ملخص
تعود الكاتبة اللبنانية الفرنكفونية دومينيك إده بقارئها إلى بيروت 2022، عام ما بعد "كوفيد" وما بعد فشل "الربيع" وما بعد سلسلة الأزمات والانهزامات. انهيارات متتالية متراكمة متلاحقة عرفها لبنان واللبنانيون تسرد نتائجها وعواقبها إده في روايتها "قصر موال" التي ترجمت حديثاً إلى العربية وصدرت عن دار المكتبة الشرقية (2025)، بترجمة ماري طوق.
في ما يناهز الـ260 صفحة، تسرد دومينيك إده قصة قصر آل موال وأهله، قصة انهزام أفراد وانهيار طبقة أرستقراطية وتلاشي حقبة ذهبية من تاريخ بيروت. أما هذه الأخيرة، فتذكرها الشخصيات بـ"نوستالجيا" ورومنطيقية وحسرة. فشل واضح في المحافظة على المدينة وحمايتها وحماية البلد بأسره من أتون الحروب الداخلية والطائفية. فيقول راوي إده بكل مباشرة وقسوة "يوماً بعد يوم، يتصدع لبنان، يغير جلده ووجهه، ويتفكك. كل شيء يستمر مراوحاً مكانه. ليس هذا ببلد، بل هو نموذج مصغر وضع على قطعة أرض وترك هناك ليتعفن".
يحزن القارئ لما يصيب البلد والمدينة والقصر وآل موال. يحزن للطائفية المتراكمة والفقر المستشري والاستسلام المتجذر في النفوس، حال من فقدان الأمل وموقف عبثي من التمرد والكفاح ولا رغبة حتى في الاعتراض. فيرد على لسان إحدى الشخصيات ما يعكس هذه الحال بسخرية فذة وفظة، "هناك سائح قال لي البارحة: ماذا تنتظرون لتنزلوا إلى الشارع؟ فأجبته بالفرنسية التي تتحدث بها زوجتي: أنا في الشارع يا سيدي، لا أستطيع النزول أكثر من ذلك".
عائلة مفككة وطبقة متلاشية
تكتب دومينيك إده قصة عائلة مفككة بامتياز. فالأم ليونورا الإيطالية البالغة من العمر 76 سنة، هجرت في شبابها زوجها سليم الأرستقراطي البيروتي من أجل أن تكون مع عشيقها، لكنها ما تلبث أن تعود لعائلتها من دون أن ندري كيف استقبلها زوجها ولا لماذا قبل بتوبتها.
الزوج سليم من ناحيته، هجر قصره وإرث عائلته وطبقته ليقيم في فندق بيروتي. لا يعرف القارئ خفايا شخصية سليم وتفاصيل أسباب تصرفاته، لكنه يعرف أنه صامت مستسلم بخاصة عندما يقول "أنا أغتنم خفية الفرصة من تلازم انهيار البلد مع انهياري". لماذا قبل سليم بعودة زوجته ليونورا بعد خيانتها؟ لماذا ما زال على حبها؟ لماذا هجر قصره وهو صاحب القصر؟ لماذا نراه عاجزاً إلى هذا الحد؟
أما ابن سليم وليونورا، رياض، فهو لا يعيش مع والديه ولا يراهما سوى قليلاً ويجسد بتصرفاته وأقواله الطبقة المخملية المضمحلة والمارونية السياسية المتمسكة بتاريخها وبوجودها في الشرق. ورياض غاضب دوماً، يراه القارئ حاقداً على أمه لخيانتها أبيه ولتركه طفلاً والرحيل عنه مع عشيقها، ويظهر كذلك حاقداً على أبيه لاستسلامه وانهزامه وتخليه عن القضية المسيحية.
عائلة أرستقراطية مفككة أفرادها غاضبون من بعضهم ولا تواصل بينهم. علاقة toxic كما نقول في العاميات اليوم. فعلى من يقع اللوم؟ التواصل في البلد كله غير موجود فكيف بالأحرى في عائلة متشرذمة؟
مثلث آخر يظهر في هذا القصر المتهافت هو مثلث الخدم غير اللبنانيين. فهناك أولاً المساعدة الفرنسية فينيز التي تقرأ لليونورا السبعينية وتعيش في القصر وتقيم علاقة مع صاحب القصر. وهناك أيضاً ساري وديمي الزوجان الفيليبينيان اللذان يقومان بشؤون القصر. سكان القصر كلهم من غير اللبنانيين وصاحب القصر في الفندق، فهل من رمزية أقوى؟ تقول الكاتبة على لسان الخادم الفيليبيني ساري نفسه "ولبنان أي رجاء منه في النهاية؟ لا اللبنانيون يهتمون ببلادهم، ولا بلادهم تهتم بهم. [...] وإذا كان ثمة ما يقال، فإن عدد غير اللبنانيين في هذا البلد أكثر من عدد اللبنانيين أنفسهم"، ليتحول القصر على حين غرة إلى مصغر عن البلد بهمومه وقضاياه وهزائمه.
البيت مرآة الوطن
تعكس عائلة موال انهزام الوطن واللبنانيين، فيقول صاحب البيت وصاحب الدار واللبناني الوحيد في هذه الرواية "نحن مهزومان، ولكن الأمر ليس خطيراً، فما زلنا نحن أنفسنا"، ليكمل الراوي الإمعان في حال الفشل عندما يقول "لم يعد الناس يصغون إلى بعضهم البعض في هذا البلد. لم تعد لديهم القدرة ولا الوسائل. في أفضل الأحوال، يتحدثون مداورة ولكنهم لم يعودوا قادرين على الإصغاء. الذاكرات امتلأت حتى التخمة والحاضر ينوء بأعبائه".
وضع عبثي انهزامي واضح تعكسه الشخصيات بترددها الدائم وعجزها وصمتها ولا حيلتها. البلاد كلها عاجزة منهارة، سليم نفسه يقول "ليونور، هي كالبلاد. مدمرة، ومع ذلك تضج أحياناً بفتوة معاندة. منذ متى من الوقت فقدنا الشجاعة؟ منذ متى من الوقت بتنا نخاف؟".
الزمن نفسه زمن انهيارات، ويبدو ذلك واضحاً من خلال الأحداث المتسلسلة. فما معنى أن يغادر صاحب البيت بيته ليقيم في فندق؟ وما معنى أن سكان البيت جميعهم أغراب؟ وما معنى طمع المسلم في بيت المسيحي واستعداد ابن البيت المسيحي للقتال للدفاع عن بيته؟ وما معنى أن يعتكف صاحب البيت خارجه ثم ينسحب إلى بيت حارس أملاكه خارج العاصمة؟
تعكس هذه الرواية بالعائلة التي تقدمها انهيار المكان والزمان والعلاقات والتواصل والقدرة على الإصغاء إلى الآخر ورؤيته. ويجسد تفكك القصر والعائلة تفكك بلد بأسره. اللغة نفسها تعكس هذا الانهيار والسقوط، فيقول الراوي منذ البداية "هذا التباطؤ اللبناني في الكلام الذي يتراوح، تبعاً للناس، بين الجاذبية واللطف المتكلف، ليس مجرد إيقاع مشرقي بل هو أيضاً طريقة للصمود، وامتصاص الصدمة التي يحدثها كل ما ينهار من حولهم بسرعة مربكة. [...] كلما أمعن لبنان في الانهيار، تمطط الكلام".
سرد مطعم بترسل
توظف دومينيك إده فن المراسلة في سردها، فالنص زاخر برسائل ترسلها الشخصيات إلى بعضها أو رسائل جرى الاحتفاظ بها وتعيد الشخصيات قراءتها رغبة منها في العودة للزمن الجميل. وتتحول الرسائل في هذه الرواية إلى شق يتلصص منه القارئ على دواخل الشخصيات وماضيها في نوع من الـ voyeurisme. فيكتشف القارئ قصة حب ليونورا وسليم، وقصة حب ليونورا وعشيقها الفنان الذي تركت ابنها وزوجها من أجله، كما يكتشف قصص عائلة آل موال من خلال مراسلات سليم وشقيقه نبيل. رسائل كثيرة يبدأ بها السرد وينتهي بها في حلقة مفرغة ودائرة تنتهي حيث تبدأ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقع القارئ كذلك على "مونولوغات" داخلية كثيرة تفضح أفكار الشخصيات، فبينما الراوي خارجي في معظم مواضع السرد، يتحول في أحيان مفاجئة إلى راوٍ داخلي ينقل أفكار الشخصيات وخواطرها في غفلة عنها.
غربة واضحة تظهر في سطور هذه الرواية من خلال الرسائل والـ"مونولوغات"، غربة يعيشها الغرباء عن بيروت واللبنانيون أنفسهم. وسقوط واضح ومدوٍّ لطبقة وعائلة ومدينة وتجلٍّ واضح للعجز عن العيش، فيقول سليم في جملة غريبة ورمزية بصورة مهيبة "يا له من فعل: عاش. لا أقصد أن تكون على قيد الحياة. بل أقصد أن تحيا".
تخلق دومينيك إده شخصيات عاجزة عن العيش، فلا هي حية ولا هي سعيدة ولا هي قادرة على التغيير أو التواصل مع محيطها. وهذا الواقع ليس مرده الشيخوخة أو التقدم في العمر كما يمكن أن يتهيأ للقارئ، بل مرده بلد عاجز بأكمله وزمن قاهر قاسٍ متوحش مليء بالطائفيين والمتزمتين والانتهازيين على عكس زمن ما قبل حرب عام 1975، فتكتب ليونورا في إحدى رسائلها "الماضي يدور من حولي مثل كلب ينتظر شيئاً ما، ولكن ماذا؟ لم أعد أرى لا بداية، ولا وسطاً، ولا نهاية".
أمر واحد تتركه دومينيك إده يتسلل داخل السرد ومن المحال ألا يلاحظه القارئ، وهو الضوء. فيلاحظ قارئ "قصر موال" أن عنصر الضوء موجود في مواضع مختلفة ليمنح بعض السلام والراحة للشخصيات وللوطن. وتترك الكاتبة شعاع أمل وضوء لقارئها ولمدينتها بكل حنكة وعمق ورمزية سردية هي التي تقول على لسان سليم صاحب القصر وصاحب البلاد وصاحب الهموم "قد ينقضون على الأرواح، والبيوت، وعلى المشهد، لكنهم لن يستطيعوا أبداً النيل من الضوء. وحده الضوء عصي وبعيد المنال في هذه المنطقة". فهل من ضوء فعلاً لقصر موال وللبنانيين؟
وختاماً لا بد من الإشارة إلى الترجمة الجميلة والمتقنة والسلسة التي أنجزتها المترجمة اللنبانية ماري طوق، مرسخة النص الروائي في بنيته اللبنانية ومانحة إياه بعده اللغوي والتعبيري.