ملخص
يتفق الباحثون والمعنيون على أن تيارات الإسلام السياسي باتت أمام سؤال الحقيقة في ما يتعلق "بالبقاء والوجود"، بعدما تآكلت جماهيريتها، وظهر مدى تهافت مشروعها للحكم، وهي إن لم تندثر كلياً إلا أنها باتت مأزومة، تعاني انقسامات وتصدعات غير مسبوقة غير قادرة على التعافي منها بعد.
لم تكن ظاهرة "الإسلام السياسي" بتعقيدات حركاتها وتياراتها وتشابكها وتناقضها في آن معاً عابرة أو على هامش المشهد خلال العقدين ونيف الماضيين، فبقدر زخم الأحداث وتسارع ديناميكيتها صعوداً وهبوطاً كانت تلك الظاهرة بمفاعيلها وتحولاتها حاضرة في قلب المشهد عالمياً وإقليمياً، تحاول صياغة الأحداث وتوظفها وفق تفسيراتها الدينية بما يخدم مصالحها وأهدافها "حصراً"، متأرجحة بين "تأصيل العنف" حيناً والتواري خلف السياسة أحياناً.
وعلى رغم أن ظاهرة التيارات الإسلامية تعود بجذورها وفق البعض إلى أعوام ما بعد الحرب العالمية الأولى وتبعاتها، أو أبعد من ذلك وفق آخرين، فإن من يتتبع تلك المحطات الفاصلة خلال ربع القرن الأخير، التي توصف في أدبيات السياسة بـ"القطيعة التاريخية" أي "تغيرات مفاجئة وانقطاع كبير في استمرارية التاريخ" يتحول معه المشهد بصورة جذرية وتحدث تغيرات كبيرة قد تمتد بآثارها خارج حدود الدولة والإقليم، نجد أن الأحداث الكبرى التي شهدها العالم والإقليم خيمت بين ثناياها "تيارات الإسلام السياسي"، بدءاً من هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة، التي كانت بمثابة نقطة تحول مفصلية في علاقة هذه التيارات بمجتمعاتها وحكوماتها والعالم الخارجي معاً، مروراً بما يعرف بـ"الربيع العربي" حيث تحولات أكثر دراماتيكية، فتحت معها الأبواب على مصراعيها نحو صعود غير مسبوق لحركات الإسلام السياسي، وفي مقدمها جماعة الإخوان المسلمين التي وصلت إلى السلطة في أكثر من بلد عربي، وذلك قبل أن "تتكشف" التجربة وتسقط سريعاً في "متاهات الفشل والإخفاق" مما استدعى معها رفضاً شعبياً ودولياً وإقليمياً قاد إلى تراجعها وخروجها من الحكم، لنواجه بعدها صعود تيارات مضادة أكثر تشدداً مثل "داعش" بإعلان "دولة خلافة" تتجاوز بغاياتها "الجغرافيا والتاريخ".
وأمام ذلك المسار المليء بالمفارقات والتشابك، إذ تدحرجت تيارات الإسلام السياسي بين منحدرات الصعود والهبوط، والتحول من فاعل رئيس في المشهد إلى "ظاهرة مأزومة"، متأرجحة بين محاولات التكيف السياسي والانسداد الفكري، وبين فقدان النفوذ داخلياً وتراجع الحضور عالمياً، يجد الباحثون والمعنيون بالظاهرة أنفسهم أمام مشهد بالغ التعقيد والتداخل، تتفاعل فيه الديناميات المحلية مع التحولات الإقليمية والدولية، وتتشابك فيه العقيدة مع السياسة، والهوية مع الصراع على السلطة، والشعارات مع ضغوط الواقع، مما يدفعنا إلى إعادة محاولة قراءة الظاهرة وأبرز حركاتها لا سيما جماعة "الإخوان المسلمين" وما يعرف بـ"حركات السلفية الجهادية"، لفهم ما إذا كانت قد تبدلت أدواتها أو تحولت أهدافها خلال ربع القرن الماضي.
جذور وسياقات "الإسلام السياسي"
يجمع كثير من المفكرين والمعنيين بظاهرة حركات الإسلام السياسي على أن جذورها نشأتها تعود بالأساس إلى الربع الثاني من القرن الماضي كنتاج تراكمي لمزيج من التحولات الدينية والاجتماعية والسياسية التي عرفها العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الـ19، إذ نشأت هذه الحركات في سياق شعور "عميق بالأزمة الحضارية" بعد تفكك الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى ونهاية خلافتها عام 1924.
وأمام تزايد موجات الاستعمار بصورته الكلاسيكية في المنطقة ارتبطت تلك الحركات بصورة رئيسة بسؤال مركزي، مفاده "كيفية استعادة قوة الأمة الإسلامية ومكانتها في مواجهة الغرب"، وعليه تبلورت البذور الأولى لـ"الإسلام السياسي" كمشروع يهدف إلى تفعيل الإسلام كمرجعية شاملة تنظم شؤون الدولة والمجتمع، وليس فقط كعقيدة فردية أو شعائرية.
وعلى رغم أن هذا الهدف أو المسعى كان مسار محاولات إصلاحية من رموز إسلامية طرحوا مشاريعهم الفكرية خلال القرن الـ19، أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وغيرهم، فإن ما يعرف بتيارات الإسلام السياسي انتقلت "بغاياتها وأهدافها" بعد انهيار الدولة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي التي كانت نقطة فاصلة في تاريخ تلك الحركات، من حال "الفكر الإصلاحي" إلى "الممارسة التنظيمية" أي خلق وتأسيس جماعات سياسية منظمة ذات أهداف "معلنة وسرية"، وهو ما تجلى سريعاً في حال تأسيس جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر عام 1928 على يد حسن البنا، حيث محاولات "إحياء مجد ضائع قديم في الدولة الإسلامية والخلافة".
لكن وأمام تنوع وتعدد تلك التيارات بدأ ما يعرف بمصطلح "الإسلام السياسي" في التشكل، لا سيما في فترة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين بدأ المستشرقون مثل ماكسيم رودنسون باستخدام المصطلح لدراسة الحركات التي تسعى إلى الجمع بين "الإسلام والسياسة"، وذلك حين ناقش في كتابه "الإسلام والسياسة" في سبعينيات القرن الماضي العلاقة بين الإسلام والسلطة السياسية، مشيراً إلى أن الحركات الإسلامية "تسعى إلى إحياء الماضي الإسلامي المجيد في مواجهة الحداثة والاستعمار".
وعليه يشير مصطلح "الإسلام السياسي" بصورة رئيسة، وفق ما أجمع عليه غالب الباحثين والمؤرخين، إلى توصيف تلك الحركات التي تؤمن بالإسلام باعتباره "نظاماً سياسياً للحكم"، وأنه "ليس عبارة عن ديانة فحسب، وإنما عبارة عن نظام سياسي واجتماعي وقانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات دولة"، معتبرين أن هدف كثير من تلك الحركات هو الوصول إلى إقامة نوع من "النظام السياسي الإسلامي" يصبح أداة لإعادة النهضة والريادة الإسلامية وإعادة إحياء مجد الماضي وفق نظرتهم، إلا أنه نحو الوصول إلى تلك الغاية تختلف هذه الحركات باختلاف الرؤى والاتجاهات، إذ إن بعضها يسعى إلى إقامة "الخلافة الإسلامية" بصورة عالمية مثل "حزب التحرير"، وبعضها إقليمي يهدف إلى إقامة دولة إسلامية تتجاوز القطرية العربية كما هي الحال بالنسبة إلى "الإخوان المسلمين"، وأخيراً حركات ذات طابع محلي ينحصر عملها في إطار دولة معينة كما هي الحال بالنسبة إلى الحركات الإسلامية في غزة وأفغانستان.
أما بحسب عالم السياسة والمتخصص في الشؤون الإسلامية الفرنسي أوليفييه روا، الذي ألف كتاب "فشل الإسلام السياسي" والمنشور في أوائل تسعينيات القرن الماضي، فقط ترسخ مصطلح الإسلام السياسي إبان الثورة الإيرانية عام 1979، وبات واسع الانتشار على نطاق واسع في العالمين العربي والإسلامي، مشيراً إلى أن المصطلح يشير إلى "وجود حركات سياسية يترأسها علماء مسلمون متعلمون يدعون إلى إعادة أسلمة البلدان ذات الغالبية المسلمة والمجتمعات الإسلامية في أماكن أخرى، التي توقفت، في نظرهم، عن أن تكون إسلامية بما فيه الكفاية. وروجت هذه الحركات للشريعة الإسلامية من خلال الأشكال الحديثة للتعبئة الشعبية، واعتمدت هيكلاً تنظيمياً مختلطاً، في نقطة تقاطع بين الأخوية الصوفية التقليدية، التي يمر فيها الأعضاء بخطوات مختلفة من الارتقاء، والحزب السياسي الحديث".
ومن أجل هذا، عمل "الإسلاميون" وفق روا، على مسارين هما "تعزيز حركة اجتماعية يمكن أن تتشارك مع المنظمات المجتمعية والجمعيات الخيرية، وإنشاء حركة سياسية تتنافس في الانتخابات وتقوم بدفع أعضائها إلى داخل بيروقراطية الدولة"، مشيراً إلى أن جماعة الإخوان المسلمين، الممثل الأبرز والأول لظاهرة الإسلام السياسي السني، وقد تمكنت لاحقاً من تأسيس فروع لها في جميع أنحاء العالمين العربي والإسلامي، موضحاً أن ظاهرة الثورة الإيرانية التي ينتمي علماؤها إلى الفضاء الإسلامي الشيعي "أغرت الإسلام السياسي السني بإمكان استنساخ التجربة بالسيطرة على الدولة وأسلمتها، مما أدى إلى اجتهادات قادت إلى انشقاقات الإسلام السياسي حول طرائق الهيمنة والسيطرة، فبرزت توجهات راديكالية تؤمن بالقوة المسلحة والعنف في التغيير، وظهرت توجهات محافظة سلمية تتموضع في إطار الدولة الوطنية وتعمل من خلال أنظمتها ومؤسساتها وتستثمر فضاءات الديمقراطية ومناخات الحرية".
من جانبه ووفق رؤية الباحث مقتدر خان، وهو أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة ديلاوير، زميل معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم، لما يسمى "الإسلام السياسي" في مجلة "العلاقات الدولية"، فإنه على رغم ربط "الإسلام السياسي" ببعض الأسماء بعينها مثل حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمه، فإن للمصطلح تاريخاً أبعد من ذلك يقوم على رثاء مجد ضائع قديم، موضحاً "كان كثير من المفكرين والعلماء المسلمين منذ بداية الحقبة الاستعمارية وبداية هيمنة الغرب على الدول الإسلامية في رثاء وندب لضياع الإمبراطورية الإسلامية وقوة ومجد الإسلام، وكانت اللحظة الرئيسة التي تبلور فيها الشعور بتراجع السلطة الإسلامية عندما اختفت الإمبراطورية العثمانية تماماً عام 1924، على رغم ما كان فيها من أزمات وتدهور، وعليه ظهر كثير من الحركات الإسلامية التي تحمل هدفاً واضحاً يتمثل في إحياء الأمة الإسلامية وإصلاح المجتمعات المسلمة واستعادة مجدها السابق".
ويتابع مقتدر خان، قائلاً "لا يوجد إجماع تام حول السبب الرئيس لهذا التخلف والتراجع بعدما كانت الأمة الإسلامية تتسيد العالم، غير أن الجميع يتفق على أن هذا التراجع قد بدأ منذ قرون، حتى إن بعض المفكرين قالوا إن السبب في فقدان المسلمين قوتهم وسطوتهم هو أنهم هجروا شريعتهم الإسلامية، القانون الإلهي الذي يقتضي الدين باتباعه، وهم يفترضون أنه إذا اتبع المسلمون الشريعة الحقيقية فإنهم سيحظون بالمجد مرة أخرى مثل أسلافهم المسلمين، لذا فإن أفضل طريقة لتنظيم المجتمع، بحسب رؤيتهم، هي وفقاً للشريعة الإلهية، ولأن المسلمين قد هجروا هذا المسار الإلهي للنجاح تخلفوا عن باقي الحضارات، وهذه هي الفرضية الأساس وراء الحركات التي يتم تعريفها بصورة عامة تحت عنوان الإسلام السياسي، مثل الجماعة الإسلامية في جنوب آسيا والإخوان المسلمين في العالم العربي". ويمضي قائلاً "ينتشر كثير من حركات إحياء الدين في العالمين الإسلامي والعربي، وكذلك في المجتمعات الإسلامية في الغرب، إلا أن هذه الحركات لا تدخل تحت اسم الإسلام السياسي، إذ ترتكز على الجانب الديني والاجتماعي بصورة كبيرة وحصرية، وحدها تلك الجماعات التي تعتقد أن الإسلام نظام سياسي شامل يدمج الدين بالحكم وأن كل المسلمين يجب عليهم اتباعه وجوباً عقائدياً هي من تدخل تحت اسم الإسلام السياسي".
وبينما تعرف الموسوعة البريطانية "الإسلام السياسي" نقلاً عن وزارة الخارجية الإنجليزية بأنها تلك الحركات الساعية إلى "تطبيق القيم الإسلامية في الحكومات الحديثة، من خلال المشاركة في العملية السياسية، وفي بعض الحالات تكون هذه المشاركة تكتيكية، وليست مستمدة من إيمان أو التزام القيم والعمليات الديمقراطية، ويمكن أن يشمل مفهوم الإسلام السياسي جماعات متطرفة ومعارضة للديمقراطية، أو معادية للغرب والليبرالية".
يحصر المفكر الأميركي وعالم الاجتماع آصف بيات في كتابه "ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي" غايات حركات الإسلام السياسي الرئيسة في "بناء مجتمع أيديولوجي نقي تتحقق فيه مُثل الإسلام وأن سعيهم تاريخياً إلى السيطرة على الدولة وأسلمتها هي الطريق الرئيس لتحقيق هذه الغاية، لأنهم يعدون الدولة هي المؤسسة الأقوى والأقدر على إقامة الخير ومحو الشر من مجتمع المسلمين".
إلى ذلك يقول سونر جاغابتاي زميل أقدم في برنامج "بايير فاميلي" ومدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إن "الإسلام لا يعني الإسلام السياسي، بل إن الإسلام هو الإيمان، والإسلام السياسي هو أيديولوجية متطرفة وعنيفة أحياناً وغير تاريخية تسعى إلى كسب شرعيتها عبر الإسلام وتركز جهود التجنيد التي تقوم بها على المسلمين، ويهدف الإسلام السياسي إلى خلق نظام عالمي غير ليبرالي جديد يأخذ تبريره من الماضي المتخيل والصارم".
ويوضح جاغابتاي في دراسة له نشرها بمعهد واشنطن في مايو (أيار) 2015 تحت عنوان "هل المسلمون إسلاميون" أن "العلاقة بين الإسلام والإسلام السياسي هي أقرب إلى العلاقة بين الطبقة العاملة والشيوعية في الحرب الباردة، فقد حاولت الأيديولوجية الشيوعية استخلاص شرعيتها من الطبقة العاملة وسعت إلى التحدث باسمهم، ويحاول الإسلام السياسي أن يفعل الشيء نفسه، ومع ذلك فبما أن الشيوعية لم تمثل الملايين من الطبقة العاملة من الرجال والنساء الذين لم يتعاطفوا مع الشيوعيين فإن الإسلام السياسي لا يمثل المسلمين في أيامنا هذه"، وتابع "تشمل المظاهر الحالية للإسلام مجموعة متنوعة من الحركات الإسلامية، مثل جماعة ’الإخوان المسلمين‘، وتنظيمي ’القاعدة‘ والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وعلى رغم أن هذه الجماعات تستخدم تكتيكات مختلفة، فإن ما يجمعها في الأساس هو أيديولوجية مشتركة لا تحترم القيم العالمية ولا تتبناها".
ربع قرن من الأحداث بين "الصعود والانحدار"
كان ربع القرن الأول من الألفية الثالثة مسرحاً لتحولات كبرى في مسار ما يعرف بتيارات "الإسلام السياسي"، إذ شكلت الأحداث التي شهدها العالم ومنطقة الشرق الأوسط محطات مفصلية في مسيرة تلك التيارات، وذلك بدءاً من هجمات الـ11 من سبتمبر 2001 وصعود الجماعات الجهادية المتطرفة، مروراً بتعزيز حضور تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين بعد ثورات "الربيع العربي" 2011، حين وجدت الفرصة للمشاركة السياسية والوصول إلى السلطة في أكثر من بلد عربي عبر صناديق الاقتراع، لكن سرعان ما اصطدمت هذه التجارب بتناقض تلك الجماعات بين شعاراتها وأهدافها مع المجتمع، وذلك قبل أن تظهر على وقع انحسار وانحدار جماعة الإخوان، تنظيمات أكثر تشدداً مثل "داعش" وغيرها، في وقت أعادت التحولات الإقليمية والدولية تشكيل موازين القوى.
من يتتبع مسار حركات الإسلام السياسي، سواء ما كان يصف نفسه في وقت ما بـ"المعتدل" أو النسخ الأشد تطرفاً منها كما في حال تنظيمي "داعش والقاعدة" وغيرها من حركات "السلفية الجهادية"، يجد أن خلال ربع القرن الماضي مرت تلك الحركات بمحطات صعود وهبوط وتحول من فاعل "ملاحق" إلى "مروض" إلى آخر "متصدر" المشهد، قبل أن يعود إلى خانة المطاردة والحصار تسعى كثير من الحكومات والمجتمعات إلى ملاحقته "درءاً لمفاسده وأفكاره"، مما جعل القائمين عليها أو المنضوين تحت رايتها يتأرجحون بين محاولات التكيف السياسي والانسداد الفكري، وبين فقدان النفوذ داخلياً وتراجع الحضور عالمياً، لتتحول الظاهرة برمتها إلى "حالة التأزم" وفق توصيف كثير من الباحثين.
ولفهم أسباب الصعود والانحدار السريع لجماعات الإسلام السياسي ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين التي باتت تصنف في كثير من الدول العربية والغربية بـ"الإرهابية"، فضلاً عن حركات "السلفية الجهادية"، تقلب "اندبندنت عربية" بين صفحات كثير من الكتب والأبحاث، بحثاً عن إعادة قراءة تلك الظاهرة بعد ربع قرن مما يصفه البعض "زخم الحضور" والانكشاف، مع الرجوع قليلاً بالتاريخ إلى ما قبل ربع القرن الأخير، لا سيما أن جذور الظاهرة تعود بالأساس لعقود كثيرة سابقة.
ففي كتابه "جهاد... انتشار وانحسار الإسلام السياسي"، الذي يعد أبرز الكتب التي ناقشت ظاهرة الإسلام السياسي على المستوى الغربي، يرجع الباحث الفرنسي جيل كيبل، ازدهار ظاهرة الإسلام السياسي في البلدان العربية إلى فشل ما يعرف بـ"الأفكار القومية"، معتبراً أنها "انتعشت على أنقاض الفكرة القومية، التي شغلت المنطقة منذ العدوان الثلاثي على مصر 1956 وازدهرت في الستينيات بقيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وفي الثمانينيات اكتشف عدد من الكتاب ومفكري اليسار والقوميين العرب أن الإسلام السياسي يمتلك جاذبية جماهيرية وشعبية، بينما عانت أفكارهم عزلة وتهميشاً حقيقياً، ومن هنا راح عدد منهم يغازلون التيار الجديد، وتصور بعضهم أن هذا التيار يمكن أن يوصلهم إلى الجماهير، وتطرف بعض هؤلاء القوميين واعتنقوا أفكار الإسلام السياسي، مما شكل الظاهرة التي باتت تعرف في الأدبيات العربية باسم تحولات الكتاب والمفكرين".
من جانبه ناقش النائب السابق لرئيس المجلس القومي للاستعلامات في الاستخبارات الأميركية جراهام فوللر، في كتابه "مستقبل الإسلام السياسي"، مسألة "هل ظاهرة الإسلام السياسي مجرد حال انتقالية لمرحلة حرجة في تاريخ العالم الإسلامي أم أنها بداية تحول وتغيير حقيقيين؟"، معتبراً أن "الربط بين الدين والسياسة هو بمثابة جمع بين اثنين من أكثر مواطن الاهتمام البشري حيوية، وقد يأتي هذا الاقتران للأفضل أو للأسوأ: فكل من الدين والسياسة لهما تاريخ طويل ضارب في أعماق التاريخ من محاولات كل منهما استغلال الآخر، وما يحتم هذه العلاقة التي تجمع بينهما استحالة أن تتجاهل السياسة قوة دافعة قوية مثل الدين، وكذلك استحالة أن يغض الدين، بما له من رؤية لمكان الوجود البشري في النظام الأوسع للأشياء، الطرف عن شكل وتعبير وتوجه المجتمع البشري وسياساته".
وعلى رغم إقرار فوللر أن العلاقة التي تنامت بين الإسلام والسياسة المعاصرة خلال القرن الـ20 ترجع إلى التجاوب مع عوامل داخلية وخارجية، إضافة إلى الميراث الاستعماري وفشل السياسات العلمانية في ترسيخ الحرية أو الرخاء في الحقبة الحديثة، فإنه يعود لشرح طبيعة صعود وهبوط تلك الظاهرة عبر رصد أبرز محطاتها منذ سبعينيات القرن الماضي، قائلاً إنه "في تلك الفترة انتشرت الحركات الإسلامية على امتداد العالم الإسلامي، ومتمتعة بصور متفاوتة من الوضعية القانونية ضمن الأنظمة السياسية التي نشأت فيها"، مشيراً إلى الثورة الإيرانية عام 1979 وإنشاء أول دولة إسلامية في التاريخ، وهو "مفهوم حديث يخلو التاريخ من أي سابقة له، وطرح مجموعة من التساؤلات حول ما يفترض في الواقع أن تكون عليه أي دولة إسلامية وما يفترض أن تفعله"، وقد تبعها نشوء دول إسلامية في السودان وأفغانستان في الأعوام التالية.
وبحسب فوللر، فقد جاء ما يعرف بـ"مرحلة الجهاد الإسلامي" ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان لكي يشكل علامة على ما يطلق عليه كثير من الإسلاميين اسم "أول هزيمة لقوة عظمى من خلال الجهاد الإسلامي المسلح"، وهو حدث كان له تأثيره الكبير في أيديولوجيات كوادر العمل الإسلامي في كفاحها ضد الاضطهاد القادم سواء من الداخل أو الخارج، معتبراً أن الإسلام السياسي "استطاع بسهولة أن يتبنى الوسائل التكنولوجية في نشر أفكاره، ومنها مشاركاته على الإنترنت التي تضمنت مجادلات تحريضية جديدة بآفاق عالمية".
وأوضح فوللر أن تصدر "الإرهاب كوسيلة سياسية استخدمتها بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية المتطرفة الساحة الإعلامية العالمية بسبب فاعليته كوسيلة في أيدي الجماعات والبلدان الضعيفة في مقاومة القوة الغربية، وقد استخدم الإرهاب بشكل قوي ضد ما اعتبره الإرهابيون أعداءً في الداخل والخارج في بلدان مثل الجزائر ومصر ولبنان وباكستان والهند وإيران والصومال واليمن والشيشان وأوزباكستان"، متابعاً "أدى استخدام الإرهاب ضد الولايات المتحدة إلى تدشين حرب أميركية عالمية ضد الإرهاب ذات أصداء جيو- سياسية".
من جانبه، ناقش عالم السياسة والمتخصص في الشؤون الإسلامية الفرنسي أوليفييه روا، في كتابه "فشل الإسلام السياسي"، أوجه القصور التي شابت تجربته مما أفرغها من مضمونها، وجعلها تياراتها تتحول إلى "سلفية جديدة" لا يشغلها سوى تطبيق الشريعة، وهو أمر أفضى إلى ولادة مصطلح "ما بعد الإسلام السياسي"، موضحاً أن "الحركات الإسلامية فشلت عندما تواجهت مع الواقع، في تحقيق هدفها في نهاية المطاف المتعلق بإنشاء دولة إسلامية بسبب التناقضات الداخلية. وبدءاً من نهاية الثمانينيات شهد العالم بدايات عصر جديد لما بعد الأسلمة للعالم المسلم المتسم باللجوء إلى الإسلام القومي أو القومية الإسلامية، أي اعتماد الدولة لإعادة أسلمة المجتمع وخسارة الإسلاميين احتكار الخطاب الديني".
تعقيدات الواقع وإخفاقات التجربة تحدث عنها مركز "ويلسون" للأبحاث السياسية في واشنطن، بالقول إنه "بعد نصف قرن من الزمن أصبحت الإسلاموية (كناية عن تيار الإسلام السياسي) القوة المنفردة الأكثر تخريباً - سياسياً وعسكرياً - في الشرق الأوسط"، مشيراً إلى أن بداية ازدهار تيارات الإسلام السياسي التي تطورت من خلايا من الناشطين السياسيين في السبعينيات إلى حركات جماهيرية، وللمرة الأولى، كقوة حاكمة في أواخر القرن الـ20 وأصبح شعار "الإسلام هو الحل" لازمة شائعة ترددها حركات عدة، وفي الوقت نفسه تحولت الحركات المسلحة المتنوعة - من المغرب إلى مصر، ومن لبنان عبر الخليج - إلى احتجاز الرهائن والتفجيرات الانتحارية ضد أهداف دبلوماسية وعسكرية ومدنية لتعزيز تأثيرها.
ووفق مركز "ويلسون" فبينما توسعت تيارات الإسلام السياسي في القرن الـ21 وفازت الأحزاب الممثلة لها في انتخابات ديمقراطية في المغرب وتونس ومصر والعراق وتركيا وغزة، أصبح المسلحون الذين ينتمون لهذه الظاهرة "أكثر وقاحة"، مهما كانت الخسائر الفادحة في الأرواح بين أتباعهم أو الدمار الهائل، مشيراً إلى أن خريطة الشرق الأوسط تغيرت بعد استيلاء "داعش" على مساحات كبيرة من الأراضي في العراق وسوريا لإنشاء أول خلافة حديثة، كذلك تسببت بعض الجماعات المسلحة المنضوية تحت راياتها في حروب طاحنة خلال الأعوام الأخيرة.
وطوال العقود الماضية شهدت حركات الإسلام السياسي مراحل عدة من الانتشار الإقليمي والعالمي، وتحولات فكرية واستراتيجية فرضتها المتغيرات السياسية والدولية، بخاصة بعد أحداث بعينها مثل "الثورة الإيرانية" 1979، ونهاية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الماضي، مروراً بأحداث الـ11 من سبتمبر 2001، والربيع العربي 2011، وحتى صعود ما يسمى "الإسلاموفوبيا"، كذلك دفعت تلك الأحداث تيارات الإسلام السياسي نحو تقلبات في الرؤية والمنهج والأهداف، وإعادة بعضها مراجعة مقولاته التأسيسية، وطرح أسئلة جديدة حول مفاهيم "الدولة الإسلامية" و"الشريعة والحكم".
ولفهم مساحة الانتشار المتسارعة التي أوجدتها تيارات الإسلام السياسي منذ بدايات ظهورها مروراً بمحطات الصعود والهبوط طوال عقود القرن الـ20، يفسر لنا فيلسوف الأخلاقية الأميركي الشهير إريك هوفر في كتابه الشهير "المؤمن الصادق: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"، حين ناقش في مطلع خمسينيات القرن الماضي جذور وطبيعة الحركات الجماهيرية والدينية والسياسية، مشككاً في مدى عمق استيعاب أتباع تلك الحركات الجماهيرية حقيقة أهدافها وأفكارها، قائلاً "عندما تعتقد أعداد كبيرة من الناس أن حياتهم الفردية لا قيمة لها وأن العالم الحديث فاسد لا يمكن إصلاحه يكمن الأمل الوحيد فقط في الانضمام إلى مجموعة (شمولية) أكبر تهدف إلى تغييرات جذرية، إذ تعد الرسائل البسيطة والقوية والرموز الجماهيرية أدوات فعالة لتوحيد الأفراد وتعزيز شعورهم بالانتماء، وعلى رغم أن هذه الأدوات قد تكون تلاعبية، فإنها تعمل بصورة فعالة لتلبية الحاجات العاطفية والنفسية للأفراد".
ووفق هوفر فإن "الحركات الجماهيرية قد تسبب ضرراً بالجماهير التي تجذبها، ويمكن أن تكون مصدراً للتلاعب والتحريض على العنف، وقد تؤدي إلى التطرف والانقسامات الاجتماعية، وهذا يشير إلى أن الأفراد الذين يشعرون بالإحباط والاضطراب يجب أن يكونوا حذرين عند الانضمام إليها، ويعدوا الأثر الذي قد يكون لها في حياتهم ومجتمعاتهم"، مشيراً إلى أن "تقدير الذات والشعور بالرضا تجاه الحياة من أهم وسائل الشعور بالمعافاة النفسية"، وأن "الحركة الجماهيرية يخطط لها رجال الكلمة، ويظهرها إلى حيز الوجود المتطرفون، ويحافظ على بقائها الرجال العمليون".
هل انتهت ظاهرة "الإسلام السياسي"؟
على وقع حال الانحدار والتشظي غير المسبوقة التي تواجه غالب تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، يجادل البعض في ما إذا كانت تلك الظاهرة قد أوشكت على نهايتها، أم أن العالم والمنطقة لا يزالان أمام مرحلة كمون من تلك التيارات تحاول خلالها لملمة أوراقها وإعادة التكيف مع الواقع والمتغيرات الجديدة لتحين الفرصة للعودة بصورة مغايرة.
وأياً كانت الصورة المستقبلية، التي لا تزال شائكة بالنسبة إلى كثر، إلا أن غالب الباحثين والمعنيين يتفقون على أن تيارات الإسلام السياسي باتت أمام سؤال الحقيقة في ما يتعلق "بالبقاء والوجود"، بعدما تآكلت جماهيريتها، وظهر مدى تهافت مشروعها للحكم، وهي إن لم تندثر كلياً إلا أنها باتت مأزومة، تعاني انقسامات وتصدعات غير مسبوقة غير قادرة على التعافي منها بعد.
في دراسته المعنونة "مأساة الإسلام السياسي: قرن من التجارب مع الحداثة"، يقول طارق عثمان مؤلف كتابي "مصر على الحافة" و"الإسلاموية: تاريخ الإسلام السياسي"، إن صعود الإسلاميين في أعقاب الربيع العربي أثار حالاً من الاستقطاب المجتمعي في كثير من الدول، وما زاد من تأزم الظاهرة هو "تصدر الجهاديين مشهد حركات الإسلام السياسي بعدما استخدموا العنف الشديد في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي"، في إشارة إلى تنظيم "داعش".
واعتبر عثمان في دراسته المنشورة عام 2016 بالجامعة الأميركية بالقاهرة أن "الإسلام السياسي في مأزق، فالإخوان المسلمون في مصر، أقدم وأكبر منظمة إسلامية تعمل في العالم العربي، قد أصبحت محظورة وصنفت منظمة إرهابية في عدد من الدول العربية الأكثر نفوذاً، كذلك خسرت حركة النهضة التونسية، التي يمكن القول إنها الحركة الإسلامية الأكثر تطوراً في الفكر السياسي في المنطقة، تموضعها في الساحة التونسية، واضطرت مراراً وتكراراً إلى أن تنأى بنفسها عن المتشددين الإسلاميين الذين يهددون تونس"، بعدما تصدرت الجماعات الإسلامية المستويات العليا من السلطة في كثير من البلدان قبل أكثر من عقد من الزمان، كما حدث في مصر والكويت والمغرب وتونس وليبيا بدرجة أقل.
ويرجع عثمان فشل الإسلاميين في ذلك الوقت إلى حال الاستقطاب العميقة التي أحدثها صعودهم في العالم العربي، موضحاً "صار لدى قطاعات واسعة من المجتمع تخوف من مشروع ينظر إليه باعتباره مشروع أسلمة، خشي كثر – خصوصاً في الدول ذات التراث العلماني الكبير مثل مصر والمغرب وتونس – أن ما سيحدثه صعود الإسلاميين ليس تغييرات تدريجية في الهياكل السياسية والاقتصادية فحسب، بل تحولاً تاماً في الهويات والديناميات الاجتماعية، أي، باختصار، انقلاباً في شكل المجتمعات وجوهرها. وتصاعدت المخاوف بظهور جماعات متشددة ومهمشة لم تمارس السياسة من قبل، مثل السلفيين، باعتبارها قوة اجتماعية وسياسية لا يستهان بها"، مضيفاً "لم تزد المخاوف إلا تأججاً بعد الانتشار الصادم للجماعات الجهادية العنيفة في المنطقة، جماعات تذكرنا بتنظيم ’القاعدة‘، إذ تبنت هذه الجماعات أيديولوجية الجهاديين المتشددين في العقود القليلة الماضية"، مشيراً إلى أنه بعد أعوام من الربيع العربي "عاد الإسلام السياسي في المنطقة كما بدأ: مهمشاً، ومضطهداً، وملاحقاً، ولا يحظى بالثقة، على رغم نشوة امتلاك السلطة التي لم تستمر طويلاً، ومن ثم فقد ضاعت فرصة ثمينة لتحقيق مصالحة بين الإسلام والحداثة العلمانية".
ووفق عثمان فإن الفترة الأخيرة من التحولات السياسية والاجتماعية التي يشهدها العالم العربي "يبدو أن الإسلام السياسي في العصر الحديث قد أنهى دورة كاملة، فعاد إلى ما كان عليه في القرن الـ19. بعض الإسلاميين ينظرون إلى الوراء باحثين عن تعاليم الدين الرشيد ليحاولوا دمجها مع الحداثة والانفتاح على التغيير، وتفسيرات على درجة عالية من المرونة لتحديد معنى الإطار المرجعي الإسلامي. البعض الآخر ينظر إلى الماضي في غضب، فيرفض الحداثة، وينظر إلى العلمانية باعتبارها تهديداً بتدمير التراث الإسلامي، ويصر على عقيدة الإسلام القتالي التي ترفض المضي قدماً، وترفض الآخر".
من جانبها تناقش الباحثة المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والحركات الإسلامية أليسون بارجتر، في كتابها "العودة إلى الخفاء: جماعة الإخوان المسلمين وحركة النهضة منذ الربيع العربي"، التقلبات الدراماتيكية الذي شهدها تيار "الإسلام السياسي" عقب إطاحة جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر بعد الـ30 من يونيو (حزيران) 2013، وضعفها في ليبيا عقب محاولتها الفاشلة لتأمين مكانتها في النظام السياسي في مرحلة ما بعد "القذافي"، وتضرر صدقية حركة "النهضة" وتراجع شعبيتها في تونس، مرجعة بالأساس أسباب فشل جماعة "الإخوان المسلمين" في عدد من الدول التي صعدت فيها عقب "الربيع العربي"، إلى أسباب سياسية أكثر منها دينية، نتيجة نقص الخبرة السياسية، وقصور فهمها الواقع السياسي المتغير، إذ كشفت المشكلات التنظيمية عن ضعفها وافتقارها إلى الرؤية السياسية الواضحة، كذلك أدى سوء قراءة الوضع السياسي، وتركيزها على الهيمنة السياسية بصورة سريعة، إلى وقوعها في مجموعة من الأخطاء التكتيكية.
ومن بين أسباب الفشل كذلك، تمثلت بحسب بارجتر، في الفكر والأيديولوجية، حين اتسم صعود الجماعة إلى السلطة بالضحالة الفكرية والأيديولوجية وسطحية المبادئ الأساسية التي ترسخت في عقيدتها منذ إنشائها، والنهج "الانتهازي" والرغبة الشديدة في التضحية بأيديولوجيتها من أجل نصر سياسي قصير المدى، كذلك فإنها افتقرت إلى القدرة على المرونة والقدرة على التكيف مع المتغيرات في الواقع السياسي، مشيرة إلى أن قطاعات جماهيرية عريضة اكتشفت الهوة الواسعة بين خطابهم الديني وتصرفاتهم الواقعية بعد توليهم السلطة.
وفي قراءاتها مستقبل الحركات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان، جادلت بارجتر، بأن تراجع وانحدار شعبية الجماعة وتيارات الإسلام السياسي لا يعني بالضرورة "نهاية الظاهرة"، قائلة "حتى الآن لا يزال من السابق لأوانه الجزم بذلك، لأن ’الإخوان المسلمين‘ قد تولوا الحكم في مصر في مرحلة انتقالية فوضوية ومفاجئة في منطقة كانت تتميز بالاستقرار عقوداً"، معتبرة أن "الإخفاقات التي تمر بها جماعة الإخوان المسلمين في عدد من الدول بعد فترة من الصعود القصير، لا تعني نهايتها، لأن الإسلاميين عموماً، والإخوان خصوصاً، هم أولاً وقبل كل شيء حركة اجتماعية، إذ تبنت التغيير الاجتماعي أساساً للتغيير السياسي وشرطاً له، وأن قوتهم قد تجذرت اجتماعياً قبل أن تتجذر سياسياً، مما يجعل نهاية تيار الإسلام السياسي أمراً مستحيلاً".
تلك السردية أيدها فيها، الباحث مارك لينش، في دراسته التحليلية لقسم العلوم السياسية بجامعة "جورج واشنطن" الأميركية، تحت عنوان "مستقبل الإسلاميين في ضوء تجارب الماضي القريب"، قائلاً إنه "على رغم ما تمر به حركات الإسلام السياسي اليوم من أصعب الظروف منذ عقود، فإنها ليست المرة الأولى التي يواجهون فيها مثل هذه الظروف الكارثية، ومع ذلك أثبتت المنظمات الإسلامية تاريخياً أنها مرنة وقادرة على العودة إلى الحياة العامة".
لينش أوضح في الدراسة المنشورة قبل نحو عامين في قسم الأديان بموقع مؤسسة "أم بي دي أي" السويسرية، أن "على المدى القريب يبدو من المرجح أن الحركات الإسلامية ستستمر في الانحسار في التأثير الثقافي والسياسي والمجتمعي، ومع ذلك فإن انسحابها من المجال العام قد يؤدي إلى استنتاجات مضللة حول جدواها السياسية على المدى الطويل، لا سيما أمام بقاء معظم مجتمعات الشرق الأوسط محافظة ثقافياً، مع احتفاظ الرموز الدينية بقوة وصدى كبيرين"، مضيفاً "تجعل الظروف السياسية والاقتصادية في جميع أنحاء المنطقة تكرار أشكال مختلفة من التعبئة السياسية وعدم الاستقرار أمراً لا مفر منه تقريباً. هذه حقبة شعبوية، والحركات الإسلامية هي تقليدياً في وضع جيد لمثل هذه السياقات السياسية".
ويستند لينش في طرحه إلى تجارب الحركات الإسلامية في أوقات سابقة خلال القرن الماضي بين "الانحسار والعودة"، في إشارة إلى مرحلة الصدام بين الإخوان المسلمين ونظام حكم الرئيس جمال عبدالناصر في مصر خمسينيات القرن الماضي، قبل أن يعودوا مرة أخرى في عهد الرئيس أنور السادات، وهو الأمر ذاته الذي حدث مع حركة النهضة التونسية عندما "دمرت إلى حد بعيد" في عهد الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي خلال تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن الـ21.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإجمالاً وعلى وقع تراجع تأثير تيارات الإسلام السياسي بتنوعاتها المختلفة، يتجادل الباحثون في مآلات محتملة لمستقبل تلك الظاهرة، يأتي أبرزها احتمال انزلاقها نحو مزيد من التمزق والانقسام التنظيمي ينتج منه تراجع الوزن السياسي للحركات مع بقاء النشاط المجتمعي والدعوي في الظل، فضلاً عن خروج تيارات أكثر تشدداً ترتكن إلى العمل السري بصورة كلية، فيما يتمثل الاحتمال الثاني في التحول نحو الانكفاء والتطرف العنيف نتيجة الإقصاء المستمر، إذ يرجح البعض احتمال اتجاه بعض الشرائح الشبابية نحو العنف، أو الانضمام إلى "جماعات جهادية بديلة".
في المقابل يتجادل آخرون، في شأن احتمالية تحول بعض حركات الإسلام السياسي لا سيما جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها، نحو ما يعرف بـ"ما بعد الإسلام السياسي"، أي إعادة إنتاج الحركة نفسها ومراجعة بعض أفكارها وأطروحاتها المتشددة، على غرار ما يعرف اصطلاحاً بـ"مراجعات الجماعة الإسلامية" في مصر خلال فترة تسعينيات القرن الماضي، بعدما كانت تراهن على الوصول إلى السلطة من خلال ممارسة العنف. كذلك يرجح البعض وإن كان مستبعداً جراء الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، احتمال بقاء تلك الحركات لا سيما الأقل عنفاً والأكثر قابلية للإصلاح في المشهد وإن بـ"صورة متوارية" عبر "تسوية" مع السلطات الحاكمة، إلا أن مثل هذا السيناريو يعتمد على تقبل الحركات الإسلامية "الحضور المشروط والمحدود ضمن سياقات يعاد فيها تعريف العلاقة بين الدين والسياسة".