Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رومان رولان يبحث عن البطولة في "حياة بيتهوفن"

السيرة التي كتبها الإنساني الفرنسي لعبقري الموسيقى جاءت احتجاجاً على قسوة القدر وكشفاً عن صمود المبدع أمام مآسيه

هذا ما وجده رومان رولان (1866 - 1944) في معنى البطولة عند لودفيغ فون بيتهوفن (1770 - 1827) (اندبندنت عربية)

ملخص

كان الكاتب والداعية السلمي الفرنسي رومان رولان يبحث، بعد صدمة نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20 وكما قال هو شخصياً، عن نماذج مضادة لروح العنف والتفكك التي كانت تخيم على أوروبا. فوجد في ثلاث شخصيات "قامات مطلقة" يمكن للإنسان أن يجد فيها عزاء ومرشداً همك بيتهوفن ومايكل آنجلو وتولستوي

عند بدايات القرن الـ20 جلس الكاتب والداعية السلمي الفرنسي الكبير رومان رولان يرصد ما وصلت إليه أحوال البشرية، وقد أرعبته الصدمة الحضارية التي مثلتها تلك المرحلة الانتقالية بين قرنين وزمنين ونوعين من الأخلاق تكاد البشرية في شكل عام تنأى عن قيمها تحت وطأتهما. ولما كان رولان من المفكرين الذين يشعرون بالمسؤولية العامة، وبأن من المحتم عليه أن يشارك في البحث عن حلول، وجدناه يختصر تلك الحلول حينها بثلاث سير كتبها لحياة ثلاثة من عظماء الإبداع في تاريخ البشرية، هم بيتهوفن ومايكل آنجلو وأخيراً تولستوي.

والحقيقة أن الاختيار لم يكن عشوائياً بالنسبة إلى كاتب يبحث عن البطولة فيما وراء، بل خارج، السمات التي جعلت منها المجتمعات والأزمنة صنوا لتلك البطولة.

كان رولان يبحث، بعد صدمة نهاية القرن الـ19 وبداية القرن الـ20 وكما قال هو شخصياً، عن نماذج مضادة لروح العنف والتفكك التي كانت تخيم على أوروبا. فوجد في تلك القامات الثلاث "قامات مطلقة" يمكن للإنسان أن يجد فيها عزاء ومرشداً.

والحقيقة إن السير الثلاث لم تأت كمجرد تاريخ يروي حيوات أصحاب العلاقة، بل جزءاً من مشروع أكبر سماه "ديانة البطولة الروحية" هو الذي كان يرى أن المجتمعات في حاجة إلى رموز تذكرها بما يمكن للإنسان أن يبلغه حين يتجاوز ذاته، بمعنى أن كل واحد من هؤلاء الثلاثة الذين توقف عنهم وعند بطولتهم، عرف بالتأكيد كيف يتجاوز ذاته عبر علاقة حياته بأعماله.

ولا شك أن انطلاقة رومان رولان (1866 - 1944) من بيتهوفن لم تكن صدفة. فهو كتب سيرة هذا الأخير لينشرها عام 1903 والقرن في بدايته، وانتظر ثلاثة أعوام قبل أن ينشر في عام 1906 "حياة مايكل آنجلو" ثم خمسة أعوام أخرى قبل أن يختم الثلاثية في عام 1911 بحياة تولستوي.

ونبدأ هنا بأول تلك الكتب وأشهرها، "حياة بيتهوفن" على أن نعود إلى الكتابين الآخرين في الحلقتين التاليتين.

الإرادة في مواجهة القدر

لقد كان كتاب "حياة بيتهوفن" أول تلك الكتب وسيبقى أشهرها، أولاً انطلاقاً من شهرة صاحب العلاقة نفسه ومكانته في التراث الإنساني، وثانياً لأن رومان رولان سيبدو فيه وكأنه أفرغ على صفحاته شحنة عاطفية هائلة تنبع من جوانيته الخاصة بأكثر مما فعل في أي كتاب آخر له. وكان أعلن بصدده على أية حال، أن غايته إنما "تكمن في جعل القراء يتنفسون معنى البطولة الحقيقية".

ومع ذلك لو نظرنا إلى الكتاب نظرة مجردة سنجد أنه، تقنياً، يكاد يبدو سيرة عادية تضم نصوصاً متفرقة ومجموعة من الأفكار والرسائل، وما إلى ذلك. غير أن الأهم يكمن هنا كالعادة في التفاصيل. وتحديداً في الطريقة التي تناول بها الكاتب حياة ذلك الموسيقي الذي عاش كل حياته منذ طفولته المبكرة حتى موته المؤسي، تحت مظلة البؤس والمعاناة، مروراً بالمرض الذي أسفر لديه وهو في الـ25 من عمره، عن إصابة بالصمم جعلت حياته جحيما، لكنها، لم تفعل. وهنا يكمن سر بطولته في نظر كاتب سيرته. البطولة التي يكاد الكتاب يجد لها اسماً مذهلاً: تاريخ الرغبة في المسرة. تاريخ يجابهه وبصورة متواصلة، "قدر معاكس لأي فرح وحياة ". قدر عبر عن نفسه بصورة متواصلة على شكل أمراض كانت تستهدف الموسيقي وتسعى إلى تدميره. "لا سيما إذ عبرت عن نفسها خاصة بذلك الصمم الذي لا يمكنه أن يكون أقل من موت بالنسبة إلى مبدع يقوم عمله وكيانه على إنتاج فن لا يمكنه هو نفسه أن يصغي إليه".

ومع ذلك يخبرنا رولان بما كنا نعرفه دائماً لكنه، هنا وبقلمه، يتخذ دلالة ومعنى جديدين، يخبرنا كيف أن بيتهوفن تمكن من أن ينتج سيمفونياته العظيمة ورباعياته التي لا تقل عنها عظمة، وهو أصم تماماً بل أنتج تلك المعجزة الفنية، أي سيمفونيته التاسعة المتضمنة تلحينه العجائبي لقصيدة "نشيد إلى الفرح"... بكلمات شيلر طبعاً. فما الذي مكنه من ذلك؟

البطولة الحقيقية

كان الجواب بالنسبة إلى رومان رولان في غاية البساطة: إنها البطولة، تلك البطولة الحقيقية التي وضع هذا الكتاب والكتابين التاليين له، لمجرد إعلان وجودها مختلفة كل الاختلاف عن نمط البطولات المتعارف عليه في السياقات التاريخية المعهودة. وفي حال بيتهوفن يذكرنا رولان بكيف أن ما قاوم به بيتهوفن صممه الذي تمكن منه وهو على وشك الانتقال إلى المرحلة الأكثر عظمة وعبقرية في مساره الإبداعي، كان إرادته وحدها تلك الإرادة التي وقفت في وجه بؤسه وفقره ومرضه، وعديد من تلك الأمور التي كان من شأنها لو جابهت غيره، أن تدفعه إلى اليأس القاتل. وهكذا إذ وجد الموسيقي الشاب نفسه يجابه لحظة انتقالية من حياته ويكاد يهوي أمام فاجعة لا يمكن لامرئ عادي مجابهتها، وجد إرادته تسمو به إلى ما يسميه الكاتب الفرنسي "أعلى ذرى البطولة" وهي تلك التي جعلته يتمرد على قدره دون أن ينسى لحظة أنه يجابه ما لا قبل لأي إنسان بمجابهته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن هنا لم يكن غريباً أن يقدم رومان رولان هنا على ما لم يسبقه إليه كاتب من طينته: أن يعطي للبطولة نفسها تعريفاً جديداً قائلاً، "إن البطل الحقيقي بالنسبة إلي هو ذاك الذي تغمر البطولة قلبه". أي لا تتجسد وحسب في بطولته العقلية أو طبعاً في بطولته الجسدية. ومن ثم يسبغ الكاتب على الإنسان في بيتهوفن، لا على الموسيقي الفنان فيه، قيمة مطلقة. أما في ما عدا ذلك، فإن رولان حرص على أن تتابع السيرة خطوة خطوة سيرة بطله من منطلق يقف على أية حال موقف الضد من الدعوات التي كانت رائجة خلال تلك المرحلة، ومن أبرزها دعوة "الفن للفن". فعلى عكس ذلك كان رولان يؤمن بالقيمة الأخلاقية للفن ويتفنن في الحديث عنها وشرحها لقرائه.

ولقد اتبع في تسلسل حياة بيتهوفن الذي اعتمده، على ربطه بتاريخ إنجازات الموسيقي الكبير متوقفاً باستفاضة عند مؤلفاته الرئيسة مركزاً في معظم الأحيان على مصادر إلهامه فيما هو يبدعها، مروراً بتفاصيلها المعرفية وردود فعل الجمهور العريض والنقاد عليها. فبالنسبة إليه كانت كل هذه العناصر هي تلك التي ينبغي أن توصل إلى القارئ أمضى دليل على عظمة المعارك البطولية التي خاضها بيتهوفن خلال حياته فجعلت منه ذلك "البطل الاستثنائي في تاريخ البشرية".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة