ملخص
في البداية، تبدو القصة كأنها مقدمة لفيلم إثارة تقليدي: صحافية تعود إلى العمل بعد مأساة شخصية، رحلة بحرية فاخرة، مجموعة من الضيوف الغامضين، ثم جريمة غير قابلة للإثبات. لكن هذا البناء الكلاسيكي، الذي يمكن أن يكون أرضاً خصبة لدراما نفسية محكمة، يتحول سريعاً إلى فيلم يقدم كثيراً من الوعود… ولا يحققها.
في الأعوام الأخيرة، باتت منصات البث العالمية وفي مقدمها "نتفليكس"، ساحة خصبة لنوع من أفلام الإثارة يمكن وصفه بـ"إثارة المرأة المضللة" (Gaslit Woman Thriller).
في هذه الأعمال، ثمة بطلة ذكية، لكنها هشة قليلاً، تحمل جرحاً شخصياً أو تجربة قاسية، وتشهد على جريمة أو حدث غامض لا تملك الأدلة الكافية لإثباته. في المقابل، يختار العالم من حولها، السلطة، المحيطون بها، وحتى أقرب الناس، التشكيك في روايتها، فتترك وحيدة في مواجهة الخطر.
هذا النوع من الأفلام حقق رواجاً كبيراً خلال العقد الأخير، من "The Girl on the Train" إلى "The Woman in the Window"، وصولاً إلى أحدث الإضافات The Woman in Cabin 10، وهو فيلم يحاول السير على الخط الرفيع بين الإثارة النفسية الراقية من جهة، والتشويق الشعبي من جهة أخرى. لكنه، وعلى رغم الوعود التي يطلقها في بدايته، ينتهي إلى فيلم أنيق شكلاً، باهت مضموناً.
الفيلم مقتبس من رواية البريطانية روث وير الأكثر مبيعاً والصادرة عام 2016، ومن إخراج سايمون ستون، وتلعب دور البطولة فيه كيرا نايتلي في واحد من أكثر أدوارها إثارة وتوتراً.
في البداية، تبدو القصة كأنها مقدمة لفيلم إثارة تقليدي: صحافية تعود إلى العمل بعد مأساة شخصية، رحلة بحرية فاخرة، مجموعة من الضيوف الغامضين، ثم جريمة غير قابلة للإثبات.
لكن هذا البناء الكلاسيكي، الذي يمكن أن يكون أرضاً خصبة لدراما نفسية محكمة، يتحول سريعاً إلى فيلم يقدم كثيراً من الوعود… ولا يحققها.
لورا "لو" بلاكلوك (كيرا نايتلي) صحافية استقصائية مرموقة، تحاول التعافي من صدمة مقتل مصدر صحافي شاب. الصدمة تلاحقها في كل شيء: نومها المتقطع، ردود فعلها المذعورة، وإدمانها على الكحول للهرب من الذكريات. طلبت من محررتها أن تبعدها عن الملفات الثقيلة، فكلفت بكتابة تقرير خفيف عن الرحلة الافتتاحية لليخت الفاخر "أورورا بورياليس" المملوك للبليونير ريتشارد بولمر (غاي بيرس) وزوجته آن (ليزا لوفن كونغسلي) التي تعاني مرضاً عضالاً.
كانت الرحلة تبدو أشبه باستراحة من الضجيج، غير أن ما ينتظر لو في عرض البحر مختلف تماماً. في أولى ليالي الرحلة، تستيقظ على أصوات مكتومة من المقصورة المجاورة.
تسمع ارتطاماً وعراكاً وصوت شيء يسقط في البحر. حين تخرج مسرعة إلى الشرفة، تلمح جسداً يغرق في المياه السوداء. لكن حين تبلغ الطاقم، يخبرونها أن المقصورة المجاورة خالية، وأن جميع الركاب على متن اليخت آمنون. هنا يبدأ الشرخ بين ما تراه وما يصدقه الآخرون… بين الإدراك والحقيقة.
يذكر المشهد الأول بأعمال هيتشكوك الكلاسيكية مثل Rear Window وVertigo، لكنه يفتقر إلى التوتر البصري الذي ميزها. الكاميرا هادئة أكثر من اللازم، الصورة أنيقة لكنها ساكنة، وكأن المخرج اختار التركيز على المظهر بدل تصعيد التوتر النفسي.
بلا حبكة مشدودة
يبني الفيلم عوالمه داخل اليخت عبر مجموعة شخصيات غامضة ومتنوعة: نجم روك (بول كاي)، تاجرة فنون متعبة وزوجها المتغطرس (هانا وادينغهام وديفيد موريسي)، مؤثرة في الإنترنت (كايا سكوديلاريو)، بليونير تكنولوجيا (كريستوفر ريغ)، وشاب لعوب (دانيال إنغز). إلى جانبهم صديق لو السابق، بن (ديفيد أغالا)، الذي يعمل مصور الرحلة، وريتشارد بولمر الذي يجسده غاي بيرس بطبقة باردة من السحر والخطر.
يذكر هذا الطاقم بتشكيلات أغاثا كريستي، حيث لكل شخصية ماض غامض ودافع محتمل. لكن الفيلم لا يمنحهم ما يكفي من العمق أو التطور. معظم الشخصيات تبقى في الخلفية، دوافعها تظهر وتختفي من دون بناء درامي متماسك، كما لو أن جزءاً كبيراً من خطوطها تم اختصاره في المونتاج.
حتى الغموض المرتبط بـ"المرأة المجهولة" التي رآها لو قبل الجريمة، يظهر متأخراً وضعيف التأثير، لأن الجمهور يكون قد أدرك معظم التفاصيل مسبقاً.
المخرج
ينتمي سايمون ستون إلى ذلك الجيل من المخرجين الأوروبيين الذين يفضلون الهدوء المشحون على الإثارة الصاخبة. جاء من المسرح إلى السينما، واشتهر بأعماله التي تشتغل على الداخل النفسي للشخصيات أكثر مما تشتغل على الحبكة الخارجية. في فيلمه السابق The Dig (2021)، قدم مأساة شخصية هادئة تدور في فضاء تاريخي، وجعل من الصمت والتفاصيل الصغيرة لغة سردية كاملة.
هذا الميل إلى الهدوء يظهر بوضوح في العمل الجديد. الكاميرا أنيقة لا تقتحم، إيقاع منضبط لا يتصاعد، ومشهدية راقية لا تغامر. المشكلة أن هذه المقاربة التي تناسب دراما التأمل، لا تنجح بالضرورة في أفلام التشويق التي تحتاج إلى نبض متسارع، وإحساس خانق بالخطر. ستون يقدم فيلماً منمقاً، لكنه لا يضخ فيه الطاقة التي تجعل الإثارة ملموسة.
إنه مخرج يعرف كيف يصنع الجو… لكنه لا يعرف تماماً كيف يشد الأعصاب.
فخ الأناقة البصرية
يعتمد الفيلم على جماليات الإخراج كوسيلة للتعويض عن ضعف الحبكة. تصميم السفينة مدهش: ممرات زجاجية، أسطح لامعة، سلالم حلزونية، وإحساس دائم بأن هناك من يراقب من خلف الزجاج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الموسيقى التصويرية التي وضعها بنجامين وولفيش تضيف طبقة من التشويق الراقي، لكنها، مثل الصورة، تظل عالقة في المستوى الشكلي.
تصوير بن ديفيس يغرق في ألوان باهتة: رمادي مائل إلى الأزرق، إضاءة خافتة، ومشاهد تفتقر إلى الطاقة. بدلاً من تعزيز الإحساس بالخطر، تبدو اللقطات وكأنها تكبحه. لا شعور بالاختناق أو العزلة. التوتر لا يصبح ملموساً.
في الفصل الأخير، ينكشف اللغز: المرأة في المقصورة 10 ليست شبحاً أو وهماً، بل "كاري"، امرأة استأجرها ريتشارد لتنتحل شخصية زوجته آن، التي كانت تنوي التبرع بثروتها للأعمال الخيرية.
حين كشفت المؤامرة قتلها وألقى بجثتها في البحر. هذا الالتفاف السردي جريء على الورق، لكنه على الشاشة يبدو قسرياً وغير متناغم مع النبرة الهادئة التي سار عليها الفيلم في بدايته.
ذروة المواجهة في الحفل بالنرويج، اختطاف، مطاردات، وضربة على الرأس، تبدو أقرب إلى ختام مسلسل بوليسي عادي من كونها نهاية لفيلم إثارة راق. التوتر يتبخر، والحبكة تطوى بسرعة.
فكرة لم تكتمل
في خلفية الفيلم، رغبة واضحة في طرح فكرة تتعلق بالنساء اللاتي لا يصدقن عندما يروين الحقيقة. هذه الفكرة مركزية في رواية روث وير الأصلية، لكن معالجة سايمون ستون لها جاءت باهتة وسطحية.
صدقية البطلة تسحق ثم تستعاد فجأة في مشهد واحد أقرب إلى الكاريكاتير. الرسالة التي كان يمكن أن تكون صرخة ضد البنية الاجتماعية التي تشكك في صوت المرأة، اختزلت إلى صراع شخصي بسيط.
أداء كيرا نايتلي
السبب الحقيقي في بقاء الفيلم مثيراً للاهتمام هو أداء كيرا نايتلي، التي تنجح في تجسيد البطلة الممزقة بين الخوف والإصرار. بعينيها القلقتين وحركاتها المضطربة، تنقل إحساساً عميقاً بانهيار الثقة بالنفس. هي التي تضيف إلى الفيلم توتراً نفسياً لم يصنعه الإخراج.
غاي بيرس بدوره يقدم أداء متقناً في شخصية الرجل الجذاب والخطر في آن، بينما يعاني بقية الطاقم من أدوار سطحية لم تمنح ما تستحقه من مساحة.
رغم أن الفرضية، امرأة محاصرة على يخت مع قاتل، تحاول إثبات ما رأته، تحمل كل مقومات فيلم إثارة، فإن العمل لا ينقل هذا الإحساس. المخرج يحافظ على مسافة من البطلة، فلا تنغلق المساحات ولا يشتد الإحساس بالحصار. اليخت يظل مكاناً جميلاً، لا مصيدة نفسية.
يملك The Woman in Cabin 10 كل العناصر اللازمة لفيلم إثارة مشوق: فرضية قوية، طاقم لامع، إنتاج بصري أنيق، وبطلة موهوبة. لكنه يفتقر إلى الجرأة الفنية التي تحول هذه العناصر إلى تجربة مشحونة بالتوتر. يظل الفيلم في منتصف الطريق بين الإثارة الراقية والتشويق الشعبي… فلا يحقق أياً منهما بالكامل.