Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اتفاق ستارمر التكنولوجي... مجازفة بأمن بريطانيا وارتهان لترمب

بينما تركز بقية دول أوروبا جهودها للتخلص من تبعيتها للتكنولوجيا الأميركية، لا سيما في مجال الذكاء الاصطناعي، تختار المملكة المتحدة السير في الاتجاه المعاكس، مدفوعة بإغراء المال ووعود زائفة

وقع دونالد ترمب وكير ستارمر على صفقة تكنولوجية جديدة خلال زيارة الرئيس الأميركي الرسمية إلى المملكة المتحدة الأسبوع الماضي (غيتي)

ملخص

ترتهن المملكة المتحدة للتكنولوجيا الأميركية عبر اتفاق "الازدهار التكنولوجي"، مما يهدد استقلالها الأمني والسياسي ويعمق فجوتها مع أوروبا، التي تسعى إلى بناء بنية تحتية رقمية مستقلة تعزز سيادتها في مجال الذكاء الاصطناعي.

مع انقشاع غبار الزيارة الرسمية الصاخبة للرئيس الأميركي دونالد ترمب الأسبوع الماضي، لا شك في أن حكومة كير ستارمر سترى في توقيع "اتفاق الازدهار التكنولوجي" بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة أحد أبرز إنجازات تلك الزيارة.

الاتفاق الذي بموجبه تلتزم عمالقة التكنولوجيا الأميركية، من قبيل "مايكروسوفت" و"إنفيديا" و"أوبن أي آي"، بضخ استثمارات هائلة تصل حتى 150 مليار جنيه استرليني في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة، يسوق له على أنه إنجاز كبير ليس فقط لأنه يعد بتوفير فرص عمل جديدة وتحفيز النمو الاقتصادي، بل أيضاً بوصفه خطوة نحو تحويل المملكة المتحدة إلى "قوة عظمى في الذكاء الاصطناعي". ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كم من هذه الوعود الطموحة البراقة سيتحول فعلاً إلى واقع ملموس؟ الواضح منذ الآن أن المملكة المتحدة، إذ تستقبل الشركات التكنولوجية الأميركية الكبرى بحفاوة بالغة مفروشة بالسجاد الأحمر معلنة اعتناقها الرؤية الأميركية للذكاء الاصطناعي دونما أي تحفظ، تدفع بنفسها إلى مزيد من التبعية لعمالقة التكنولوجيا الأميركية.

والحقيقة أن الاعتماد المتزايد للمملكة المتحدة على شركات التكنولوجيا الأميركية لا يجعلها عرضة لأهواء إدارة ترمب فحسب، بل يدفعها أيضاً إلى الانعزال تدريجاً عن أقرب شركائها الأوروبيين، الذين شرعوا بدلاً من ذلك في اتخاذ خطوات جريئة بغية تقليص اعتمادهم على عمالقة التكنولوجيا الأميركية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثمنت الحكومة البريطانية هذا الاتفاق بوصفه خطوة نحو تعزيز قدرات المملكة المتحدة السيادية، مدعومة بأحدث بنى الذكاء الاصطناعي الأميركية المتطورة الموجودة فعلاً على أراضيها. ولكن بدلاً من تعزيز استقلاليتها، تواجه البلاد خطر التنازل عن مزيد من السيطرة لهذه الشركات التكنولوجية الأجنبية، بحيث تتحول، وأستعير هنا كلمات نائب رئيس الوزراء البريطاني السابق نيك كليغ [المعروف بمواقفه الداعية لحماية السيادة الرقمية والتكنولوجية للمملكة المتحدة]، إلى "دولة تابعة تكنولوجياً".

كشفت الأشهر القليلة الماضية بوضوح تام لا لبس فيه عن الخطورة الكبيرة التي تطرحها التبعية المتزايدة للتكنولوجيا الأميركية، فخلال الصيف استغلت إدارة ترمب اعتماد أوروبا على التكنولوجيا الأميركية كورقة ضغط في مفاوضات الرسوم الجمركية، مما اضطرها إلى التراجع عن بعض قوانينها التنظيمية في مجال التكنولوجيا. كذلك واجهت المملكة المتحدة ضغوطاً مماثلة، ومنذ الآن تفيد أصوات بأنه في مقابل هذه الطفرة الحالية في الإنفاق، من المتوقع أن تتراجع المملكة المتحدة عن بعض قوانينها الخاصة.

ولكن هذه المخاوف تتجاوز مجرد استخدام النفوذ في مفاوضات التجارة، فالإفراط في الاعتماد على جهة واحدة يحمل أيضاً أخطاراً جسيمة على الأمن القومي. ففي مارس (آذار) الماضي، استخدمت إدارة ترمب استمرارية استفادة أوكرانيا من الأنظمة الأميركية مثل "ستارلينك" التابع لإيلون ماسك كورقة تفاوض، مما أثار القلق ليس فقط في كييف، بل في أماكن أخرى أيضاً في شأن مدى موثوقية الأنظمة التقنية الأميركية.

أظهرت تلك الواقعة أن الحكومة الأميركية قادرة، وأحياناً لا تتردد في إجبار الشركات الخاصة على تنفيذ أوامرها وقطع الوصول إلى تكنولوجيات بالغة الأهمية بحسب رغبتها. وعلى رغم ذلك، وقعت المملكة المتحدة خلال الزيارة الرسمية اتفاق شراكة استراتيجية بقيمة 1.5 مليار جنيه استرليني، تمنح من خلاله عملاق التكنولوجيا الدفاعية الأميركي "بالانتير" [الشركة المتخصصة في تحليل البيانات وأنظمة الذكاء الاصطناعي ولها عقود مع جهات حكومية وعسكرية] دوراً مهماً في أنظمة الذكاء الاصطناعي العسكرية لديها، وذلك بعد صفقات سابقة أتيح فيها للشركة الوصول إلى بيانات حساسة لدى "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" البريطانية" ("أن أتش أس" NHS). وبانخراطها الكامل في البنية التحتية الأميركية للذكاء الاصطناعي، تبتعد المملكة المتحدة أكثر من بقية دول أوروبا. وقد ترسخ بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست) تصور مفاده بأن المملكة المتحدة، بتحالفها مع الشركات الأميركية التكنولوجية، تتبنى التكنولوجيا الحديثة والابتكار، بينما ما زالت دول الاتحاد الأوروبي مقيدة بأعباء القوانين المنظمة لعمل القطاع التكنولوجي.

ولكن المشهد الحقيقي على الأرض يكشف عن واقع مغاير تماماً، إذ دفعت التوترات التي شهدتها الأشهر الأولى من إدارة ترمب الثانية أوروبا إلى الإلحاح على نفسها لتسريع جهود بناء بنيتها التحتية الخاصة بالذكاء الاصطناعي وبقية التكنولوجيات، وتطوير تطبيقاتها. وبينما ما زال من المبكر تحديد مدى نجاح هذه الجهود، فإن الزخم قائم فعلياً: فقد خصصت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، جزءاً كبيراً من خطابها في شأن حال الاتحاد في وقت سابق من الشهر الجاري، لتأكيد أهمية بناء وتمويل تكنولوجيا ذكاء اصطناعي مستقلة في القارة الأوروبية.

وتدعم كل من ألمانيا وفرنسا تطوير [البديل الأوروبي لتحقيق السيادة التكنولوجية] "يوروستاك" Eurostack، ومن المقرر أن تستضيفا في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل قمة صناعية مشتركة تؤكد الالتزام بتحقيق السيادة التكنولوجية. والأسبوع الماضي، أعلنت الشركة الهولندية العملاقة "أي أس أم أل" ASML [الرائدة في تصنيع معدات أشباه الموصلات] استثماراً بقيمة 1.3 مليار يورو في الشركة الفرنسية "مسترال" Mistral [المتخصصة في تطوير منتجات الذكاء الاصطناعي]، في خطوة صريحة لتعزيز السيادة الأوروبية في هذا المجال.

حتى الآن، غابت المملكة المتحدة بصورة واضحة عن هذه المناقشات والتطورات، ويبدو أن اتفاق "الازدهار التكنولوجي" سيزيد الفجوة بينها وبين التوجه الأوروبي اتساعاً. ففي وقت بدأ أقرب جيرانها وحلفائها باتخاذ خطوات جادة لتقليص اعتمادهم على التكنولوجيا الأميركية، تراهن المملكة المتحدة بكل ما تملك على قطاع الذكاء الاصطناعي الأميركي.

وإذ تتبنى تماماً الرواية القائلة إنها ستصبح لاعباً جاداً في الذكاء الاصطناعي عبر ربط مصيرها بالتكنولوجيا الأميركية، تبدو المملكة المتحدة كأنها تتنازل مبكراً عن أوراق قوتها. فبحسب معظم المؤشرات، ما زالت بريطانيا تحتل المرتبة الثالثة عالمياً كأهم سوق للذكاء الاصطناعي (وليس مستغرباً أن تسعى الشركات الأميركية العملاقة إلى اقتطاع نصيب من هذه الكعكة).

إن منظومة البحث الرائدة في البلاد، وصناعة التكنولوجيا المتقدمة، ووفرة الكفاءات، إلى جانب العمق النسبي لأسواق رأس المال، تضع المملكة المتحدة في موقع يسمح لها بتولي زمام المبادرة في صياغة نهج أوروبي أوسع للذكاء الاصطناعي، إذا ما أرادت ذلك.

ولكن "اتفاق الازدهار التكنولوجي" يتهدد بتبديد كل تلك المزايا، ومعها هامش الاستقلالية الأمنية والسياسية الأوسع للمملكة المتحدة، في مقابل دفعة استثمارية سريعة ووعد زائف بسيادة شكلية لا تملك مضموناً حقيقياً. وإذا كانت لندن تريد فعلاً أن ترسم ملامح مستقبل الذكاء الاصطناعي وفق شروطها الخاصة، وأن تتحول إلى قوة عظمى في هذا المجال، فعليها أن تشق طريقها المستقل وتعمل مع شركاء يتقاطعون معها في الرؤية، لا أن تكتفي بدور السوق المستهلكة لحلول الآخرين.

كاتيا بيغو باحثة بارزة في برنامج الأمن الدولي لدى معهد "تشاتام هاوس" الأبحاث.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل