ملخص
"الحرب تسببت بفقدان المشروع 75% من قوة معدات الهندسة الزراعية وتعرض ما بقي منها للسرقة والنهب، مما يجعل الموسم الشتوي في حاجة عاجلة إلى توفير تلك المعدات".
وجهت الحرب في السودان ضربة قاصمة للقطاع الزراعي وبخاصة مشروع الجزيرة الذي يعد قاطرة الاقتصاد السوداني، إذ كان يعاني أصلاً بسبب السياسات الخاطئة وتسييس قضاياه إبان النظام السابق بإصدار قانون 2005، مما أدى إلى إعادة الهيكلة في المشروع وتصفية بناه التحتية وتشريد آلاف العاملين والمفتشين الزراعيين الأكفاء المهرة.
منذ اجتياح قوات "الدعم السريع" ولاية الجزيرة وسط السودان في ديسمبر (كانون الأول) 2023، وعلى مدى 12 شهراً تعرض المشروع لأضرار بالغة، فضلاً عن حجم الدمار الذي لحق بالبنى التحتية وعمليات النهب والسلب والتخريب التي طاولت الأصول الثابتة والمتحركة والممتلكات الشخصية، وكذلك المخازن والسيارات والمصانع ومحالج القطن.
سرقة ونهب
في السياق، قال المزارع في المشروع أحمد الجيلي إن "الحرب تسببت بفقدان المشروع 75 في المئة من قوة معدات الهندسة الزراعية وتعرض ما بقي منها للسرقة والنهب، مما يجعل الموسم الشتوي في حاجة عاجلة إلى توفير تلك المعدات"، وأضاف أن "بنيات الري التحتية خصوصاً الفرعية تعرضت لتدمير واسع خلال العامين الماضيين، فتحول معها عدد كبير من الحقول داخل المشروع إلى شبه أدغال بسبب هجر ونزوح المزارعين والنمو العشوائي للحشائش الطفيلية، مما يجعل مشكلة تطهير قنوات الري من أكبر المعضلات التي تهدد الموسم الزراعي الشتوي".
وأوضح الجيلي أن "توفير البذور يمثل أيضاً أحد أكبر المهددات أمام الموسم الشتوي، إذ كان المشروع يعتمد على توفير البذور المحسنة والأصناف المجازة من قبل مجموعة من الشركات التي فقدت في معظمها مخزونها من البذور، لكنها لم تتمكن من إنتاج كميات كافية لتغطية مساحة المشروع، لا سيما بذور الذرة كمحصول أمن غذائي والقطن كمحصول نقدي".
تدابير مهمة
ويشتكي المزارع الرشيد سليمان من مشكلات الري المتفاقمة بسبب عدم صيانة مضخات المياه وغياب عمليات تطهير القنوات التي تعاني تراكم الحشائش والطمي نتيجة انعدام التمويل وعدم حماسة الشركات العاملة في تلك المجالات للعمل، مضيفاً أن "المشروع يحتاج إلى تأهيل منظومة الري التي تعتمد على طلمبات انتهى العمر الافتراضي لعدد كبير منها، على رغم أنها تروي مساحات شاسعة من المشروع".
واعتبر سليمان أن "حل هذه الأزمات في وقت مبكر يسهم في زراعة مساحات شاسعة ويعزز إمكان إنتاج محاصيل عدة يعول عليها في تحسين موقف الأمن الغذائي بالبلاد"، وطالب بضرورة وضع الزراعة ومشاريع الأمن الغذائي ضمن الأولويات، بخاصة في ظل ظروف المجاعة الحرجة وما يمر به السودان من أزمات اقتصادية وأوضاع إنسانية معقدة.
وشدد المزارع السوداني على "أهمية وضع التدابير اللازمة لحل مشكلات مشروع الجزيرة وإنجاح الموسم الشتوي في كل مراحله، منذ التحضير وتوفير المدخلات من مقويات وسماد ووقود".
تحديات الإعمار
من جانبه، أشار عضو تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل هشام جادين إلى أن قوات "الدعم السريع" سيطرت على المشروع و"استباحت أكثر من 55 في المئة من مساحته، فضلاً عن الاستيلاء على المعدات والمعينات المهمة للإنتاج، وإحداث تخريب واسع في المنطقة".
ونوه جادين بأن "المشروع تعرض لعمليات تخريب ونهب طاولت مدبغة الجلود ومخازن الأسمدة والتقاوي والمكاتب والسيارات والمنقولات بواسطة جنود ’الدعم السريع‘، مما أسفر عن خسائر تقدر بملايين الدولارات".
ولفت إلى أن "الدعم المطلوب لإعادة إعمار المشروع يحتاج إلى نحو 12 مليون دولار، وكذلك مطلوب صيانة عاجلة لشبكة الري بـ15 مليون دولار، ووحدة طوارئ لأعمال الري خاصة بالمشروع بـ10 ملايين دولار"، وأردف "هناك متطلبات أساسية تسهم في معالجة الأزمات وتعيد المشروع أفضل مما كان عليه في السابق، منها إعادة نظام التمويل الحكومي بعدالة للمزارعين ومؤسسة الأقطان السودانية، وكذلك تأهيل البنية التحتية وعودة هيئة سكك الحديد".
خطة مستقبلية
على الصعيد نفسه، أوضح محافظ مشروع الجزيرة إبراهيم مصطفى أن "الإحصاءات الأولية تقدر حجم الخسائر في المشروع بسبب الحرب التي شنتها ’الدعم السريع‘ على البلاد، بنحو 300 مليون دولار حتى الآن قابلة للزيادة مع استمرار حصر الأضرار".
ولفت إلى أن المجموعة المسلحة عمدت خلال هجومها إلى دخول المشروع وعاثت فساداً بكل جوانبه بما فيها نهب الأصول الثابتة والمعدات ومحطات الكهرباء، وتخريب الورش وحتى الأسمدة والمقويات، فوقع الضرر الأكبر على قسم الجزيرة مقارنة بقسم المناقل".
وبين مصطفى أن "إدارة المشروع باشرت مهماتها بوضع خطة مستقبلية لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، وتسعى إلى البدء الفوري بإلحاق المشروع بموكب الإنتاج العالمي والإعداد للمراحل الزراعية التالية، بخاصة أنها تسلمت المشروع من الجيش والقوات المساندة وهو خالٍ من التهديدات الأمنية".
ويرى محافظ مشروع الجزيرة أن "دولاً عدة في مجال البنية الأساس للري وإنتاج المقويات إلى جانب شركات المعدات الزراعية على أنواعها، تقدمت للاستثمار في المشروع".
تحذير ومخاوف
إلى ذلك، حذر "حزب المؤتمر السوداني" ولاية الجزيرة من بوادر انهيار كامل للمشروع الذي يمثل العمود الفقري للاقتصاد الوطني والضامن الأساس للأمن الغذائي لملايين السودانيين.
وقال القطاع الزراعي بالحزب في بيان "إنه ظل يراقب ومنذ أعوام مسار التدهور المتسارع في المشروع، وفي كامل منظومة الري، إذ تتزايد معاناة المزارعين وتفقد القرى قدرتها على الصمود، في وقت تنشغل فيه سلطة الأمر الواقع بسياسات قصيرة النظر تفتقر إلى المهنية والشفافية وتدار عبر التمكين والمحسوبية لا عبر المؤسسات الفنية والفرق الهندسية".
وأشار إلى أن "الموارد المالية التي كان من المفترض أن تُوجه لعمليات التأهيل والإصلاح ذهبت في غير مواضعها لدعم الحرب، مما أدى إلى تراجع المساحات المزروعة وانخفاض الإنتاجية بصورة غير مسبوقة وإفقار آلاف الأسر التي تعتمد على الزراعة كمصدر رزق وحيد".
ووصف البيان أزمة الري الحالية بأنها تمثل قلب المشكلة في الموسم الشتوي مع غياب المعدات لإزالة الحشائش، مما ينذر بفشل مبكر للموسم ولا بد من حلول إسعافية عاجلة".
وناشد الحزب المنظمات العاملة في المجال الزراعي لإيجاد حلول لهذه الأزمة، وأكد أن الحلول الجذرية تتطلب رؤية متكاملة تقوم على إعادة تأهيل القنوات الرئيسة والفرعية وإزالة الطمي بصورة منهجية".
معالجات إسعافية
على نحو متصل، قال الأمين العام لمؤتمر الجزيرة المبر محمود إن "المزارعين تعرضوا للإفقار وفقدوا قليلاً مما كانوا يمولون به العمليات الزراعية ذاتياً، فضلاً عن عمليات النزوح، إذ لا يزال كثير من سكان الولاية خارجها".
ووفق محمود باشر المؤتمر بوصفه كياناً مجتمعياً يضم قدامى المزارعين والاختصاصيين الزراعيين من الولاية، بتحركات واتصالات مع الحكومة المركزية ووزارات الزراعة والري لإيجاد معالجات إسعافية عاجلة لتحديات ومشكلات الري ومدخلات الإنتاج.
وطالب بضرورة تكوين لجنة متخصصة من أصحاب المصلحة وقيادات العمل الزراعي بالمشروع من أبناء الجزيرة (بعيداً من الأحزاب) لتقديم رؤية للدولة لمعالجة المشكلات الملحة بغية إنقاذ المشروع بأسرع وقت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رؤية شاملة
على النحو ذاته، أوضح المتخصص في الشأن الاقتصادي عبدالناصر الحاج أن "مشروع الجزيرة الذي تبلغ مساحته مليونين و200 فدان يحتاج إلى رؤية وطنية شاملة تعيد دوره التاريخي، لا بوصفه مشروعاً زراعياً فحسب، بل كقاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان".
وناشد الحاج الدولة والمؤسسات العامة والخاصة ذات الصلة بالشأن الزراعي، الإسراع في وضع خطة طوارئ لإنقاذ مشروع الجزيرة، وكذلك تمكين المزارعين بإعادتهم إلى العملية الإنتاجية من خلال سياسات عادلة للتمويل والتسويق، وتوفير المدخلات الزراعية في الوقت المناسب.
وتابع المتخصص في الشأن الاقتصادي "تشمل التحديات تأهيل البنية التحتية والتمويل وتوطين مدخلات الإنتاج، إضافة إلى صناعة التقاوي في السودان وتوطين صناعة الأسمدة، إلى جانب دعم البحوث الزراعية لزيادة الإنتاجية".
قاطرة الاقتصاد
يقع مشروع الجزيرة الذي يعد قاطرة الاقتصاد السوداني في السهل الطيني وسط البلاد بين النيلين الأزرق والأبيض ممتداً من ولاية سنار وحتى جنوب الخرطوم، ويصنف كأكبر مشروع مروي في أفريقيا وأكبر مزرعة في العالم ذات إدارة واحدة.
وأنشأت الإدارة البريطانية المشروع عام 1925، لمد المصانع البريطانية بحاجتها من خام القطن الذي شكل العمود الفقري لاقتصاد السودان ما بعد الاستقلال.
وظل مشروع الجزيرة منذ نحو قرن من الزمن المصدر الرئيس لتوفير العملات الصعبة لخزانة الدولة عبر زراعة القطن، لكن مع تقلص مساحاته فقد السودان أسواقه العالمية لتصدير المحصول، ومن الآثار التي جرى رصدها هو أنه صاحبه انهيار في كثير من المرافق الحيوية في ولاية الجزيرة، التي يقطنها نحو 5 ملايين نسمة، خصوصاً الصناعات التحويلية والحركة التجارية.