ملخص
كتاب "الضحك: محاولة في دلالة الهزلي" للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، يرتبط بالولادة الحقيقية للتحليل النفسي، على يد فرويد وصحبه، وهو السياق نفسه الذي جعل فرويد يكتب "تفسير الأحلام"
لم يحب الفكر "التقدمي" في القرن الـ20، الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون على الإطلاق. فبرغسون في نظر هذا الفكر، مثالي جعل "الديمومة الخالصة، أي اللامادية، أصل الأشياء وأساسها"، مؤكداً أنه لا يمكن "إحراز المعرفة بالديمومة، إلا بالحدس مفهوماً على أنه إدراك صوفي أو معرفة صوفية"، فيها "يتطابق فعل المعرفة مع الفعل الذي يخلق الواقع".
ويأخذ هذا الفكر "التقدمي" على برغسون خصوصاً كونه وضع مقابل "الجدل" الذي، لو اتبعه لكان أوجد مبرراً هيغلياً لمثاليته، مذهباً كاملاً في "التطور الخلاق" عبر عنه في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه. فهذا التطور يقوم لدى برغسون على مفاهيم مستمدة من المثالية البيولوجية، ما أوصل هذا المفكر إلى أن يبرر في فكره "قهر طبقة لطبقة في المجتمع، باعتبار ذلك حالة طبيعية" معتبراً الحرب نفسها "قانوناً للطبيعة" محتماً.
وهكذا، انطلاقاً من هذا التفسير لفكر برغسون، عد الرجل رجعياً وعُدت فلسفته "تعبيراً حياً عن اللاعقلانية" (كما تقرر "الموسوعة الفلسفية السوفياتية"). وعلى رغم هذا فإن الفكر التقدمي، ناهيك بالفكر غير التقدمي المتسامح عادة مع برغسون، لا يستنكف عن قراءة واحد من كتب برغسون ويناصره، باعتباره فريداً من نوعه في عالم الكتابة الفلسفية.
وهذا الكتاب هو "الضحك: محاولة في دلالة الهزلي"، الذي يعد أشهر كتب برغسون على الإطلاق، ويقرأه عادة حتى أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن فلسفة هذا المفكر، أو حتى يمكن ليس من شيمهم أن يدركوا أن "الضحك" ينتمي أصلاً إلى الكتب الفلسفية.
من الحدس إلى التحليل
وضع هنري برغسون كتاب "الضحك" ونشره في عام 1911، أي حين كان في الـ52 من عمره، وبدأ يشغل كرسي الفلسفة في "الكوليج دي فرانس" والعام نفسه الذي كتب فيه واحداً من نصوصه الأكثر أهمية، "الحدس الفلسفي" الذي قرأ ملخصاً له في مؤتمر للفلسفة عقد في مدينة بولونيا الإيطالية، وأثار جدلاً كبيراً.
والحال أن الباحثين عدوا، غالباً أن كتابي "الضحك" و"الحدس" مترابطان، بل إن ثانيهما هو المقدمة النظرية والفلسفية المنطقية للأول. ولا بد من أن نشير هنا إلى أن القراء عموماً، من الذين عرفوا "الضحك"، لم يبالوا أبداً بذلك "التقديم الفلسفي" له، فنظر معظمهم إلى "الضحك" على أنه كتاب مستقل، كانت أهميته في كونه كتب أخيراً، ليحلل ظاهرة، ونشاطاً إنسانياً، عمرها من عمر الإنسان، ترافقه في حياته اليومية، وفي حياته الذهنية، وكثيراً ما عبرت عنها الآداب والفنون، من دون أن ينحو الفكر إلى تحليلها وتحليل أوالياتها.
وهنا لا بد من أن نشير إلى أن كتابة "الضحك" ترتبط، في زمنها، بالولادة الحقيقية للتحليل النفسي، على يد فرويد وصحبه، وهو السياق نفسه الذي جعل فرويد يكتب "تفسير الأحلام". حيث كان الشعار: آن للإنسان أخيراً أن يفهم كل ظواهر حياته، الخفية والواضحة وألا يترك ظاهرة منها للغيب. ومع هذا فلا بد من أن نلاحظ منذ الآن كيف أن كتاب برغسون "العقلاني" هذا، نسب دائماً إلى الفلسفة الميتافيزيقية، وعد من أعمالها الأساسية. وتلك "مفارقة" من الصعب زعم إمكان حلها. المهم في الأمر هو التوقف عند هذا العمل الطريف والفريد، وعند كاتبه.
من العيوب إلى الفضائل
بالنسبة إلى الباحثين في حياة برغسون وعمله ينحو هذا الكتاب ومنذ البداية إلى أن يقول لنا إن "الضحك الذي يستثيره على الدوام، أمر إنساني ما، له بالتأكيد وظيفة اجتماعية"، فبرغسون يقول لنا هنا إن "المرء لا يضحك في حقيقة الأمر إلا بالتواطؤ مع الآخر"، و"الضحك إنما هو رد فعل ضد كل ما يبدو لنا، في الحياة، ميكانيكياً آلياً: يحدث الضحك لدينا في كل مرة نلاحظ فيها في كلام أو تصرفات شخص ما، إفراطاً في النزعة الميكانيكية".
ونحن، في رأي برغسون، نضحك إزاء العيوب كما إزاء الفضائل، في كل مرة تبدو لنا هذه أو تلك، لدى الذين يمتلكونها، باعتبارها أوالية (ميكانيزم) تحكمهم".
ومن هنا يستنتج برغسون أن "الضحك نوع من السلوك الاجتماعي. بواسطته ينبه المجتمع مشيراً إلى الحس السليم، كل أولئك الذين ينحرفون عن النشاط الاجتماعي المستقيم والحقيقي... كل أولئك المنحرفين أو الذين يريدون أن يظهروا غريبي الأطوار، أي كل تلك العناصر التي تسعى، بوعي أو من دون وعي، إلى تفتيت التماسك الاجتماعي ونسيجه".
وللوصول إلى عقلنة نظريته يلجأ برغسون، كما يقول دارسوه، إلى "تأسيس هذه النظرية على تحليل رهيف لمختلف فئات الهزلي: الأشكال المضحكة، الحركات المضحكة، المواقف والكلمات، وأخيراً، السمات الشخصية المضحكة (الكاراكتيرات). وليس من قبيل الصدفة أن يخصص برغسون، لهذه الفئة الأخيرة، كامل القسم الثالث من كتابه، حيث يعطي أمثلة فائقة الأهمية مستقاة خصوصاً من فن المسرح، الذي هو، بالنسبة إليه، وفي الوقت نفسه، المكان الذي يظهر فيه الهزلي شكلاً من صور الفن، ووظيفة اجتماعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الهزلي بين الفن والحياة
بيد أن برغسون يلاحظ هنا، أن "الهزلي، لا ينتمي كلياً لا إلى الفن ولا إلى الحياة. فالفن، في رأي برغسون وكما يوضح دارسوه، ليس سوى رؤية، أكثر اكتمالاً ومباشرة، للطبيعة والروح، يقتصر امتلاكها على عدد ضئيل من الأفراد. والفن يتوجه دائماً نحو الفردي لمجرد أنه يعرف كيف يتفادى المقولات العامة التي ترتبط بالفعل الاعتيادي والذرائعي للبشر". أما الهزلي، فإنه "في المقابل وعلى العكس من ذلك يتوجه إلى ما هو عمومي". وعلى العكس من الدراما (المأساة) التي تدخل إلى أعمق أعماق ظلمات أرواحنا، عبر تحليل ما نحن كائنوه حقاً، تأتي الكوميديا لكي تنتزع من داخل الإنسان، أنماط سلوك وتفكير عامة تدفعنا إلى الضحك. إذ تعرض أمامنا مشاهد ميكانيكية هذه الأنماط وضروب التفكير مذكرة إيانا (وذلكم هو العمل الاجتماعي للكوميديا وفعلها المباشر) بضرورة أن نراقب أنفسنا، معززة، بصورة عامة، من فائدتنا الذرائعية للمجتمع.
والحال أنه انطلاقاً من هذا التحليل الفريد والخلاق ننظر دائماً إلى كتاب "الضحك" على أنه أفضل كتاب لبرغسون، بل أفضل ما أطلعته تلك المرحلة المفصلية التي ألف فيها، ما سيخلفه من دراسات فلسفية إنسانية.
وفي هذا المجال يبدو محقاً ذلك الباحث الذي قال عن "الضحك" إن فائدته "مزدوجة، لأنها جمالية وميتافيزيقية في الوقت نفسه إذ إنه يتعمق في فكرة دفق الحياة الحقيقي الذي يفلت من براثن المعرفة المفهومية". وهذا التعمق هو الذي مهد لظهور كتاب برغسون، الأشهر فلسفياً، وخارج نطاق الحس الشعبي العام: "التطور الخلاق".
مكانة فريدة
عبر كل هذا يحتل هنري برغسون، في تاريخ الفلسفة الفرنسية عند بداية القرن الـ20، مكانة مميزة وربما تكون فريدة. ففي ذلك الحين كانت النزعة العلمية واحدة من التيارات الفكرية الأكثر رواجاً ونفوذاً، معتبرة العلوم الصحيحة الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من معرفة طبيعة الأشياء معرفة يقينية، حيث جاء برغسون ليعيد إلى الفلسفة الميتافيزيقية مكانتها باعتبارها "معرفة عليا وسامية بكل ما هو حقيقي وواقعي".
ولقد اهتم برغسون طوال حياته، وعلى وجه الخصوص، بالرصد الداخلي الجواني للطريقة التي بها تطورت تلك الفلسفة الميتافيزيقية، مؤكداً أن "الحدس" الذي هو واحد من أعمدتها الأساسية يكتشف، ضمن إطار هذه الفلسفة، ليس فقط أفكاراً أو مفاهيم، بل أيضاً دفقاً دائماً متواصلاً، "يمكن مقارنته بلحن موسيقي داخلي يتدفق بعذوبة". ويرى الباحثون أن هذا الكشف عن "الديمومة الداخلية لأنانا، التي تشكل الزمن الحقيقي الذي يعيشه الإنسان، هو الذي يقف في خلفية فلسفة برغسون ويبررها".
ولد هنري برغسون عام 1859 في باريس، درس في ثانوية كوندورسيه، ثم انضم إلى دار المعلمين متخصصاً في الفلسفة، واتجه بعد ذلك إلى التعليم. بدأ ينشر كتبه منذ عام 1889، فنشر تباعاً "دراسة حول معطيات الوعي المباشرة" و"التطور الخلاق" و"منبعا الدين والأخلاق". وهو حين صار محاضراً في "الكوليج دي فرانس" منذ عام 1914 اجتذب جمهوراً عريضاً بفصاحته. بعد ذلك عين رئيساً للجنة التعاون الثقافي التابعة لعصبة الأمم. ونال جائزة نوبل للآداب في عام 1928. وعند نهاية حياته تحول من اليهودية إلى الكاثوليكية، لكنه أوصى بألا يعلن هذا إلا بعد موته الذي كان يوم الرابع من يناير (كانون الثاني) 1941.