Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"كولومبا" الفرنسي ميريميه: امرأة متوسطية بسيطة وشريرة

رواية "لاتينية" أخرى من مفتش دائرة الآثار ومترجم أمهات الأدب الروسي إلى الفرنسية

بروسبير ميريميه (1803 – 1870) (ويكيميديا)

ملخص

"كولومبا" في رواية الكاتب الفرنسي بروسبير ميريميه المعروفة بالاسم نفسه، لا تقل شراً وزرعاً للموت من كارمن في روايته السابقة. لكأن الكاتب شاء أن يرسم امرأة واحدة في رأسين أو في مكانين

أن تدور أحداث رواية "كولومبا" للكاتب الفرنسي بروسبير ميريميه في جزيرة كورسيكا، أمر في منتهى العادية، فهي إن لم تفعل ذلك لما اعتبرت فرنسية على الإطلاق. بكلمات أخرى، لو أن بروسبير ميريميه لم يجعل أحداث روايته هذه، تدور في جزيرة كورسيكا، لكان من الصعب تقبلها بصفتها تنتمي إلى الأدب الفرنسي، لكن ميريميه هنا، وكما فعل أيضاً في روايته "كارمن"، عرف كيف يروي حكاية غريبة الأطوار، ترضي مزاج قرائه وتوقهم إلى الحكايات المعقدة، من دون أن يلزم نفسه بعقلانية الفكر الفرنسي الذي ينتمي إليه، حتى وإن اعتبرت الرواية فرنسية في نهاية المطاف.

ابتعاد ما عن العقل

كان ميريميه "حكواتياً" حقيقياً متأثراً بالأجواء المتوسطية. وهو لئن عاش في أجواء فرنسية خالصة، في العاصمة، وانتمى إلى مجتمعها المعقد في زمن غلب فيه التفكير العقلاني واختفت إرهاصات عودة الصرامة الفكرية، في مقابل استشراء رومانسية آتية من الشرق القريب، ولئن كان تحول منذ عام 1834 إلى وظيفة في الدولة جعلت منه مفتشاً عاماً للأماكن الأثرية والمعالم التاريخية، مما يقتضي منه مسايرة الديكارتية التي كانت طاغية في تلك الأيام، ولو كرد فعل على "الجنون الثوري" وعلى غرابة أطوار مرحلة الغزوات البونابرتية، فإنه، حين كتب أجمل أعماله الأدبية، حرص على أن ينحي العقلانية جانباً، وفي أحيان حرص على أن يجعل من النص نفسه مرآة للصراع بين العقلانية والعفوية.

ومن الواضح أن قصته "كولومبا" تنتمي إلى هذا النسق الأخير، وإن كان هذا الجانب الفكري في حينه آخر ما أثار اهتمام القراء والنقاد على السواء. ذلك أن بروسبير ميريميه، كحكواتي قدير، تمكن من أن يضع الدرس الأخلاقي لعمله في مكانة خلفية، جاعلاً صدر المكان للأحداث، يقرأها قارئه ويذوب فيها في لعبة تغريب وتماه، عرف أدب ميريميه دائماً كيف يفرضها على هذا القارئ.

المرأة مخلوق شرير!

نعرف، بالطبع، أن "كارمن" كانت وتبقى الأشهر بين نتاجات ميريميه، ومن بين محبي "كارمن"، الرواية والأوبرا التي اقتبسها جورج بيزيه عنها، سواء بسواء، من لا يعترف إلا بها، مما جعل ميريميه يعتبر أحياناً، من أولئك الذين عرفوا بعمل "واحد شهير" من أعمالهم.

ومع هذا يمكن القول هنا إن "كارمن" ليست الأجمل ولا الأقوى ولا الأكثر تأثيراً من بين أعمال ميريميه. وفي يقيننا أنه لولا "الأوبرا" التي وضع لها بيزيه موسيقى رائعة، لنسيت "كارمن" على مر الزمن، فيما تبدو "كولومبا" أكثر قابلية للعيش. وإن كان العملان يشتركان في بعد مشترك واحد، وهو اعتبارهما معاً أن المرأة مخلوق شرير في طبعه.

فإذا كانت كارمن امرأة شريرة تزرع البؤس والموت حيثما تحل، وساحرة تريد التلاعب بعواطف الناس، فإن كولومبا كذلك امرأة شريرة تزرع الموت والشر فلا تحصد سوى الخيبة. فهل كان هذا هو رأي بروسبير ميريميه في المرأة؟ لا يمكن أن يكون الرد إيجاباً، فنحن إذا اطلعنا على معظم أعمال هذا الكاتب، سنجد المرأة عنده مؤمثلة. ويحضر تأمثلها هذا، بقوة، في أقل أعماله شعبية، أما في الأعمال التي كتبها لتروج فمن الواضح أنه كان، في الصورة التي يقدمها للمرأة، يساير آراء شاعت عن "الجنس اللطيف"، في زمن كانت المرأة بدأت تخرج فيه من قوقعتها ومكانتها الدونية في المجتمع لتطالب بما يحق لها من مكانة. ولم يكن في هذا ما يرضي حقاً مجتمعاً ذكوري الهيمنة، ذكوري التقاليد. وهكذا كان على نوع من الأدب الشعبي، لكي يروج ويلقى إقبالاً، أن يقدم صورة للمرأة ستشيع كثيراً بعد ذلك، وسينتفض القرن الـ20 ضدها في أماكن عدة من العالم.

مخلوقة ذات رأسين

إذاً، "كولومبا" في قصة ميريميه المعروفة بالاسم نفسه، لا تقل شراً وزرعاً للموت من كارمن. لكأن الكاتب شاء أن يرسم امرأة واحدة في رأسين أو في مكانين. فهل كان من قبيل المصادفة، لديه، أن تدور أحداث كل من القصتين في منطقة نائية عن المركز العقلاني في فرنسا: كولومبا في جزيرة كورسيكا، وكارمن في إسبانيا؟

ليس الأمر صدفة، ذلك أن المرأة الفرنسية في زمن بروسبير ميريميه، كانت بدأت تعيش نوعاً من التعقيد الاجتماعي، ينأى بها عن بساطة بطلات ميريميه. فهذا الأخير، لكي يتمكن من إيصال رسالته وإمتاع قارئه، كان على بطلته أن تكون بسيطة، واضحة الأفعال، بينة الشخصية، ظاهرة الدوافع، وإلا فقدت الرواية نفسها بعدها الشعبي. و"كولومبا" في القصة امرأة بسيطة. تعرف ماذا تريد. وما تريده هو أن ينتقم أخوها لمقتل أبيه، من أبناء العائلة التي قتلته. وهذا الأخ هو أورسو ديلاريبيا، الملازم في الجيوش النابليونية، الذي يعود منذ مطلع الرواية إلى مسقط رأسه في جزيرة كورسيكا التي كان تركها وهو، بعد، فتى. قبل عامين من عودة أورسو، كان أبوه قد قتل، وسرت إشاعات بأن من قتله كان واحداً من آل باراتشيني المعادين لعائلته منذ زمن بعيد. وكان المطلوب لدى عودته، أن يثأر لأبيه. غير أن أورسو الذي غاب طويلاً عن المكان، كان في فرنسا القارية قد تلقى من المعرفة والتربية مما جعله بعيداً جداً من منطق الثأر الذي لا يزال يسود في كورسيكا. ومن هنا ما أن يصل إلى منطقته حتى يبدي تصديقاً للرواية الرسمية عن مقتل والده، الرواية التي تجعل من المسألة قضاء وقدراً لا يقتضي أي ثأر.

الثأر! الثأر! الثأر!

ولكن، بعد فترة يسيرة من وصول أورسو، يبدأ المناخ العام في قريته بيترانيرا يلح عليه. فالناس هنا كانوا ينتظرون عودته لكي يثأر. وهو لا يمكنه أن يتنصل من ذلك، خصوصاً أن أخته كولومبا تقف هناك له بالمرصاد. إنها تنادي بالثأر ليلاً ونهاراً، تجابه أخاها، تتهمه بالجبن، توجه إليه أقسى الكلمات. وتقول له إنها لن تهدأ بالاً قبل أن يثأر ويثبت رجولته، وشجاعته، وأيضاً حبه لأبيه الراحل. وتحت تأثير أخته وإلحاحها في كل ساعة من ساعات الليل والنهار، يبدأ أورسو بالإذعان. غير أن المحافظ، الذي يريد للهدوء أن يعود وللعائلتين أن تتصالحا، يبدأ بالتحرك والضغط بدوره. ويأتي لأورسو بمن يشهد على أن لم يكن ثمة قتل في الأمر ولا يحزنون. لكن كولومبا، بعنادها وقوة شكيمتها تجابه هذا كله، وتظل تطن كالشيطان الوسواس في أذني أخيها. وتكون النتيجة أن يخضع أورسو لمنطقها، بعدما "يتيقن" بدوره أن أباه إنما قتل بأيدي عائلة باراتشيني، وتستأنف الحرب بين العائلتين منطقها.

وذات يوم يحدث أن يلتقي أورسو بابني عميد العائلة المعادية في الغابة، فيطلقان النار عليه تحسباً فيجرح لكنه يتمكن من قتلهما معاً... وعند ذاك لا يبقى أمامه مفر من اللجوء إلى الخلاء مع اثنين من جماعته، وهناك تنضم إليه أخته كولومبا في رفقة صديقة إنجليزية لها تقع في غرامه. وتقوم الفتاتان بنقل الشاب الجريح إلى المنزل، وإثر ذلك تقوم الشرطة بالمطاردة وتقبض عليهما، غير أن المحافظ سرعان ما يتدخل مطلقاً سراحهما أملاً في أن ينهي ذلك سلسلة الانتقامات. وحين يشفى أورسو يتزوج الإنجليزية ويرحل بعيداً من الجزيرة تتبعه كولومبا، بينما يبقى عميد أسرة بارانشيني وقد فقد عقله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الخدعة في البداية

من الواضح أن النهاية تبدو هنا مفبركة، غير أن هذا الحكم لا ينطبق على القصة كلها، فهي بشهادة النقاد حسنة البناء، مقنعة في تسلسل أحداثها، وتنتمي حقاً إلى خير ما كتبه ميريميه الذي يعد، على رغم كل شيء، كاتباً رومانسياً.

وهو ولد في باريس عام 1803، درس المحاماة أولاً ومارسها ثم امتهن الكتابة، وبعد فترة انتظم في العمل الإداري الحكومي ثم أصبح من رجال بلاط الإمبراطورة أوجيني، في وقت لم يتوقف فيه عن الكتابة للمسرح وفي مجال القصة والرواية. وهو دخل الأكاديمية عام 1844 وانتخب سيناتوراً، ومات في "كان" عام 1870.

أما بداياته الأدبية فكانت عبارة عن خدعة: عبر كتاب "مسرح كلارا غازول" (1825) الذي زعم أنه عن ممثلة إسبانية عاشت بحسب الكتاب حياة عجيبة غريبة، ثم تبين لاحقاً أنها لم توجد أبداً.

ولقد أنتج ميريميه الكثير، ناهيك بأن كثراً من محبي الأدب الروسي من الفرنسيين في زمنه يدينون له بتعريفهم بأمهات الآداب والأفكار الروسية في ذلك الحين، إذ إن ميريميه كان، إلى جانب مآثره الأدبية الكبرى، واحداً من أوائل الذين ترجموا نيقولاي غوغول وألكسندر بوشكين إلى لغة موليير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة