من حياتي، وفي التقدّم أو التراجع زمنياً كما يحلو لي".

سخرية لاذعة

هذا ما تفعله هوسفيت بمهارة لافتة على طول روايتها السابعة، بسخرية لاذعة تجاه نفسها ووطنها تارةً، وبكآبة مُمِضَّة تارةً أخرى، جامعةً ومبجِّلةً فيها الموضوعات التي قاربتها بعمق في أعمالها السابقة وجعلت منها واحدة من أهم كاتبات جيلها، وأبرزها: الطابع النزوي لذاكرتنا التي تنتقي وتعجن وتشوّه وتهمٍّش على هواها اختبارات حياتنا؛ العنف الذكوري الذي ما زال طاغياً في مجتمعاتنا ولم يكن واضحاً للشابة هوسفيت أو يثير غضبها كما هو الحال اليوم؛ الصدمات التي نتلقّاها خلال مسيرتنا ولا تنكشف أسرارها إلا بعد سنوات طويلة من حدوثها؛ فِعل الزمن؛ وطبعاً الدروب المتعرِّجة للكتابة وقدرة الخيال على إعادة ابتكار الحاضر وحتى معالجته.

باختصار، أكثر من مجرّد بورتريه للكاتبة في شبابها، "ذكريات من المستقبل" هي قبل أي شيء خليطٌ حاذق من التذكّر والفكاهة والسحر السردي. إنها أيضاً نصٌّ فلسفي بالتأمّلات الغزيرة التي توقّعه وتتطلّب منا تركيزاً وجهداً ثابتين للتمتّع بألمعيتها وحدّة ذهن صاحبتها. إنها أخيراً ــ وليس آخراً ــ نصٌّ سيرذاتي خرافي تستعين هوسفيت فيه بذاكرتها ــ الحية في جسدها وذهنها معاً ــ بقدر ما تستعين بمخيّلتها لإنارة حاضرها على ضوء ماضيها، وللإجابة في طريقها على أسئلة ثلاثة: "هل يمكن الماضي أن يخدمنا للاختباء من الحاضر؟ هل أن الكتاب الذي تقرأونه الآن هو بحثٍ عن وجهة تدعى "حينئذٍ"؟ قولوا لي أين تنتهي الذاكرة وتبدأ المخيّلة"؟

المزيد من ثقافة