Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حدائق مونيه تتجلى في رواية "نيلوفر الأسود"

"جيفرني" مدينة الرسام الانطباعي كما رآها الرواي الفرنسي ميشيل بوسي

حدائق منزل كلود مونيه (متحف مونيه)

ملخص

منذ اللحظات الأولى، بدت جيفرني أشبه ببلدة بسيطة هادئة يقصدها الزوار من مختلف أنحاء العالم، لرؤية بيت كلود مونيه مؤسس الرسم الانطباعي الفرنسي، الذي لا يحتفى به فقط لمساهماته في عالم الفن بل أيضاً لحدائقه الساحرة التي صممها وعني بها بنفسه، لذا تبدو امتداداً لفنه، وقدمت له الإلهام لبعض من أشهر أعماله، وليست مجرد عرض نباتي.

كان الدافع المحرض لزيارتي بيت مونيه وحدائقه، قراءة رواية "نيلوفر الأسود"، للكاتب الفرنسي ميشيل بوسي (المركز الثقافي العربي)، التي تدور أحداثها في جيفرني، وتتناول قصة جريمة قتل غامضة يتداخل فيها الواقعي بالمتخيل، لكن الأهم أنها تدور في صلبها عن لوحات مونيه المفقودة من سلسلة "زنابق الماء"، هذه السلسلة التي تتألف من نحو 250 لوحة ركز فيها مونيه على رسم بركة الزنابق في حديقته، وتعد السلسلة واحدة من أعظم إسهاماته في الفن الحديث.

زنابق الماء

انتقل مونيه إلى جيفرني خلال عام 1883، وعلى مر الأعوام، تمكن من تحويل هذه الأرض الممتدة إلى تحفة نباتية. تنقسم الأراضي إلى جزأين رئيسين: كلو نورماند وحديقة الماء. يعكس كل قسم من الحديقة حس مونيه العميق بالألوان وانتباهه الشديد للتفاصيل- إنها الصفات التي تميز لوحاته أيضاً.

وأمام منزل مونيه، تتفتح حديقة كلو نورماند بألوان تراوح من الربيع إلى الخريف. ويتضح للرائي بسهولة أن مونيه لم يلتزم بقواعد البستنة المألوفة بل خلط الزهور البسيطة، مثل الأقحوان والخشخاش مع الأنواع النادرة، مما أنشأ قماشاً حياً مليئاً بملمس وألوان متنوعة. تقود ممرات الحديقة، المحاطة بالنرجس والورد، الزوار عبر فسيفساء طبيعية حية تعبق بمزيج من الروائح العطرية المذهلة.

ربما تكون حديقة الماء الأكثر شهرة في حدائق مونيه، تشتهر بجسرها الياباني وزنابق الماء، التي ألهمت سلسلة اللوحات المعروفة باسم "زنابق الماء" أو "نمفياس". تأثر مونيه بصورة كبيرة بفن الحدائق اليابانية، وهو ما يظهر في تصميم هذا الملاذ الهادئ، مع بركة واسعة محاطة بأشجار الصفصاف المتدلية وأشجار الخيزران.

حدود الرؤية

في رواية "نيلوفر الأسود"، يستعير ميشيل بوسي حديقة الماء في جيفرني، بوصفها فضاءً سردياً يتجاوز وظيفته الجغرافية، ليغدو استعارة للفن نفسه، ولعلاقة الإنسان بما يخفيه الجمال من توتر وغموض. فكما كان مونيه يسعى، عبر سلسلة "زنابق الماء"، إلى القبض على اللحظة العابرة للضوء، وهي تتبدد فوق سطح الماء، يحاول بوسي القبض على الحقيقة وهي تتشظى داخل الذاكرة والزمن. تتخذ الحديقة في الرواية بعداً شبه أسطوري، إذ تتحول البركة المائية إلى مرآة مزدوجة تعكس جمال الطبيعة في النهار، وتخفي في أعماقها سراً يخص الظلال والغياب. إنها من منظور بوسي، ليست مجرد خلفية لجريمة بل فضاء يتقاطع فيه الفن بالحياة واللون بالحكاية، في استعادة معاصرة لأسئلة الانطباعيين عن حدود الرؤية وما يتجاوزها.

الضوء واللون

كان نهج مونيه في البستنة مشابهاً لنهجه في الرسمر- كلاهما مدفوع بملاحظاته للضوء واللون والشكل. قال مونيه مرة: "ربما دين بأنني أصبحت رساماً للزهور"، مما يلفت النظر إلى الدور الأساس الذي لعبته البستنة في حياته الفنية، إذ سمحت له حدائق جيفرني بالتجريب المباشر لتأثيرات الضوء على اللون، وهي مهمة استحوذت عليه طوال مسيرته.

في رواية "نيلوفر الأسود"، التي ينسج الكاتب أحداثها من وحي بيت مونيه وحدائقه، يختار مقدمة تبدو كأنها من حكاية خرافية، عن ثلاث نساء مختلفات تماماً عن بعضهن، الأولى كان عمرها أكثر من 80 سنة وكانت أرملة. الثانية كان عمرها 36 سنة تعمل مدرسة للأطفال، والثالثة كانت على وشك أن تبلغ الـ11. ثلاث نساء لديهن سر مشترك، جميعهن يردن مغادرة جيفرني.

 ينتقل السرد إلى مقتل الدكتور مورفال، وهو طبيب عيون ناجح، شغوف بالنساء واللوحات. وجدت بطاقة بريدية قديمة في جيبه تشير إلى أن طفلاً سيحتفل قريباً بعيد ميلاده الـ11 سيقتل أيضاً. كل هذا يُراقب بصورة غير ملحوظة من قبل امرأة عجوز تعيش وحيدة في طاحونة مائية قرب جيفرني. الخط الثالث في الرواية تمثله فانيت، وهي فتاة صغيرة تأمل في أن تصبح رسامة يوماً ما، وفي هذا الخط أيضاً يتقاطع وجودها مع مونيه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذه الرواية، يقدم الكاتب جيفرني خلال النهار، إنها مكان يتوافد إليه السياح، من أجل رؤية منزل الفنان الشهير كلود مونيه، والحدائق التي رسم فيها لوحات "زنابق الماء". لكن في الليل عندما يعود الهدوء، يظهر وجه آخر، جانب مظلم من البلدة الفرنسية الهادئة، تخفي أسراراً معقدة.

على رغم الحوارات الطويلة وأسلوب السرد البوليسي والتشويقي الذي اعتمده بوسي، لا تستعاد حدائق مونيه كخلفية لجريمة فحسب، بل ككائن حي نابض بالجمال والالتباس. ويتعامل ميشيل بوسي مع المكان كما لو أنه شخصية مستقلة، تخفي أسرارها تحت انعكاس الماء، وتبدل وجهها مع تبدل الضوء. في كل بركة وظل زهرة، هناك أثر للغز جمالي، يشبه الطريقة التي رسم بها مونيه زنابقه، لا لترى فحسب، بل لتحس، ويعيش من خلالها الرائي لحظات تأمل صافية في طبقات الوجود والألوان التي أراد مونيه التوحد معها. الرواية تفتح أمام القارئ طبقات متداخلة من الواقع والخيال، تماماً كما تفعل لوحات مونيه التي لا تظهر الأشياء، بل تذيبها في الضوء. لذا تصبح حدائق جيفرني، في الرواية كما في الحياة، مسرحاً للتأمل في فكرة الزوال والجمال، وفي العلاقة الغامضة بين الفن والحقيقة.

تفتح حدائق مونيه في جيفرني أبوابها للجمهور من مارس (آذار) إلى نوفمبر (تشرين الثاني)، مما يتيح للزوار الدخول مباشرة إلى المشاهد التي تضم بعضاً من أكثر لوحات مونيه تقديراً. خضع المنزل والحدائق لترميمات واسعة، بعدما تركا في حال إهمال لعقود، عقب وفاة مونيه عام 1926. لكنها استعادت رونقها الأصلي خلال السبعينيات، وتُصان الآن صيانتها من قبل مؤسسة كلود مونيه.

وإلى جانب الحديقة، يقف بيت مونيه في جيفرني شاهداً آخر على عالمه الداخلي. البيت الذي عاش فيه 30 عاماً لا يزال محتفظاً بروحه، مفتوحاً أمام الزوار الذين يتنقلون بين غرفه كأنهم يعبرون لوحاته. في الداخل، يمكن مشاهدة المطبخ الذي حافظ على ألوانه الزرقاء المضيئة، وغرفة الطعام المزدانة باللون الأصفر اللامع، إلى جانب الجدران المعلقة عليها مطبوعات يابانية كان مونيه يعشقها. كل زاوية في هذا البيت تكشف عن حس جمالي دقيق، وعن علاقة الفنان الحميمية بتفاصيل الحياة اليومية، فالبيت، مثل الحديقة، امتداد لفرشاته، ومختبر صغير لتجارب الضوء واللون التي ميزت أعماله.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة