ملخص
شهدت الأعمال الفلسطينية المعروضة بمهرجان الجونة ترحيباً واستقبالاً وتأثيراً، جعلت كل فيلم أشبه بشهادة حيّة عن القضية وأبطالها، ومن أبرز الأسماء هند رجب وفاطمة حسونة صاحبتا أشهر القصص الإنسانية خلال الحرب على غزة
رغم التطورات السياسية التي تلوح بانتهاء المعاناة في غزة فإن الأفلام الفلسطينية التي تحمل قضايا موجعة لا تزال تتصدر المشهد في المحافل العالمية. وفي مهرجان الجونة سيطر الوجع الفلسطيني على أفلام مهمة في الدورة الثامنة، التي بدت أكثر التزاماً من الدورات السابقة في الاهتمام بأعمال شديدة الحساسية وموجهة بشكل كامل نحو القضايا المزمنة للناس عبر البلاد المختلفة.
وبوجه خاص، شهدت الأعمال الفلسطينية المعروضة بالمهرجان ترحيباً واستقبالاً وتأثيراً، لدرجة جعلت كل فيلم أشبه بشهادة حيّة عن القضية وأبطالها، ومن أبرز الأسماء هند رجب وفاطمة حسونة صاحبتا أشهر القصص الإنسانية خلال الحرب على غزة.
صراع من أجل البقاء
لا تزال الفلسطينية هند رجب تتصدر حديث السينما والمجتمع، بعدما قُدمت قصة هند مرة أخرى بعد الفيلم الشهير الذي قدمته المخرجة التونسية كوثر بن هنية "صوت هند رجب"، الذي أثار تعاطف العالم عقب عرضه في بعض المهرجانات العالمية، تحديداً مهرجان فينيسيا الأخير.
وعرض بمهرجان الجونة فيلم "أغمضي عينيك يا هند" للمخرج أمير ظاظا، المقتبس أيضاً من القصة المأسوية لهند رجب، صاحبة النداء الذي هزّ العالم حين استغاثت عبر اللاسلكي، وهي محاصرة داخل سيارة عائلتها التي دمرتها دبابة إسرائيلية.
الفيلم يعيد سرد الواقعة من زاوية إنسانية أكثر تركيزاً على صراع الطفلة من أجل البقاء، وهي وحيدة بين الركام. وركز المخرج على لقطات صامتة وطويلة يتأرجح فيها الأمل واليأس، ومزج بين التوثيق والدراما حتى تحول العمل إلى ما يشبه مرثية بصرية لضحايا الطفولة في الحروب.
نجح الفيلم في الموازنة بين القسوة والبراءة، وأظهر عجز العالم وصمته فتحول إلى صرخة ضد الصمت الدولي، وانضم إلى فيلم بن هنية الذي دان العجز العالمي والخذلان الذي قابلته الطفولة وكل القضايا الإنسانية أخيراً.
وتصدّرت المصورة فاطمة حسونة حديث مهرجان الجونة بعد عرض فيلم "ضع روحك في يدك وامش"، إذ كان من الأفلام التي أحدثت جدلاً كبيراً في المهرجان، وتركت أثراً نفسياً عميقاً، والعمل من إخراج سبيدة فارسي. وهو وثائقي مبني بالكامل على مكالمات فيديو بينها وبين المصوّرة الفلسطينية فاطمة حسونة، التي كانت توثّق الحياة اليومية في غزة قبل أن تُقتل في غارة جوية بعد يومٍ من إعلان اختيار الفيلم في مهرجان كان.
اعتمدت مخرجة الفيلم على الطريقة السينمائية لنقل المعاناة، فحوّلت الصورة والصوت إلى مساعدين لها في إحداث الأثر، وإبراز صعوبة الحدث، وظهرت بالعمل صورة مشوشة وصوت متقطع واهتزاز في بعض المشاهد، ليكون ملائماً لما يحدث بغزة وشعبها، وليعبر بلغة سردية فنية.
ونجحت المخرجة في وضع المشاهد في قلب الحدث بطريقة غير مباشرة، فكان الانفعال بالحقيقة إجبارياً، فحين تنقطع المكالمة فجأة، يشعر المشاهد كما لو أن الحياة نفسها انقطعت، وعلى رغم أن بعض المشاهد يعيبها الضعف البصري واهتزاز الصورة وعدم الوضوح بسبب طبيعة اللقطات الهاتفية، فإن ذلك أضفى مصداقية وقوة جمالية للدرجة التي جعلت وجود صورة جيدة قد يخل بالمعنى والوجع ومدى العمق والصدق.
7 أفلام وثائقية
أما برنامج "نافذة على فلسطين"، الذي يشارك للعام الثالث على التوالي، ضمن فعاليات الدورة الثامنة للمهرجان، فقدم عديداً من الأعمال المهمة، وهي سبعة أفلام وثائقية عن حياة الناس في غزة، في ظل ما يتعرضون له من انتهاكات مستمرة.
وأُطلق برنامج "نافذة على فلسطين" للمرة الأولى عام 2023، وأصبح منذ ذلك الحين ركيزة أساسية في مهرجان الجونة السينمائي، إذ يوفر منصة لإبراز الأصوات الفلسطينية. أُنتجت الأفلام السبعة من خلال المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي أسس "صندوق مشهراوي للأفلام وصناع السينما في غزة" بالتعاون مع شركات إنتاج أخرى.
ومن الأفلام الفلسطينية المهمة التي عرضت في الجونة فيلم "حسن" للمخرج محمد الشريف. ومدته 30 دقيقة، لكنه يلخص مأساة كبرى أبرز عناوينها الفقر والجوع والتهجير داخل الوطن. تتناول القصة شخصية حسن، وهو شاب فلسطيني يبلغ من العمر 17 سنة تقريباً، يعيش في شمال غزة المحاصَرة، ويحاول جلب كيس طحين لعائلته التي تعاني الجوع، وعند محاولته البحث عن طعام يجري توقيفه أربعة أيام، ثم يُرغم على رحلة تهجير تستمر 15 شهراً من شمال غزة إلى جنوبها، وفي أثنائها يفقد أخاه الصغير، ويموت والده، وتنقسم العائلة.
ابتعد المخرج عن السياسة المباشرة أو سرد قصة بطل معروف، واختار تقديم حكاية صبي عادي يطلب شيئاً غير ثمين وطبيعي في حياة أي شخص وهو كيس طحين لا أكثر، وهنا يتحول الطحين لرمز يصعب تحقيقه على رغم بساطته، والظلم الذي يواجهه الجميع في وطنه، والتهجير الداخلي وقسوته وتحوله إلى منفى داخل الوطن.
وأحدث الفيلم تفاعلاً كبيراً، إذ تناول القضية الفلسطينية وتفاصيلها من دون شعارات، لكن بأسلوب سينمائي درامي ملحمي أثار التعاطف مع أزمة الحرب والمجاعة والمعاناة الإنسانية بكل أشكالها والمطالب البشرية البسيطة التي أصبحت أحلاماً لا تتحقق.
وتميزت المشاهد بأن التصوير جرى داخل غزة، إذ ظهرت الخيام والملاجئ بشكل يثير الحزن ويعكس قسوة المشهد. ونجح المخرج في إحداث توازن لافت بين التوثيق والدراما، فقصة الفيلم تبدو وثائقية، لكن كستها الدراما بشكل واضح لتغير ملامح واتجاهات وإحساس المتلقي بالعمل، بخاصة في مشاهد فقدان الأخ، وموت الأب، والبحث عن الطعام، والتوق للعودة، وهي عناصر كانت جديرة أن تحوّل الفيلم إلى أكثر من مجرد وثيقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
احتجاج بالرسم والغناء
وقدمت المخرجة ريما محمود فيلماً مميزاً من فلسطين بعنوان "ألوان تحت الشمس"، وتدور قصته حول فنانة شابة من غزة فقدت أفراداً من عائلتها، وتنتقل مع أمها إلى خيمة في رفح، وعلى رغم ما تعانيه تحاول مواصلة عملها الفني والغنائي وسط الدمار، ليمثل العمل نقطة التقاء بين الفن والحرب، ومنحت المخرجة بطلة الحكاية بعداً داخلياً يمثل المرأة والفنانة وصراعاتها وأحاسيسها بسبب محنة الحرب.
وحول فتاتين في غزة تحافظان على أحلامهما (الرسم والغناء) كفعل احتجاجي ضد الحرب تدور أحداث فيلم أحلام فرح وزهرة، ويؤكد الفيلم ضرورة الاستمرار في الحلم والفن والأمل نوعاً من المقاومة، وهو من إخراج مصطفى النبيه.
وعبر المخرج أوس البنا عن موضوع مقاومة الحرب بالفن من خلال الفيلم الفلسطيني "الأمنية"، الذي يدور حول مخرج مسرحي في غزة يحوّل ذكريات وآلام المشاركين إلى عرض مسرحي جماعي، يستخدم المسرح وسيلة علاج ومقاومة سلمية، واختلف العمل لاستخدامه المسرح كأداة اجتماعية وعلاجية للمشاركين به ولمشاهديه.
وقدم المخرج نضال ديمو مجموعة من القصص الإنسانية في غزة، ومعاناتها مع الحرب، حيث لا تكتمل أي قصة بسبب الأحداث المريرة. وجاء فيلم "قصص غير منتهية" بطريقة سرد درامية موجعة ليكون إسقاطاً على الحكايات والأحلام والمستقبل الذي يعاني ويلات الحرب، وعن الأحلام التي لا تكتمل ويتركها صاحبها في منتصف الطريق.
وتناول فيلم "غزة إلى الأوسكار" للمخرج علاء ديمو مخاطرة صُنّاع السينما في غزة بحياتهم للحفاظ على قصص شعبهم، محولين الواقع القاسي إلى سينما قادرة على بلوغ الأوسكار.
وأخيراً، تحدث فيلم "أحلام صغيرة جداً" عن نساء في مخيمات لاجئين بغزة يكافحن للحفاظ على كرامتهن وصحتهن، خصوصاً خلال حمل وولادة وسط انعدام المستلزمات الأساسية، والاهتمام بالزمن اليومي، ومخاطرة السرد هنا هي الانزلاق إلى التوثيق الخالص بدل معالجة سينمائية تترك أثراً فنياً دائماً.