ملخص
الصدمة التي أحدثتها الضربة الإسرائيلية وضعت قيادة النظام أمام حقيقة مركبة من بعدين لم تكن في حساباتها، الأولى أن النظام وسلطته الدينية وصلا إلى مستويات خطرة من فقدان القاعدة الشعبية، مما دفع الطرف الإسرائيلي نحو الرهان على الشارع لوضع النظام في مواجهة تهديد وجودي، والثانية أن الإسرائيلي أسقط كل الاعتبارات والمحاذير الدولية والإقليمية وذهب إلى محاولة التأسيس لمرحلة تكون فيها الجغرافيا الإيرانية في مواجهة هذا التهديد الوجودي.
قد تكون تل أبيب نجحت في وضع النظام الإيراني في مواجهة تهديد حقيقي يمس ويطاول وجوده ووجود إيران، فالضربة العسكرية التي وجهتها للنظام في طهران نجحت في تحقيق الهدف الأول لإسرائيل بتحييد كبار القادة العسكريين، والصف الأول من العلماء النوويين، ودمرت الجزء الأكبر من المنشآت والقدرات العسكرية والنووية، وكشفت عن حجم الهشاشة الأمنية والاختراق داخل الصفوف الإيرانية وعلى أعلى المستويات.
لكن هذه الضربة فشلت في تحقيق الهدف الأساس الذي عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال الدعوة التي وجهها إلى الشعب الإيراني للخروج إلى الشارع والتظاهر والانقلاب على النظام، وإحداث التغيير المطلوب الذي ينسجم مع أهداف الضربة العسكرية، وهو هدف لم تأخذ تل أبيب أي اعتبار سوى الوصول إليه، وأسقطت من حساباتها كل التداعيات التي قد تنتج من ذلك وما قد يؤدي إليه من تفكيك إيران وتقسيمها، بخاصة أن نتائج أي تغيير لن تقف عند حدود التخلص من النظام والسلطة القائمة، بل سيتوسع ليهدد وحدة الأراضي الإيرانية ومفهوم إيران الجغرافي، مما يعني أن الإقليم سيكون في مواجهة انعكاسات هذا التغيير بسلبياته التي تهدد استقرار دوله، والتي ستكون في مواجهة موجة جديدة من النزاعات القومية والتحديات الجيوسياسية التي قد تترافق مع هذا الانهيار.
الصدمة التي أحدثتها الضربة الإسرائيلية وضعت قيادة النظام أمام حقيقة مركبة من بعدين لم تكن في حساباتها، الأولى أن النظام وسلطته الدينية وصلا إلى مستويات خطرة من فقدان القاعدة الشعبية التي تعطيهما مشروعية البقاء والاستمرار، مما دفع الطرف الإسرائيلي نحو الرهان على الشارع لوضع النظام في مواجهة تهديد وجودي، والثانية أن الإسرائيلي أسقط كل الاعتبارات والمحاذير الدولية والإقليمية وذهب إلى محاولة التأسيس لمرحلة تكون فيها الجغرافيا الإيرانية في مواجهة هذا التهديد الوجودي، بخاصة أن سقوط النظام في ظل التراكم الاعتراضي بين مكونات المجتمع الإيراني القومية والإثنية سيؤدي في واحدة من نتائجه إلى تفجير حرب أهلية داخلية، وبالتالي فإن التفكيك سيكون نتيجة واضحة لذلك، مما يعني، بحسب تعبير القيادي الراحل في "حزب القوميين الدينيين" (ملي مذهبيها) عزت الله سحابي والذي يعتبر الوريث لـ "حركة تحرير إيران" (جماعة مهدي بازركان)، أن "أي حرب داخلية وأهلية في إيران ستؤدي إلى تفكيكها وتقسيمها، ولن يستطيع أي طرف إعلان نفسه وريثاً للنظام المنهار، وأن الوريث الوحيد سيكون الشيطان".
إن أكثر من شعر بحجم التحدي والتهديد نتيجة التغيير في معادلات قواعد الاشتباك بين طهران وتل أبيب به هو المرشد الأعلى للنظام، فبعد أيام قليلة من انتهاء الحرب مع إسرائيل، طلب من أحد قرّاء العزاء أن ينشد في مجلس عاشورائي قصيدة "آى إيران" (يا إيران) التي تمزج بين القومي والوطني والديني في مديح الوطن ومحبته والدفاع عنه، في ما يبدو أنها محاولة من المرشد لتعزيز حال الالتفاف الشعبي حول إيران في مواجهة الهجوم الإسرائيلي، وأن هذا الالتفاف شكل ضامناً داخلياً أمام مشروع إسقاط النظام، وأيضاً تحفيز الشعور الوطني باعتباره ضامناً في مواجهة المشروع الإسرائيلي، متخذاً خطوة غير مسبوقة سياسياً عندما خرج عن خطابه الأيديولوجي والعقائدي في توصيف التهديدات والاعتداءات بتأكيد البعد الوطني في الموقف الشعبي الذي شكّل ورقة قوة أبعدت خطر التقسيم عن إيران، بما هي وطن للجميع وجغرافيا تضمن كل المكونات، متقدمة على الهوية الدينية للنظام، ولذلك فإن خطاباته التالية خلت من أية إشارة إلى النظام الإسلامي و"حرس الثورة"، والتي كانت تشكل محطات أساسية في كل مواقفه وخطاباته السابقة، وصولاً إلى تجنب إضافة صفة "إسلامية" إلى "الثورة" في آخر لقاء له مع الطلاب والرياضيين المميزين، على رغم أن المناسبة توافقت مع ذكرى احتلال السفارة الأميركية التي تعتبر، بحسب وصف المؤسس والمرشد، "الثورة الثانية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كان النظام استطاع تجاوز الصدمة الأولى، لا بقدراته الذاتية بل نتيجة الانتفاضة في الموقف الشعبي الذي شعر أن وجوده كوحدة جغرافية وهوية إيرانية جامعة في معرض التهديد والزوال، فإنه بات على قناعة واضحة أن الضامن الداخلي الذي حفظ الوحدة الإيرانية لن يكون متسامحاً مع منظومة السلطة في حال جرى تجاوز هذه المرحلة الدقيقة والصعبة، وأن تراكم الأزمات والإصرار على السياسات التي اعتمدها ماضياً في التعامل مع المطالب الشعبية الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية قد يشكل عامل زعزعة يضعه في مواجهة خطر يهدد جوهره وهويته وسيادته وهيكليته السياسية والعقائدية، وتالياً يهدد وجوده واستمراراه.
لا شك في أن إحداث انعطافة سريعة وجوهرية في سلوكيات النظام الديني والأيديولوجي، على المستويين السياسي والثقافي، قد يخلخل أساساته ويضعفه أمام الانتقادات التي قد تتحول سريعاً إلى ضغوط تفرض عليه مزيداً من التنازلات، بخاصة أن الظروف الداخلية لمثل هذا التغيير لم تتهيأ بعد بصورة كبيرة، في ظل حال التحفز التي لا يزال يمارسها التيار المتشدد والراديكالي، والذي يعيش حال خوف شديدة من خسارة ما يملك من سلطة ومصالح اقتصادية وسياسية، ولعل ما قاله رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان يعبّر بوضوح عن عمق الأزمة بين المكونات السياسية عندما قال إن "نجاة المرشد من الاستهداف الإسرائيلي في الحرب شكّل ضامناً لعدم انفجار الصراعات بين القوى السياسية المستعدة لخوض حرب، ولا ضرورة لأن تأتي إسرائيل".
ويمكن القول إن النظام استطاع استيعاب العوامل التي تشكل تهديداً داخلياً لوجوده، لا بإراداته وقدراته الذاتية إذا ما قورنت بحجم تمثيله الشعبي، بل بقرار وطني يتجاوز هوية النظام الدينية وسلوكياته الاقصائية المتراكمة، وأنه أيضاً استطاع التعامل مع كمّ الخسائر التي لحقت بمشروعه الإقليمي، وتوالياً من لبنان إلى سوريا مروراً بالعراق واليمن، من خلال الانكفاء على نفسه والعمل من أجل إعادة ترميم أوراقه وتنشيط ما بقي منها بالحد الذي يبقيه موجوداً على الساحة الإقليمية، وهذه الواقعية التي ظهرت في الحرب الإسرائيلية عليه عندما لمس بوضوح حجم ما فقده من أوراق قوة كان يراهن أن تشكل سداً أمام استهدافه مباشرة، وأنه بات مجبراً على الدفاع عن نفسه بمفرده وقواه الذاتية.
المرحلة الانتقالية التي يعيشها النظام الإيراني على المستوى الداخلي بعد الضربة الإسرائيلية، وما فرضته عليه من تعديل في سلوكياته العقائدية والسياسية مع المكونات الإيرانية، والتي برزت بخاصة في مسألة "قانون الحجاب والحريات" التي انتزعها المجتمع الإيراني ذاتياً وفرضها على المنظومة الدينية والسلطوية، لا تعني أن التهديد الخارجي قد تراجع، لأن ما قامت به إسرائيل للتخلص من النظام الإيراني كان يرتكز على عوامل مركبة، عسكرية وداخلية واقتصادية، مما يعني أن العامل الاقتصادي والرهان على الحصار الاقتصادي والعزلة الدولية التي يعيشها النظام لا تزال قائمة لدى تل أبيب من خلال تحويلها إلى عامل انفجار شعبي في وجه النظام، والذي سيكون عاجزاً عن تلبية المطالب الداخلية في ظل غياب الضامن الخارجي القادر على مد يد العون له اقتصادياً، وتعقيد المراهنة على دور روسي أو صيني في هذا الإطار في ظل ما يخوضانه من صراعات اقتصادية وعقوبات أميركية مفتوحة على كل الاحتمالات.
وإضافة الى العامل الاقتصادي لا تزال تل أبيب تراهن على إمكان توجيه ضربة عسكرية أكثر قسوة واتساعاً، تكون حاسمة في التخلص من النظام، أو في الأقل زعزعته ليكون عاجزاً عن الاستمرار كدولة وكيان منظّم، نتيجة انهيار اجتماعي واقتصادي كبير يترافق مع تفكك مؤسسات الدولة، فضلاً عن تكريس خسارته لكل ما أسس له من سياسات وطموحات إقليمية، ليكون أمام خيار خسارة كل شيء أو القبول بالتخلي عن استقلال قراره السياسي، وبالتالي القضاء على آخر مصادر الخطر الخارجي الذي يهدد الوجود الاسرائيلي.