ملخص
قرار "الشيوخ" المنتظر سيعيد فتح ملفات عديدة، خصوصاً تلك المتعلقة بالضرائب وإيرادات الدولة، وهو ما قد يدفع لجنة التوفيق المشتركة إلى مواجهة معقدة عند محاولة صياغة حل وسط، ويصبح كل تعديل مرتبطاً بحسابات سياسية دقيقة، في ظل التوازنات الهشة القائمة بين الكتل المختلفة.
تدخل فرنسا اليوم السبت طوراً أكثر حساسية في مسار إعداد موازنة العام الحالي بعدما صوتت الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) ضد بند الدخل الذي يتناول الضرائب في خطوة تعكس عمق الانقسام السياسي وتراجع قدرة الحكومة على تمرير تشريعات مالية في بيئة شديدة التوتر.
ويأتي هذا التطور بينما تزداد ضغوط المستثمرين لخفض العجز المالي، إذ باتت الأسواق أكثر حساسية لأية مؤشرات إلى ضعف الانضباط المالي أو تباطؤ الإصلاحات.
في مارس (آذار) 2025 ارتفع مؤشر الأسعار الاستهلاكية (CPI) في فرنسا بنسبة 0.8 في المئة سنوياً، أما التضخم الأساس (باستثناء الطاقة والطعام) فبلغ 1.3 في المئة.
وتزداد تعقيدات المشهد مع خسارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غالبيته البرلمانية، إذ تعيش باريس منذ أكثر من عام حالاً من عدم الاستقرار السياسي بعد الانتخابات التشريعية المبكرة التي خسر فيها ماكرون غالبيته البرلمانية لتدخل البلاد مرحلة غير مسبوقة من الحكم المعتمد على تحالفات ظرفية واتفاقات هشة، هذا التفتت البرلماني جعل تمرير القوانين الأساس، وفي مقدمها الموازنة مهمة شديدة التعقيد تعتمد على أصوات قليلة قد تعرقل المسار بأكمله.
انقسام سياسي يربك مسار الموازنة
رفض البرلمان الفرنسي وفقاً لما نقلته "رويترز" لبند الدخل لا يقتصر على كونه إجراءً تقنياً، بل يمثل رسالة سياسية واضحة حول هشاشة الائتلاف الحاكم وصعوبة بناء توافقات في الملفات الاقتصادية الجوهرية. فالمشروع ينتقل الآن إلى مجلس الشيوخ، إذ يتوقع أن يتم حذف تعديلات واسعة أقرها النواب، مما يضاعف الفجوة بين المجلسين ويؤخر إمكان الوصول إلى صيغة مشتركة.
قرار "الشيوخ" المنتظر سيعيد فتح ملفات عديدة، خصوصاً تلك المتعلقة بالضرائب وإيرادات الدولة، وهو ما قد يدفع لجنة التوفيق المشتركة إلى مواجهة معقدة عند محاولة صياغة حل وسط، ويصبح كل تعديل مرتبطاً بحسابات سياسية دقيقة، في ظل التوازنات الهشة القائمة بين الكتل المختلفة.
بصورة عامة أخيراً، تشير التصنيفات الائتمانية إلى أن فرنسا تواجه ضغوطاً كبيرة بخصوص حجم الدين العام الذي يقترب من نسبة تفوق 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمال، وفقاً لوكالة "فيتش".
العامل الحاسم يتمثل في موقف الاشتراكيين الذين يدرسون، إما التصويت بالرفض، وإما الامتناع مقابل تعليق إصلاح نظام التقاعد المثير للجدل، وهو الثمن السياسي الذي تطلبه الكتلة لضمان تهدئتها.
وفي حال تمسك الاشتراكيون بموقف متشدد يتجه المشهد نحو مزيد من التعقيد، مما يعني رفع احتمال الفشل في إقرار الموازنة عبر المسار البرلماني التقليدي.
الدستور الفرنسي يمنح الحكومة خيار فرض الموازنة عبر مرسوم إذا لم يتم التوصل إلى حل بحلول أوائل ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وهو سيناريو يظل مطروحاً بقوة في ظل الانقسامات الراهنة.
وعلى رغم أن هذا الخيار قد يحسم الجدل سريعاً، فإنه يحمل أخطاراً سياسية، إذ قد ينظر إليه كالتفاف على البرلمان في لحظة تشهد أصلاً مستويات عالية من الاحتقان السياسي وانعدام الثقة بين المؤسسات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اقتصادياً، تقف فرنسا أمام ضغوط مالية قاسية، إذ ارتفع العجز المالي إلى مستويات أثارت قلق المؤسسات الأوروبية وأسواق السندات، خصوصاً بعد توسع الديون وتراجع وتيرة الإصلاحات.
وبدأت وكالات التصنيف الائتماني في توجيه إشارات تحذيرية حول قدرة باريس على ضبط مسار المالية العامة، مما رفع كلفة الاقتراض وزاد حساسية الأسواق لأي اضطراب سياسي.
وزادت الأزمة تعقيداً مع تمسك الحكومة بإصلاح نظام التقاعد، وهو مشروع أثار احتجاجات واسعة وخلق شرخاً سياسياً واجتماعياً عميقاً، بينما ترى المعارضة أن الحكومة فقدت الشرعية السياسية لتمريره بعد خسارتها الغالبية.
وفي المقابل تصر الرئاسة على أن الإصلاحات المالية والهيكلية باتت ضرورة لا تحتمل التأجيل لضمان استدامة الإنفاق العام.
أما على المستوى المؤسسي فقد أدت الانقسامات إلى اعتماد الحكومة بصورة متكررة على المادة 49.3 من الدستور لتمرير القوانين من دون تصويت، مما أثار غضب المعارضة وعمق الاتهامات بــ"الالتفاف على البرلمان".
ومع اقتراب مناقشات كل موازنة جديدة، يتجدد التوتر بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، في مشهد يكشف عن ضعف القنوات التقليدية للتوافق في النظام السياسي الفرنسي.
موازنة تحت الضغط وآفاق ضبابية
في النهاية تجد فرنسا نفسها أمام اختبار مالي وسياسي متداخل، إذ تصطدم الحاجة إلى معالجة العجز بتوازنات سياسية هشة ومزايدات حزبية.
وإذا لم تتبلور تسوية خلال الأسابيع المقبلة، قد تلجأ الحكومة مجدداً إلى الآليات الدستورية لفرض الموازنة، مما ينعكس على صورة الاستقرار السياسي وعلى ثقة المستثمرين في الالتزام الفرنسي بضبط المالية العامة.