ملخص
في مقابلة مع "الشرق الأوسط"، استعرض السياسي السوداني المحبوب عبدالسلام محطات مفصلية من تاريخ السودان، كاشفاً خفايا العلاقة بين عمر البشير وحسن الترابي، من خديعة الانقلاب إلى الانقسام السياسي. تحدث عن محاولة اغتيال مبارك، وتسليم كارلوس، ووجود بن لادن في السودان، منتقداً دور الحركة الإسلامية في تفكك البلاد، ومحملاً نظام "الإنقاذ" مسؤولية الحرب الحالية عبر إنشاء ميليشيات كـ"الدعم السريع".
على وقع الحرب الدموية التي يعيشها السودان، كشف السياسي السوداني والباحث الدكتور المحبوب عبدالسلام ضمن حديث لصحيفة "الشرق الأوسط"، كواليس العلاقة التي جمعت الرئيس عمر البشير والزعيم السياسي حسن الترابي، وكيف انتقلت من التعاون إلى العداء.
عبدالسلام الذي شغل على مدى عقد منصب مدير مكتب الترابي، والذي تولى أيضاً على مدار عقد كتابة خطب البشير، شهد على محطات مفصلية في تاريخ السودان استرجعها ضمن حديث مع رئيس تحرير "الشرق الأوسط" غسان شربل، متطرقاً إلى مراجعته النقدية للحركة الإسلامية داخل السودان، معتبراً أنها شريكة في ما وصلت إليه البلاد وأسهمت في انفصال الجنوب.
خديعة الانقلاب وتولي السلطة
قبل يومين من تولي البشير السلطة في السودان إثر انقلاب الـ30 من يونيو (حزيران) 1989، لبى الضابط العسكري دعوة الزعيم الإسلامي حسن الترابي إلى لقاء أول بينهما، منحه فيه الأخير مباركته للعملية المرتقبة واتفق معه على خديعة سجنه مع سائر الزعماء السياسيين، قائلاً "تذهب أنت إلى القصر رئيساً، وأذهب أنا إلى السجن حبيساً". الغرض من هذه الخدعة كان إخفاء الطابع الإسلامي للانقلاب كي لا تسارع الدول إلى محاصرة البشير، وانطلت بالفعل على استخبارات الدول المجاورة بما فيها مصر التي اعترفت بالنظام الجديد، معتقدة أن البشير استولى على السلطة على رأس مجموعة من الضباط القوميين.
خلال عام 1990، تولى عبدالسلام إدارة مكتب الترابي واستمر في مهامه حتى نهاية ذلك العقد. وبناءً عليه، لا ينكر أنه من "تلاميذ الترابي"، لكنه يؤكد أنه مع الوقت أصبح شخصاً مستقلاً لديه أفكاره وتجاربه التي قد تكون "أوسع من تجارب قادة الحركة الإسلامية من قبلي". ويوضح أنه مع ثورات الربيع العربي عام 2011، ولا سيما التحول الذي شهدته مصر، بدأت تتكشف لديه أخطاء "أستاذه" وتولد لديه حس نقدي تجاه تجربته.
محاولة اغتيال حسني مبارك
بالعودة إلى المرحلة السياسية التي عايشها مع الترابي، يقول عبدالسلام إن العلاقة بين الزعيم السوداني والرئيس المصري حسني مبارك تأزمت بعد خدعة استيلاء البشير على السلطة عام 1989، وتأزمت أكثر بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995. ويروي أنه "بعد محاولة الاغتيال عُقد اجتماع مهم، لم يكن اجتماعاً أمنياً، كان اجتماعاً سياسياً على أرفع مستوى وأشمل مستوى. حضر الاجتماع الترابي والبشير وكل القادة السياسيين، وكان ذلك في منزل الأستاذ علي عثمان محمد طه (نائب الترابي). في تلك اللحظة عرف الرئيس والترابي للمرة الأولى أن أجهزتهما ونائب الترابي، الذي سيصبح لاحقاً نائباً للرئيس، تورطوا في هذه المحاولة من دون علمهما، فكانت هذه صدمة كبيرة طبعاً". وبذلك، أكد عبدالسلام أن الترابي والبشير لم يكونا على علم بتورط السودان في محاولة الاغتيال، فيما كان علي عثمان طه ضالعاً فيها.
ويضيف عبدالسلام أنه خلال ذلك الاجتماع، رفض الترابي رفضاً قاطعاً طرح علي عثمان طه بالتخلص من منفذي محاولة الاغتيال وقتلهم للقضاء على أي آثار لتورط السودان، وهو طرح أيده البشير. ويضيف أنه عند ذلك بدأت "المفاصلة" بين البشير والترابي، وهي الانقسام بين الإسلاميين في السودان.
وعن تطور العلاقة مع القاهرة، يروي عبدالسلام أن أجهزة الاستخبارات المصرية خلصت إلى أن محاولة اغتيال مبارك تمت من قبل الجماعات المصرية الإسلامية، أي "الإخوان المسلمين"، بدعم لوجيستي من السودان وليس بتخطيط منه، لذلك تراجعت القاهرة عن أي رد قاسٍ على الخرطوم. وعقب ذلك، يقول عبدالسلام إن العلاقات المصرية – السودانية شهدت لاحقاً تطوراً كبيراً مع سعي الخرطوم للانخراط في الإقليم، وطرح نفسها "كحكومة عادية واقعية لا تحمل برنامجاً إسلامياً"، لا سيما بعد المفاصلة والتخلص من الترابي.
انقلاب البشير على الترابي
بالعودة إلى تطور الخلاف بين الزعيمين السودانيين، يقول عبدالسلام إن أقسى درجات الكيدية من جانب البشير تجاه الترابي ظهرت "بعد مذكرة الـ10، في أكتوبر (تشرين الأول) 1998. كان الترابي يريد أن يترأس اجتماعاً للشورى وكان اجتماعاً كبيراً جداً فيه كل قادة الحركة، كل حكام الولايات، كامل قيادات الحزب، وأمناء الحزب في الولايات، والقيادات الأهلية، وهؤلاء 600 شخص يمثلون شورى حزب ’المؤتمر الوطني‘، ففي هذا المحفل الضخم تعرض الترابي لمفاجأة لم يكن يتوقعها. وهي أن 10 من أعضاء الشورى تقدموا بمذكرة، جوهرها يطلب تنحية الترابي وتنصيب البشير رئيساً للدولة ورئيساً للحركة، والقضاء على هذه الثنائية. المذكرة فيها كثير من البنود التي تتحدث عن الإصلاح وعن الشورى. لكن هذا كان جوهر الموضوع الذي جعل الرئيس يتآمر مع الـ10 ويقبل هذه المفاجأة الضخمة في هذا المحفل الكبير للترابي".
ويوضح عبدالسلام أنه من خلال هذه المؤامرة، أراد البشير أن يجعل الترابي "رئيساً رمزياً" بعدما كان ممكساً بزمام جميع القرارت الرئيسة في الدولة، ولهذه الغاية طرح بعض من زملاء الرئيس العسكريين على الترابي أن يبقى شيخاً فيما يتخذون هم القرارات السياسية، وهو ما رفضه الترابي. ويضيف عبدالسلام أن نفوذ الترابي ودوره لم ينحسر إلا بسجنه بعد المفاصلة وبعد توقيع حزبه "المؤتمر الشعبي" مذكرة تفاهم خلال فبراير (شباط) 2001 مع "الحركة الشعبية لتحرير السودان".
وعن انحيازه للترابي بعد خلافه مع البشير، يقول عبدالسلام إن الخلاف بين الرجلين كان خلاف مواقف، "الترابي كان مع الديمقراطية والحريات العامة، وكان مع الحكم الاتحادي وكان مع الالتزام باتفاقات الجنوب. وأنا انحزت لهذا الموقف. البشير أصلاً عضو في حركة إسلامية يترأسها الترابي، وكان يذعن لكل قراراته حتى بعدما أصبح رئيساً، إلى أن بدأت المفاصلة الطبيعية، المباينة الطبيعية، بين سلطة حقيقية في الظاهر وسلطة باطنية".
السودان ورياح "الربيع العربي"
في ما يتعلق باستقلال جنوب السودان، يؤكد عبدالسلام أن ضميره مرتاح من هذا الذنب لأن رأيه كان واضحاً في هذا الخصوص، إذ كان من مؤيدي التنازل عن قوانين الحدود الخمسة التي جاء بها الرئيس جعفر النميري، والتي تشمل قطع اليد وجلد الشارب والزاني، مقابل الحفاظ على وحدة السودان.
وعن تأثير رياح "الربيع العربي" على السودان، يعد عبدالسلام أن تبعاتها كانت "قاسية على الحركة الإسلامية طبعاً"، لكنها تأخرت نحو سبعة أعوام، إذ لم تتكرر التجربة في بلاده سوى عام 2019، لتكون استجابة "حقيقة لنبض كل الشارع السوداني". ويرى أن "الحركة الإسلامية أثناء وجودها في السلطة كانت تحمل عداء خفياً معلناً للمجتمع المدني، للشباب وللنساء وللفن ولكل هذه المسائل"، إذ كانت تسعى لحماية السلطة فيما كانت الحركة الفكرية والأدبية وحركة المجتمع المدني تنمو بصورة متعارضة مع توجهات النظام، لتخرج أخيراً بشعارات السلام والحرية والعدالة.
ويرفض عبدالسلام تحميل المؤسسة العسكرية، التي تولت السلطة في البلاد أكثر من 52 عاماً منذ الاستقلال، مسؤولية الفشل وحدها، موضحاً أن المسؤولية تقع على "النخبة" التي ضمت ضباطاً من جهة ومدنيين من جهة أخرى تولوا الوزارات ووقعوا الاتفاقات. وأضاف "العلة قائمة في أصل أحزابنا المدنية. أحزابنا المدنية ليست لها برامج واضحة لإزالة تشوهات الدولة السودانية التي بدأت منذ الاستعمار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قصة تسليم "كارلوس"
وضمن الجزء الثاني من الحوار مع "الشرق الأوسط"، يروي عبدالسلام ما يعرفه، عن كسب، عن قصة تسليم "كارلوس"، الاسم الشهير للفنزويلي إيليتش راميريز سانشيز والذي أطلقه عليه مهندس خطف الطائرات القيادي الفلسطيني الدكتور وديع حداد، لينفذ عملية خطف وزراء "أوبك" في فيينا عام 1975 تنفيذاً لأوامر حداد، وانسجاماً مع رغبة معمر القذافي. كارلوس الذي تورط عام 1975 في قتل اثنين من رجال الأمن في فرنسا، كان مطلوباً من قبل باريس. وبعد ترحيله من الأردن ووصوله إلى الخرطوم حيث سعى للقاء البشير والترابي، تعاونت الاستخبارات السودانية والفرنسية معاً لاعتقاله خلال الـ15 من أغسطس (آب) 1994 وترحيله إلى فرنسا، حيث حوكم ولا يزال خلف القضبان.
عبدالسلام الذي تولى الترجمة بين جهاز الأمن السوداني وجهاز الأمن الفرنسي في هذه القضية، يقول إن كارلوس دخل السودان ف عام 1993 آتياً من الأردن وحاملاً جواز سفر يمنياً باسم عبدالله بركات، لذا اعتبره الترابي "هدية مسمومة من الأردن". ويروي عبدالسلام أن كارلوس "جاء إلى المكتب وطلب أن يلتقي الترابي. لكن لم يكن أحد يعلم من هو إلى أن أخطرت الأجهزة الأمنية الترابي بأن الموجود عندنا هو فلان"، مضيفاً أنه حاول تقديم نفسه كإسلامي وحاول وضع خبراته في تصرف نظام البشير، لكن "النظام في السودان لم يكن في تلك الحالة يريد أن يواجه الإقليم والعالم في مثل هذه المسألة". ويجزم عبدالسلام أن كارلوس لم يلتق الترابي.
ويقول عبدالسلام إن عملية تسليم كارلوس للفرنسيين بدأت بعد نحو أربعة أشهر من وجوده في السودان، مع حضور الضابط فيليب روندو إلى الخرطوم لمتابعة الملف، واستغرقت المفاوضات وقتاً طويلاً. ويضيف أن الاختيار وقع عليه شخصياً للترجمة لحساسية الموضوع، وإن الخرطوم حاولت إعادته إلى الأردن ليسلم من هناك لباريس لكن عمان رفضت. ومع تعذر المخارج الأخرى أو محاولات ترحيله من السودان، بدأ السودان الاستعداد لتسليمه لفرنسا بموجب طلب الإنتربول، وهكذا حصل مقابل مساعدة فرنسية للأجهزة الأمنية السودانية في مجال التدريب على بعض الأجهزة الحديثة.
الترابي وأسامة بن لادن
أما في ما يتعلق بوجود أسامة بن لادن في السودان، فيقول عبدالسلام إنه تحول إلى عبء بعد محاولة اغتيال مبارك وأراد النظام التخلص منه "لتمر العاصفة". ويضيف أن بن لادن التقى مراراً الترابي الذي حاول دفعه باتجاه "تحديث الإسلام وتجديده" لكن الظروف التي حصلت لاحقاً داخل العالم العربي دفعته أكثر إلى التطرف. ويوضح أن الترابي كان الوسيط الذي رتب اللقاء بين المسؤول في جهاز الاستخبارات لنظام صدام حسين، فاروق حجازي، وبن لادن، وهو اللقاء الذي استخدم لاحقاً لتبرير الغزو الأميركي للعراق.
في الخاتمة، يرى عبدالسلام أن السودان يدفع ثمن ما ارتكبه نظام "الإنقاذ"، لا سيما عبر "إنشاء الميليشيات التي أدت إلى هذه الحرب"، موضحاً أن الميليشيات "كانت موجودة لكن ليس بهذا المعنى المنظم... الفكرة كانت أشبه بفكرة ’الحرس الثوري الإيراني‘ في حالة ’الدعم السريع‘. أنشئ له قانون خاص في مرحلة البشير، كان يجعله تحت إشراف القائد العام والقوات المسلحة ولكن بعد ذلك، بعدما أصبح قوة ضاربة تستطيع أن تواجه الجيش في مرحلة من المراحل سُن له قانون يحرره حتى من القائد العام وهذا كان سبباً مباشراً للحرب".