ملخص
يتوقع أن يقترب الدين الأميركي من 100 في المئة مع عجز يفوق 7%، وهو من الأعلى في العالم المتقدم.
السياسة والديون لا يمتزجان جيداً، ومن الحكمة أن ينظر الأميركيون عبر الأطلسي ليروا مدى صعوبة الأمور هناك، إذ أظهرت الحكومة البريطانية هذه المعضلة في موازنتها السنوية، بعدما وجدت نفسها عالقة في ثالوث مستحيل، فهي عاجزة عن إرضاء المقرضين والناخبين، وفي الوقت نفسه اتخاذ القرار الصحيح للاقتصاد. لذلك تجاهلت الحكومة الأربعاء الماضي وعودها بتحفيز النمو، وفضلت التركيز على سوق السندات وقاعدتها السياسية.
وتواجه فرنسا المعضلة نفسها، لكن بصورة أسوأ، فالديون الحكومية أعلى من مستوياتها في بريطانيا، والعجز المالي أكبر، ورفع الضرائب ليس مستحيلاً سياسياً فحسب، بل إن معدلات الضرائب المرتفعة أصلاً قد تجعل أية زيادة إضافية ذات نتائج عكسية.
أما خفض الإنفاق فمهمة أعقد حتى من بريطانيا، إذ أثبتت خفوض الرعاية الاجتماعية أنها غير قابلة للتنفيذ سياسياً، علاوة على أن تمرير موازنة في برلمان فرنسي منقسم بشدة يمثل تحدياً بحد ذاته.
وفي لندن، كان ذعر سوق السندات خلال فترة ليز تراس القصيرة للغاية كافياً ليذكر السياسيين بضرورة الإصغاء للمقرضين.
تقول صحيفة "وول ستريت جورنال" إن بعض بعض هذه المشكلات بدأت تظهر بالفعل في الولايات المتحدة، إلى جانب غياب الإرادة السياسية لمنع الأزمة من التفاقم، وما يفصل الولايات المتحدة اليوم عن أزمة مفاجئة في سوق الديون هو الدولار، غير أن امتلاك العملة الاحتياط العالمية ليس درعاً لا ينكسر كما يعتقد كثيرون.
وبالعودة لبريطانيا يظهر لنا كيف تقيد السياسة أي تحرك، إذ طرحت الحكومة فكرة رفع ضريبة الدخل - خطوة فعالة اقتصادياً - وأحبتها الأسواق، لكن السياسة دفعت وزيرة الخزانة راشيل ريفز للتراجع عنها واعتماد سلسلة زيادات ضريبية أصغر وأكثر تأجيلاً على المعاشات واستثمارات الشركات والقيادة، وهي ضرائب تقضم من النمو المحتمل لكنها، كما تأمل، تلفت انتباه الناخبين بدرجة أقل، وذهبت الأموال الإضافية لتمويل إنفاق اجتماعي فرضه نواب من حزبها بعد معركة خاسرة مطلع العام.
أما المعادل الأميركي هنا فهي الرسوم الجمركية، وهي ضريبة غير فعالة على بعض السلع الأجنبية، لكنها ممكنة وربما تحظى بشعبية موقتة. لكن السياسة الأميركية هشة مثل البريطانية، وعندما اعترضت الأسواق أو الناخبون، تراجعت الإدارة عنها، إذ تأجلت رسوم أبريل (نيسان) الماضي المتبادلة ثم خفضت بعد ذعر في سوق السندات، وهبطت من معدل فعلي بلغ 28 في المئة إلى 18 في المئة، وفق تقديرات "بجيت لاب" في جامعة ييل، وإن ظل المعدل الأعلى منذ عام 1934.
وأدت مخاوف الناخبين من أسعار الغذاء إلى إلغاء رسوم على القهوة والموز وبعض أنواع اللحوم المستوردة في خطوة منطقية، بخاصة أنها فرضت على منتجات لا تنتجها الولايات المتحدة أصلاً.
ماذا عن ثالوث الضرائب والإنفاق والاقتراض؟
تقول الصحيفة إن الولايات المتحدة لا تواجه بعد ثالوث الضرائب والإنفاق والاقتراض المتعارض، بفضل الطلب العالمي على الدولار الذي يضخ الأموال في سندات الخزانة، لكنها تشير إلى أن المؤشرات المقلقة بدأت تظهر، والوضع المالي يشير إلى احتمال تزايد الضغوط، على رغم النمو الاقتصادي الأقوى مقارنة بالدول الأخرى.
وتشير إلى أحدث التحذيرات التي ظهرت في السوق في لحظات حرجة، كان أحدثها تمرد أبريل الماضي، حين قفزت عوائد السندات الأميركية لأجل 10 أعوام وسط مخاوف من دوامة بيع شبيهة بما حدث في عهد تراس، قبل أن يتراجع الرئيس ترمب. وفي 2020، أظهرت الإغلاقات مدى خطورة هذه الدوامة، واضطر "الاحتياط الفيدرالي" إلى شراء أكثر من تريليون دولار من السندات لاستقرار السوق.
هل الدولار منقذ المالية الأميركية؟
تعتقد "وول ستريت جورنال" أن الوضع المالي الأميركي أسوأ بكثير مما تواجهه ريفز في بريطانيا، فصندوق النقد الدولي يتوقع بلوغ الدين العام البريطاني 95 في المئة من الناتج المحلي هذا العام بعجز 4.3 في المئة، بينما يتوقع أن يقترب الدين الأميركي من 100 في المئة مع عجز يفوق سبعة في المئة، وهو من الأعلى في العالم المتقدم.
وتقول إن ما ينقذ المالية الأميركية هو مكانة الدولار كعملة احتياط وتجارة عالمية، لكن كلا الدورين يواجه تحديات، فكلما زادت واشنطن من استغلال بقية العالم مالياً، ارتفع خطر بحث الآخرين عن بدائل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير إلى أربعة تهديدات للدولار هي زيادة العرض، والصين، وسلامة الاحتياطات، ونفور الحلفاء، أما التهديد الأكبر وفقاً للصحيفة فهو العرض، إذ تمول الولايات المتحدة عجزاً مالياً كبيراً وعجزاً تجارياً متسعاً، مما يجعلها مضطرة إلى جذب تدفقات أجنبية مستمرة لتمويل الإنفاق الحكومي والواردات، وهو وضع غير مستقر.
إلى جانب تكثيف الصين قليلاً استخدامها لليوان في التجارة، وإن ظل الدولار مهيمناً، علاوة على أن الصين وروسيا ودولاً أخرى مثل تركيا رفعت حيازاتها من الذهب بدلاً من الاحتياطات الدولارية خوفاً من تجميدها أو مصادرتها من واشنطن. أما الحلفاء، فأرعبتهم رسوم ترمب وتهديداته بفرض رسوم على احتياطاتهم الدولارية في سندات الخزانة.
وتقول الصحيفة إنه على رغم أن هذه العوامل لم تلحق ضرراً كبيراً بالدولار حتى الآن، فإنها جميعاً تضعف الثقة، وتحذر من أن الخطر يكمن في أن تستشعر الأسواق تغيراً قادماً، فترفع عوائد السندات تحسباً لتراجع المشترين الأجانب.
أما على الجانب الإيجابي، فتقول الصحيفة إنه من السهل نسبياً على الولايات المتحدة معالجة المشكلة، فالضرائب لديها هي الأدنى بين دول مجموعة السبع (30 في المئة فقط من الناتج)، مما يعني أن زيادتها ستضر بالنمو أقل من دول أخرى، أما الإنفاق الحكومي، وهو أيضاً الأدنى في المجموعة، فأصعب في الخفض، كما أظهرت تجربة "وزارة الكفاءة الحكومية" التي طرحها إيلون ماسك.
وختمت الصحيفة بالقول ليس واضحاً إن كان الساسة اليوم يعرفون ما يجب فعله فعلاً، لكن سواء عرفوا أم لا، فإن الفوز بالانتخابات مع الالتزام بقيود أسواق السندات سيكون مهمة صعبة، فالولايات المتحدة تستند إلى قوة الدولار لكن ليس إلى الأبد.