ملخص
يتخذ الناقد المصري ممدوح فراج النابي من روايتي الطيب صالح، "عرس الزين" و"موسم الهجرة إلى الشمال"، نموذجين لما أسماه "الكتابة السوداء"؛ التي هي "كل كتابة تعري القبح، وتكشف حالات الإقصاء والاستعلاء التي تمارسها السلطة"، ويرى أن الأولى تكمل الثانية، على عكس كثير من النقاد الذين رأوا أن لكل منهما عالماً قائماً بذاته وأنهما لا يلتقيان سوى في أنهما للكاتب نفسه.
في كتابه "الكتابة السوداء: السرديات المضادة، الهوية، الأمثولة القومية: الطيب صالح نموذجاً" (دار المرفأ/ إسطنبول، دار النهضة/ بيروت)، يرى الناقد المصري ممدوح فراج النابي أن روايتي الكاتب السوداني الطيب صالح؛ "عرس الزين"، و"موسم الهجرة إلى الشمال"، "مكملتان بعضهما لبعض من حيث الرؤية الكلية"، مخالفاً بذلك آراء نقدية أخرى رأت أنهما تنطويان على رؤيتين مختلفتين. ويقول النابي في هذا السياق: "لا أخفي أن ثمة أسباباً كثيرة دفعتني لقراءة النصين معاً، ومن أهمها ما بينهما من صلات - لم أضع ضمنها المؤلف – على مستوى الدلالة، ورؤية العالم، والتمثيل الكنائي لفكرة الهوية الوطنية، وأيضاً على مستوى السياق المنتج فيه النصان، حيث وجدت النص الأول مفسراً لتناقضات البطل في النص الثاني، كذلك فإن السياقات الثقافية التي خرج منها النصان واحدة؛ فالروايتان صدرتا وقد بدأت حركات التحرر العربي والأفريقي من مغبة الاستعمار الغربي تفرض هيمنتها وسطوتها على الواقع".
المفهوم والنموذج
مفهوم "الكتابة السوداء" الذي اتخذه النابي عنواناً رئيساً لهذه المقاربة النقدية، لا ينطلق – كما يقول - من فكرة العرق، أو اللون، أو المكان، على نحو ما هو سائد في ما عرف بـ "كتابة السود"، وما عرف بـ "الرواية السوداء" التي هي فرع من فروع رواية المغامرات، لما يلاقيه أبطالها من أهوال وبما يطغي على عوالمها من ظواهر خارقة لقوانين الطبيعة. والمعنى المقصود من "الكتابة السوداء" الذي تبتغيه دراسة النابي، يتماس – كما يقول - مع كتابة المعاناة والألم التي تحدث بسبب ممارسات قمعية على كافة مستوياتها، "ولذلك يمكن تعريفها، بأنها كل كتابة تعري القبح، وتكشف حالات الإقصاء والاستعلاء التي تمارسها السلطة سواء كانت سلطة الاستعمار الخارجي (على نحو سرد الإمبراطورية) أم الداخلي عبر أوصياء يمارسون التهميش والاستبعاد والإقصاء لكل من يخالفهم الرأي، أو تلك التي تعري الأيديولوجيات الصاخبة؛ سواء كانت السياسية أم الدينية.
وهي أيضاً – يضيف النابي – كتابة مقاومة لكل أنواع إعاقة الحريات ومصادرة الرأي، وكأنها صرخة احتجاج على هذه الأفعال التي هي أشبه بالحصار، ومن ثم تدخل تحت إطارها سرديات السجون، والمنافي، والشتات واللجوء، وكذلك كتابات أو سرديات النساء التي تنتصر لذواتهن المقهورة تحت سلطة بطريركية يفرضها رجل، يريدها تابعاً له، أو حتى سلطة أنساق وأعراف تسعى إلى حجب صوت المرأة. والأهم، كما يؤكد النابي، هو أن تلك الكتابة تنطوي على ترسيخ قضية الهوية التي سعى الاستعمار من قبل إلى تجريفها.
"الزين" و"مصطفى سعيد"
وهكذا – يقول النابي - كانت "عرس الزين" 1962 النص المقاوم/ المضاد لهذا التجريف، ومحاولات التفتيت والذوبان التي سعت إليها السياسة الإمبريالية الاستعمارية، ثم جاءت "موسم الهجرة إلى الشمال" 1966 لتقاوم التجريف في عقر داره، عبر شخصيات بسيطة صارت ثيمات مكررة في جميع نصوص الطيب ذاتها، "وهو ما يؤكد وحدة النصوص التي كتبها الطيب، ونبل القضية التي شغلته وراح يدافع عنها باستماتةٍ وفخر أيضاً، فالقرية هي المحور الأساسي لنصوص الطيب صالح، وما حدث لها من متغيرات جراء ميراث الاستعمار البغيض، والأهم واجب أبناء هذه القرية (كنموذج للسودان كليةً) أن تقاوم هذا التغريب بكافة أشكاله" (ص68).
ويؤكد النابي في هذا الصدد أن دراسته التي قصرها على هذين العملين من أعمال الطيب صالح من دون سواهما، مع الاستئناس بنصوصه وحواراته، كان غرضها هو الربط بين النصين وقراءتهما معاً؛ للوصول إلى فكرة افترضها؛ ألا وهي أن الطيب رأى أن الإغراق في المحلية الذي بدت عليه "عرس الزين"، هو تأكيد وولاء للهوية السودانية، التي ما لبث أن تخلى عنها بطل "موسم الهجرة إلى الشمال"، فقاد نفسه إلى نهاية بائسة، تاركاً مكتبته التي أسسها على الطراز البريطاني كإدانةٍ له على انفصاله عن هويته ووطنه الأصلي الذي في المقابل تماهي فيه "الزين" إلى حد الالتصاق.
سعت هذه الدراسة إلى دمج النظرية الروائية؛ بمقولاتها ومفاهيمها في الممارسة التطبيقية من دون فصل مدار النظرية عن مدار الممارسة، ومن ثم اعتنت – كما يوضح المؤلف - بقراءة النصوص وفق السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي أنتجت فيها؛ "لأن السياق المنتج فيه النص هو خير مفسر، وموضح لملابسات الكتابة، وكذلك كاشف لغوامضها وكوامنها".
واتخذ النابي من "عرس الزين"، و"موسم الهجرة إلى الشمال"، كمختبر للتحليل، ولاشتغال نقدي محدد في محاولة للبحث عن الإيقاع الروائي، أو لؤلؤة المستحيل الفريدة، في محاولة لإبراز وظيفة جديدة للرواية، باعتبارها فعل مقاومة. ومن ثم ارتبطت مقاربة النابي بأفكار كل من فرانز فانون (1925 – 1961) عن علاقة المستعمر بالمستعمر، وآليات المقاومة لأشكال الممارسات الإقصائية والإبادة والإنكار ضد الطرف الأضعف، كذلك حضرت بصيغ متعددة في كتابيه: "بشرة سوداء أقنعة بيضاء" 1952، و"معذبو الأرض"1961، وكذلك اتصلت بوشائج متعددة بدراستي إدوارد سعيد (1935 – 2003) "الاستشراق" 1978 و"الثقافة والمقاومة" 1993. بل يمكن اعتبارها - يضيف النابي - دراسة تسعى إلى استجلاء الخطوط العريضة للأفكار النظرية للمقاربة السياسية - الاجتماعية - الاقتصادية التي قدمها فانون، من منظور النظرية الروائية التي قدمها إدوارد سعيد، على اعتبار كما يقول بيير ماشيري: "إن العمل الأدبي لا يأتي إلينا أبداً بمفرده، بل يحمل معه كتباً أخرى قد تنتمي لمجالات مختلفة، تحكم وجوده وتحدده وهو ما يؤكد أن النص الأدبي ليس بنية مغلقة، وليس شكلاً فنياً فحسب، بل هو - والكلام لماشيري - "شبكة من أشكال معرفية". وتمكن النابي عبردراسته تلك، من الوقوف على بعض التقاطعات بين "عرس الزين"، و"موسم الهجرة إلى الشمال"، وكذلك بين بطلي العملين، "باعتبارهما نموذجين للبطل الإشكالي كما هو عند لوسيان غولدمان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فبطل "موسم الهجرة إلى الشمال" موغل في النمط الغربي، في دراسته وثقافته وعلاقاته الغرامية وأفكاره في البناء والاقتصاد. أما في "عرس الزين"، فالبطل موغل في المحلية في عاداته وتقاليده والأهم نمط حياته وسلوكياته. وإذا كانت "موسم الهجرة إلى الشمال" تظهر تلك الإمبريالية/ الاستعمارية التي سيطرت على الغرب، وتأثيرها في الصراع الذي منيت به شخصية "مصطفى سعيد" وانتهى به إلى هذه النهاية المأساوية، فهو لم يبرأ من جرثومة الغرب، ليس هو بل كل من اتصل به. وتشكل "عرس الزين" - في المقابل - نموذجاً للانصهار في المحلية ودعوة لوأد الصراعات على مستوى فئات وطبقات المجتمع على اختلافها تارة، وعلى مستوى الأيديولوجيات المتناحرة تارة أخرى. فيما فشل "مصطفى سعيد" في ترويض الصراع بين ذاته المتوائمة مع الإقليم على نحو استنكاره رسالة الدكتوراه التي أنجزها الراوي عن شاعر إنجليزي مغمور، وكذلك مع ذاته المتشبعة بالحضارة الأوروبية. وجاء بطل "عرس الزين" على عكس هذا كله؛ فهو متماهٍ إلى أقصى درجة مع طبقته وخصوصية بلده.
ويقول النابي إن من ضمن الأسباب التي جعلته يربط بين النصين، هو التوازي بين شخصيتي "ود الزين"، و"مصطفى سعيد"، فعلى رغم التناقض الظاهر بين الشخصيتين على مستوى الشكل والمضمون، إلا أنهما في البنية العميقة يكملان بعضهما بعضاً؛ "فالشخصيتان بطريقة أو أخرى عملتا على توحيد أبناء القرية ضد الجمود". ومن ثم، تكشف الروايتان، كما يقول النابي، عن اهتمام جارف من الطيب صالح بقضايا وطنه المصيرية، الذي لم ينفصل عنه منذ قصته القصيرة "دومه ود حامد"، وقد ذهب فيها مذهباً بعيداً، حيث عكس من خلالها حالة الوعي الحاد بمقتضيات الظرف الراهن الذي كانت تعيشه السودان آنذاك، فجاء النص متجاوزاً معناه السطحي (إبراز جدلية الأصالة والمعاصرة)، إلى رصد التغيرات العنيفة التي شهدتها السودان إبان الانقلابات العسكرية على المسار الديمقراطي، بزعم أن الأحزاب عاجزة عن التنمية وعن حل مشكلة الجنوب.