Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الهملايا" تبوح بأسرارها... قصة تجسس أميركية قبل 60 عاما

مهمة سرية لـ"سي آي أي" للتنصت على الصين انتهت بضياع جهاز نووي منذ الستينيات من دون أن يعثر عليه حتى اليوم

مشاهد من تركيب معدات المراقبة خلال تجربة ميدانية على جبل ماكينلي في يوليو 1965 (أرشيف القبطان كولي - نيويورك تايمز)

ملخص

يكشف تقرير "نيويورك تايمز" تفاصيل مهمة تجسس أميركية سرية في الستينيات انتهت بفقدان جهاز نووي يعمل بالبلوتونيوم في جبال الهملايا، ولا يزال مفقوداً حتى اليوم.

في أعلى قمم سلسلة جبلية تمتد بين خمسة بلدان آسيوية وقعت واحدة من أغرب العمليات الاستخبارية في القرن الـ20، حين حاولت الولايات المتحدة مراقبة الصعود النووي الصيني من قلب جبال الهملايا، وتحديداً على جبل ناندا ديفي، الذي ما زال مغلقاً أمام المتسلقين منذ أعوام طويلة.

كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في تقرير موسع عن فصل غير معروف من تاريخ الصراع الدولي، يتمحور حول مهمة سرية نفذتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) قبل ستة عقود، بهدف التجسس على البرامج النووية الصينية، لكن العملية انتهت بفقدان جهاز نووي يعمل بالبلوتونيوم على ارتفاع يفوق 7 آلاف متر في جبال الهملايا، من دون العثور عليه حتى اليوم.

وتعود القصة إلى منتصف الستينيات، حين كانت واشنطن ونيودلهي تراقبان بقلق دخول الصين النادي النووي بعد تفجيرها أول قنبلة ذرية عام 1964، لم تكن لدى الولايات المتحدة ولا الهند شبكات تجسس بشرية فعالة داخل الصين، فبدأ البحث عن وسائل تقنية لرصد تجاربها الصاروخية من بعيد.

مهمة سرية على "سطح العالم"

من هنا ولدت خطة جريئة وهي إرسال فريق من متسلقي الجبال الأميركيين، بالتعاون مع نخبة المتسلقين الهنود، إلى قمة جبل ناندا ديفي وهو ثاني أعلى جبل في الهند، لنصب محطة تجسس تعمل بالطاقة النووية، تستطيع التقاط إشارات الراديو (التليمتري) المنبعثة من الصواريخ الصينية في أثناء تحليقها، وإرسالها عبر محطات ترحيل سرية إلى نيودلهي ثم إلى مقر وكالة الاستخبارات الأميركية.

وتشير الصحيفة إلى أن وكالة الاستخبارات اختارت عدداً من المتسلقين الأميركيين المشهود لهم بالكفاءة، ليس فقط لمهاراتهم في التسلق، بل أيضاً لـ"قدرتهم على إبقاء أفواههم مغلقة".

وعلى الجانب الهندي، أوكلت المهمة إلى القبطان أم أس كولي، ضابط البحرية المكرم الذي قاد متسلقين هنوداً إلى قمة إيفرست قبل أعوام قليلة، فبات اسماً مرجعياً في مجتمع التسلق الهندي.

مولد نووي في حقيبة ظهر

ووفق "نيويورك تايمز"، كان جوهر العملية جهازاً صغيراً يُعرف باسم SNAP-19C، وهو مولد كهربائي محمول يعمل بوقود مشع من نظيري البلوتونيوم Pu-239 وPu-238، طور في مختبرات أميركية شديدة السرية، ومثلت تقنيته حينها نقلة نوعية في تشغيل أجهزة بعيدة من مصادر الطاقة التقليدية، من أعماق البحار إلى الفضاء الخارجي.

كان المولد بحجم كرة شاطئ تقريباً ويزن نحو 50 رطلاً، محملاً بسبع كبسولات من البلوتونيوم، ويعتمد على حرارة التحلل الإشعاعي لتوليد الكهرباء، مما يضمن عمله أعواماً في أقسى الظروف الجوية على قمم الهملايا.

 

سبق ذلك تدريبات مكثفة في ألاسكا على جبل ماكينيلي، وفي منشآت حكومية أميركية سرية للتعامل مع المتفجرات والمعدات الحساسة، وصولاً إلى مصنع الشركة المتعاقدة التي صنعت المولد، إذ تمرن المتسلقون على تركيب كبسولات البلوتونيوم وتنظيم الجهاز بسرعة ودقة.

صعود مرهق… وقرار مصيري

وصل الفريق الأميركي إلى نيودلهي في سبتمبر (أيلول) 1965 تحت غطاء من السرية، ثم نقلت المجموعة المشتركة من الأميركيين والهنود بالهليكوبتر إلى سفح جبل ناندا ديفي، من دون إتاحة وقت كافٍ للتأقلم مع الارتفاع، مما تسبب في إصابات واسعة بدوار المرتفعات، وصداع حاد، وغثيان، وإرهاق شديد.

ومع ذلك، واصل المتسلقون الصعود عبر سلسلة من المعسكرات المتدرجة نحو القمة، على حافة جبلية توصف بأنها "كحد السكين"، في ظروف من البرد القارس والرياح العاتية.

وكان الشيربا هم من شعوب التبت في الهملايا، يتنافسون على حمل كبسولات البلوتونيوم الدافئة في حقائبهم، من دون أن يخبرهم أحد بطبيعة "الدفء" الذي يتلحفون به في خيامهم.

في منتصف أكتوبر (تشرين الأول)، وبينما كانت البعثة تتهيأ لدفع الهجوم الأخير نحو القمة ونصب جهاز التلصص، ضربت عاصفة ثلجية عنيفة المنطقة، وتساقط الثلج بكثافة وصلت إلى مستوى الأفخاذ، وانخفض مدى الرؤية إلى حد أن المتسلقين لم يعودوا يرون بعضهم بعضاً أو الحبال التي تربطهم.

 

ومن معسكر القاعدة المتقدم كان القبطان كولي يتابع الوضع عبر اللاسلكي، فيما كان الرجال في الأعلى، وعند هذه النقطة، أصدر كولي أمراً سيصبح محور الجدل عقوداً، وهو العودة فوراً وإنقاذ الأرواح، وترك المعدات، بما فيها المولد النووي، مربوطة على رف جليدي في "المعسكر الرابع".

احتج المتسلق الأميركي جيم ماكارثي بشدة وحذر من أن ترك المولد "خطأ فادح"، لكن القرار كان بيد القيادة الهندية على أرض هندية، كما تقول الرواية.

وهبط المتسلقون إلى أسفل الجبل وهم بالكاد أحياء، تاركين على ارتفاع يفوق 7 آلاف متر جهازاً نووياً يحتوي، وفق الصحيفة، على ما يقارب ثلث كمية البلوتونيوم المستخدمة في قنبلة ناغازاكي.

عندما ابتلع الجليد السر

مع نهاية موسم التسلق، لم يكن ممكناً العودة فوراً لاستعادة الجهاز، وانتظر القبطان كولي وفريق جديد من المتسلقين حتى مايو (أيار) 1966، أي إلى موسم العام التالي، لمحاولة الوصول من جديد إلى المعسكر الرابع.

لكن المفاجأة كانت صاعقة، فعند الرف الجليدي الصخري الذي ثبتت عليه المعدات اختفى بالكامل، ومعه المولد النووي، ولم يبق سوى بقايا أسلاك متناثرة، رجحت البعثة أن انهياراً ثلجياً شتوياً ضخماً اقتلع الطبقة الجليدية بأكملها ودفع بالمعدات إلى أعماق النهر الجليدي.

توالت بعد ذلك بعثات بحث جديدة في 1967 و1968، استخدمت فيها أجهزة قياس إشعاع (ألفا كاونتر)، وتلسكوبات لمسح المنحدرات، وأجهزة استشعار حراري، وكواشف معدنية، لكن من دون جدوى.

ويعتقد ماكارثي اليوم أن المولد "دفن نفسه في أعمق جزء من الجليد"، بفعل الحرارة التي يبثها والتي تساعده على الذوبان إلى أسفل الطبقات الجليدية.

في المقابل، نجحت "سي آي أي" لاحقاً في نصب جهاز مراقبة آخر يعمل بالوقود المشع على قمة أقل ارتفاعاً قرب ناندا ديفي عام 1967، لكن الثلوج كانت تدفنه باستمرار، حتى إن المولد ذاب داخل الغطاء الجليدي، واستقر في ما يشبه "قبو" تحت الثلج، قبل أن تستعاد تلك المعدات وتعاد إلى الولايات المتحدة في أواخر الستينيات، مع ظهور أقمار التجسس التي جعلت محطات الجبال أقل جدوى.

أما جهاز ناندا ديفي الأصلي فلم يُعثر عليه حتى اليوم.

من مهمة سرية إلى فضيحة سياسية

ظلت القصة في طي الكتمان أكثر من عقد، مقيدة في البرقيات السرية باسم "حادثة الهملايا" أو "قضية ناندا ديفي"، إلى أن فجر صحافي شاب يدعى هوارد كوهن القضية في مجلة "أوتسايد" عام 1978، بعد سلسلة من التحقيقات التي قادته إلى المتسلقين وإلى باري بيشوب، المصور الشهير في "ناشيونال جيوغرافيك" الذي أدى دوراً مركزياً في تنظيم البعثة تحت غطاء "بعثة علمية لدراسة الغلاف الجوي".

وأثار التقرير عاصفة سياسية في الهند، فوجئ الرأي العام بأن حكومة بلاده، التي كانت ترفع راية عدم الانحياز في الحرب الباردة، تعاونت سراً مع "سي آي أي" لنقل جهاز نووي إلى قلب جبالها، وخرج متظاهرون إلى الشوارع يحملون لافتات تحمل عبارة "’سي آي أي" تسمم مياهنا"، ودعا نواب في البرلمان إلى تحقيق شامل في مكان الجهاز ومن أمر بالمهمة ولماذا أخفيت.

في واشنطن، أقرت مذكرة داخلية رفعت إلى الرئيس جيمي كارتر بأن قصة كوهن "صحيحة في جوانب رئيسة"، لكنها أوصت بالتمسك بالموقف التقليدي ولم تعلق على مزاعم تتعلق بأنشطة استخبارية.

في المقابل، كان القلق الأميركي الأكبر يتمحور حول رد فعل نيودلهي، واحتمال تحميل واشنطن علناً مسؤولية تعريض منابع الغانج للخطر.

 

في البرلمان الهندي، قلل رئيس الوزراء مورارجي ديزاي من احتمال وجود خطر فوري، لكنه أعلن تشكيل لجنة متخصصين لفحص المياه في المنطقة ودراسة الأخطار على "مياه نهرنا المقدس الغانج"، كما نقلت سجلات الجلسات.

وخلص التقرير الصادر عام 1979 إلى أن الجهاز ما زال مفقوداً، لكنه رأى أن احتمال تلوث المياه بالإشعاع "ضئيل للغاية"، استناداً إلى العينات التي جرى تحليلها.

في الوقت نفسه، تُظهر مراسلات دبلوماسية سرية أن واشنطن ضغطت على نيودلهي لعدم الاعتراف رسمياً بوجود العملية من الأساس، وأن كارتر شكر ديزاي لاحقاً، في رسالة سرية، على "الطريقة التي تعامل بها مع مشكلة الجهاز في الهملايا"، في إشارة إلى نجاحه في تهدئة الغضب الداخلي من دون فتح مواجهة علنية مع الولايات المتحدة.

هل يهدد البلوتونيوم نهر الغانج؟

على رغم مرور عقود، فلم تهدأ الأسئلة في الهند، لا على المستوى الشعبي ولا داخل الأوساط البحثية والسياسية، لا سيما أن الأنهار الجليدية في ناندا ديفي تغذي روافد نهر الغانج، وهو شريان الحياة الذي يعتمد عليه مئات الملايين في الهند، من مياه الشرب إلى الزراعة والطقوس الدينية.

ويشير بعض المختصين إلى أن حجم المياه الهائل في حوض الغانج قد يخفف من أثر أي تسرب محتمل للمواد المشعة، ويجعل خطر التلوث الواسع "محدوداً"، لكن هذا لا يلغي مخاوف أخرى أكثر مباشرة، فماذا لو ظهر الجهاز نفسه، أو كبسولات البلوتونيوم، إلى السطح بفعل ذوبان الجليد وتسارع التغير المناخي؟

يحذر متخصصون من أن أخطر سيناريو لا يتمثل في "انفجار" الجهاز إذ لا يحتوي على آلية تفجير كسلاح نووي بل في احتمال استخدام البلوتونيوم في "قنبلة قذرة" إذا وقع في الأيدي الخطأ، عبر تفجير مادة مشعة ونشر غبارها في الهواء لإحداث ذعر وأضرار صحية طويلة الأمد.

 

على المستوى المحلي، تعمق الكوارث الطبيعية هذه المخاوف، ففي عام 2021، تعرضت منطقة قريبة من ناندا ديفي لانهيار جليدي هائل أدى إلى مقتل أكثر من 200 شخص وتدمير سد كهرومائي.

ورأى بعض السكان والمسؤولين السابقين، وبينهم القبطان كولي قبل وفاته، أن "حرارة" المولد المفقود قد تكون أدت دوراً في زعزعة استقرار الجليد، وإن كان كثير من العلماء يرجحون أن الاحترار العالمي وذوبان الأنهار الجليدية هما العامل الرئيس.

مع ذلك، يردد ناشطون بيئيون وقرويون يعيشون على طريق ناندا ديفي سؤالاً بسيطاً "إذا كان البشر استطاعوا الوصول إلى القمر، فلماذا لا يستطيعون العثور على جهاز واحد مفقود في الجبل؟".

ذاكرة الجبل… وندم المشاركين

لا تقتصر القصة على التقنية والجغرافيا والسياسة، فهي أيضاً حكاية بشرية لمجموعة من الرجال حملوا جهازاً نووياً على ظهورهم إلى "سطح العالم"، ثم عاشوا بقية حياتهم يتأملون ثمن تلك المهمة.

بعض الحمالين من الشيربا كانوا يحتضنون كبسولات البلوتونيوم ليتدفأوا ليلاً، من دون أن يوضح لهم أحد ماهيتها أو أخطارها.

المتسلق الأميركي جيم ماكارثي أصيب بسرطان في السبعينيات، ويرى أن تعرضه للإشعاع خلال التعامل مع المولد ربما أدى دوراً في إصابته، وخصوصاً أن عائلته لا تمتلك تاريخاً مرضياً مشابهاً.

آخرون ظلوا مقيدين بقسم الصمت، يخشون الحديث عن مهمة لا تزال أوساط رسمية في الهند والولايات المتحدة تتجنب الخوض في تفاصيلها حتى اليوم.

حتى المصور الذي موه المهمة تحت شعار "بعثة علمية"، باري بيشوب، ترك وراءه، في صندوق حديدي في مرأب منزلي في ولاية مونتانا، ملفات مرتبة بدقة مثل بطاقات عمل مزيفة، وقوائم معدات، وخرائط، ومراسلات مع "سي آي أي"، وبرقيات تعكس قلقه من انكشاف الغطاء.

 

وعثر ابنه، المتسلق برنت بيشوب، على هذه الأوراق أخيراً، وقال إنه يشعر بـ"مزيج من الفخر والالتباس" إزاء ما حاول والده وفريقه فعله.

أما القبطان كولي، الذي عُد لعقود بطلاً قومياً في سجل التسلق الهندي، فيختم شهادته، كما نقلت عنه "نيويورك تايمز"، بندم واضح قائلاً إن "سي آي أي" لم تصغِ لتحذيراته، وإن خطتها "كانت حمقاء"، وإنه ما كان ليقود المهمة بالشكل نفسه لو أتيح له أن يعود إلى الوراء، ثم يصف القصة كلها بأنها "فصل حزين" في حياته.

فصل مفتوح من قصة لم تنتهِ

بعد نحو ستة عقود على تلك الليلة العاصفة في ناندا ديفي، يظل الجهاز النووي الأميركي المفقود تحت جليد الهملايا عنواناً لفصل لم يُكتب آخره بعد، فصل يتقاطع فيه هوس التجسس النووي، وتاريخ العلاقات الأميركية – الهندية، والهواجس البيئية، وتحولات المناخ، والذاكرة الشخصية لمتسلقين وجدوا أنفسهم بين مطرقة الواجب الوطني وسندان الخطر.

وبينما تمضي الهند قدماً في بناء سدود جديدة، وشق طرق عسكرية على حدودها مع الصين، وتتكثف النقاشات حول إعادة فتح ناندا ديفي أمام المتسلقين، تعود الأسئلة ذاتها إلى السطح وهو أين ذهب ذلك المولد النووي؟ هل ما زال يذوب ببطء في أعماق نهر جليدي؟ وهل يكون أول من يعثر عليه راعياً في قرية نائية، أو متسلقاً هاوياً، أو ربما مشروع "قنبلة قذرة" في زمن اضطراب جديد؟

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات