ملخص
تأخر الفكر العربي في التعاطي، فلسفياً، مع التداعيات التي عصفت بالوجود البشري في أثناء أزمة الكورونا، وما بعدها. وقلّت إسهامات المفكرين والفلاسفة في تفكيك هذا الفيروس المجهري الذي أثار أسئلة فلسفية عديدة عن الوجود، بشقيه المعرفي والإبستمولوجي، وأحيا الجدل القديم المستحدث حول مفهوم اليقين، بحيث هدمت الجائحة أركان اليقين التي جرى الظن أنها استقرت واشتدت أوتادها.
قد تعود الخشية من التعاطي الفلسفي مع حدث كهذا إلى ضرورة أنّ يمتلك مَن يتصدى لتفكيكه، إلى مهارات الخروج من الصندوق في تحليل الحدث واشتقاق استدلالات منه، واستنطاق تلك الدلالات بعد صهرها في بوتقة التأمل الفلسفي المجنّح، وهذا ما فعله الفيلسوف اللبناني مشير باسيل عون في كتابه الجديد "الكورونا في عهدة الفلسفة"، الصادر عن دار استفهام، في بيروت 2025.
الإخفاق المشين لمراكز الدراسات
الفكر الفلسفي الغربي انشغل، منذ اللحظة التي أدرك فيها الخطر الداهم المحدق بالبشرية، في طرح الأسئلة الوجودية، والتركيز على الجانب الأخلاقي في آليات مواجهة هذا الحدث الكوني غير المسبوق. كما ساءل القدرة العلمية التي ثبت عجزها من جهتين، الأولى عدم استطاعة المختبرات الأكثر تطوراً في العالم، ابتكار علاج سريع وفعال للفيروس، والجهة الأخرى متصلة بالإخفاق الفادح والمشين لمراكز الدراسات، وأدوات الرصد والتنبؤ، في توقع الفيروس وشدته وسرعة انتشاره وقدرته العجيبة على التحور، وإنتاج آليات الفتك التي كان إيقاعها أشد، بما لا يقارن، مع آليات التصدي الذي لم يعجز مجتمع العلم وحسب، بل كشف عن تناقضات جوهرية عميقة في تصورات الرأي العلمي الذي ظن البشر أنه أرسى قواعده، وصارت له قوانينه القارّة في أنحاء العالم كافة.
والأنكى من ذلك الثبوت القطعي لغلبة طغيان النفوذ والرأسمال وتقديم الربح على حياة البشر، وحصر العلاج في فئة معينة بسبب طبقية هذه الفئة أو عنصرية الاختيار، وهو ما أشارت إليه الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر، التي كتبت في مقال بعنوان "للرأسمالية حدود" (Capitalism Has its Limits)، أنّ "الاحتمال الأكبر أنّ الأغنياء والمضمونين تأمينياً سيسارعون إلى تأمين حصتهم من أي لقاح جديد، فيما يُترك الآخرون لمصير هشّ. تتابع بتلر في مقالها المنشور في مجلة "نيويوركر"، في 30 مارس (آذار) 2022: "ستضمن اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية أن "يميز" الفيروس بالفعل بين البشر؛ فالمرض لا يفرّق، لكننا نحن نفعل، إذ تصوغنا القوى المتشابكة للقومية والعنصرية وكراهية الأجانب والرأسمالية".
وبالتالي "يبدو أننا سنشهد مشهداً مؤلماً تُعاد فيه كتابة الفارق بين "الحياة الجديرة بالحماية" و"الحياة القابلة للإهمال"، بين من تُبذل كل الجهود لإنقاذهم، ومن يُعدّ موتهم "خسارة مقبولة")".
تحولات ثلاثية الأبعاد
في ضوء هذه "الخلاصات" يأتي الإسهام العميق لكتاب "الكورونا في عهدة الفلسفة" الذي أعرب مؤلفه فيه عن يقينه بأنّ البشرية دخلت في زمن خطير من التحولات الثلاثية الأبعاد: في مباني الكينونة الإنسانية (التحول الأنطولوجي)، وفي مسالك الوعي والإدراك (التحول المعرفي)، وفي طرائق الاختبار الجواني النفساني (التحول الوجداني). ويرى عون أنّ لكل تحول من هذه التحولات أسبابه وتجلياته وآثاره.
يعدّ مشيرعون كتابه بمثابة "تأملات فلسفية"، لكنّ الغوص في تفاصيل الكتاب (175 صفحة) يفصح عن تصورات نظرية، وأخرى عملية تتوخيان صهر تقلبات الوجود وإعياءاته في مرجل الفلسفة من أجل اشتقاق خيارات "شفائية" مبتكرة وكريمة لحياة الإنسان، اعتماداً على دروس الجائحة وعِبَرها التي يتوقع المؤلف ألا تكون الأخيرة، مما يستدعي التحفز مبكراً للمواجهة، قبل أن يدهم الطوفان البشر ويهدّم عمرانهم، وهو ما يسميه عون "استباق الكارثة الإفنائية".
ويحسب للمؤلف، (وهذا استدراك ضروري) أنه لم يركن إلى ما رآه "تأملات فلسفية"، بل أخرج المفهوم من حيز التداعيات الحرة المعطوفة على حس أدبي، وشجن مأتمي لأحوال البشرية الفائتة والمنتظرَة، وقد دعم تأملاته بالمراجع والاقتباسات، لأنه لم يتمكن من التخلي عن دوره البحثي الأكاديمي، ولا يستطيع ذلك، وهو المعروف بجديته وصرامته في القول، ودقته في التعبير، وأمانته العلمية التي تشهد عليها كتبه وأبحاثه ومقالاته.
فيروس كورونا وتعطل العقل
وبطريقة تعيدنا إلى الأدبيات الفلسفية الخفاقة باللغة الصافية والاجتراحات العميقة، يقودنا عون إلى ربط ذكي وألمعي بين فيروس كورونا وتعطل العقل، وبالتالي انعطاب الأخلاق، فـ"الكوفيد التاسع عشر" على حد تعبيره، هو "عطل أخلاقي أصاب طبيعة الفهم الإنساني"، ذلك أنّ النضج الإنساني ثمرة الانسجام الحق بين العقل النظري والعقل العملي. ومن وجوه تعطل العقل الإنساني، أن "يصيبه الشلل البيولوجي، أو أن تسيطر عليه أهواء الغرائز الأنانية الخبيثة، أو يهيمن عليه التصلب الأيديولوجي، أو أن تروضه الغيبيات المترجرجة، والصوفيات الرخوة، والوجدانيات الضبابية"، ليخلص إلى: "إنزع العقل عن الإنسان، فإذا به يتحول إلى آلة همجية، وجسد غريزي، وساحر مشعوذ، وراقص منتشٍ يترنح على أمواج الأوهام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذ تبدو لغة الكتاب مفعمة بالاشتقاقات المبهرة، فإنه يقدم أفكاره باعتبارها "مانفيستو" إنسانياً يحمل قلق الوجود، ويحذر من هيمنة الإحساس القيامي الذي أوحت بها الوتائر المتسارعة للجائحة التي لا خروج منها راهناً أو مستقبلاً، إلا "بتحرير الحياة من براثن الحسابية الإنتاجية الآلية، وإخضاع العلوم لإرشاد الفكر الإنساني الذي تقوده الفلسفة، من أجل إعادة اكتشاف الذات الإنسانية الحرة الواعية القادرة على التنعم ببركات الوجود، على غير ما تفرضه علينا الإعلاميات السوقية الافتراضية المزيفة".
مهمة شاقة
لا بد من الاعتراف بأنّ الكتابة في شأن متحول ذي طبيعة علمية بحتة تتقصى نشأة "الكوفيد التاسع عشر"، مهمة شاقة، لاسيما إن كانت المرجعيات الفكرية في الحقل ذاته شحيحة وذات إلماحات عامة تحدثت عن الأوبئة والانعطابات كجزء من أضرار الوجود، وأفعال الإنسان غير المسؤولة. ويلمس قارئ هذا الكتاب العناء الذي واجه المؤلف في سبيل جمع كل ما اتصل بالوباء من ناحية نظرية ومختبرية، وبين السياقات التأملية التي يجب أن توضع فيها وتخضع لها.
لقد طاف المؤلف في فيافي الفلسفة وغاباتها وسهولها وهضابها، طواف العارف المستنير، فنقل الكتاب من كونه حديثاً عن مسببات الجائحة الكورونية وآثارها، إلى أن يغدو كتاباً في إعادة ترميم الوجود الإنساني والوعي الذاتي للبشر، وتوجيههما إلى الغايات الأخلاقية المنزهة عن الغرض، والتي تبدأ من أنسنة اللقاحات، ولا تنتهي عند فضائل العزلة القسرية وتلك الطوعية، فضلاً عن التحذير من تطرف العقل الاقتصادي الانتفاعي، وسعي الكتاب إلى حث العقل الإنساني واستنهاضه لمواجهة جائحات قادمات لا يجزم المؤلف باستحالتها، رابطاً هذه العناصر وعازياً مسبباتها إلى انعطاب العقل، وبالتالي الوعي الأخلاقي، وملوحاً بأهمية انعقاد الاجتماع البشري على التكاتف والخيرية: "حتى نعود فنطل على العالم إطلالة الناضج المكتنز القادر على المجالسة الأنيقة، والمخالفة اللطيفة، والمعاشرة البناءة".