ملخص
في الرابع من أغسطس الماضي، أعلن وزير النقل الأميركي، المدير الموقت لوكالة ناسا، شون دافي، عن عزم الولايات المتحدة بناء مفاعل نووي على القمر، وهي خطوة تتماشى مع تركيز إدارة ترمب على رحلات الفضاء المأهولة. وقد اقترح البيت الأبيض موازنة من شأنها زيادة تمويل رحلات الفضاء المأهولة لعام 2026، مع أنه يدعو إلى تخفيضات كبيرة في برامج أخرى، بما في ذلك خفض 50 في المئة تقريباً للبعثات العلمية... هل هذه الخطوة هي بداية الطريق إلى ما يطلق عليه "السباق الفضائي الثاني"؟.
مثير جداً شأن هذا الكيان الذي يظهر للبشر من ملايين السنين في سماوات كوكب الأرض، لامعاً، أبيض، مشعاً، يتطور ويتحور، ويكتمل ويتوارى، طوال 30 يوماً.
عده الشعراء والكتاب ملهماً لهم، غنوا له القصائد، وقصد العشاق ضوءه الرومانسي، ليعقدوا صفقات من الحب الأبدي، ويمهروها به كشاهد على عشقهم.
لكن من الواضح أن ذاك الزمان قد ولى، واليوم يبدو الحديث يمضي في طريق مغاير، طريق يتسق مع رؤى الهيمنة والسيطرة، بل والأدهى، العسكرة، تلك التي باتت تجاوز البر والبحر، إلى الفضاء الخارجي.
منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، والقوى الكبرى المهيمنة على المقدرات الدولية، تضع القمر نصب عينيها، قاصدة نوايا غير واضحة، فالبعض يتكلم عن تجارب علمية، والبعض الآخر مراده موارد اقتصادية لا سيما غاز الهيليوم، الكفيل بأن يغير عالم التواصل والانتقال على سطح الأرض، ومن الأرض إلى السماء، فيما فريق ثالث يرى أن القمر ربما يكون موقع وموضع مقترح لتجارب عسكرية، ضمن سباق الموت السريع في القرن الـ21.
وعلى رغم الفرضيات المتقدمة، تبقى هناك قصة أخرى متوارية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً، بعيش البشر خارج كوكب الأرض، وأقرب ما يقال في هذا السياق، اعتبار القمر منصة للانطلاق ناحية الكوكب الأحمر، المريخ، ذاك الذي يداعب عقول البشر منذ زمان وزمانين.
يعن لنا التساؤل "لماذا الحديث من جديد عن القمر وعسكرته؟ وهل للأمر علاقة ما بآخر المستجدات والمشروعات الأميركية التي أعلنت عنها وكالة ناسا الأيام القليلة الماضية؟
مشروع A119 وتفجير نووي على القمر
تبدو علاقة الأميركيين بالقمر أكثر إثارة من علاقة بقية الدول الكبرى به لا سيما روسيا المنافس القديم الأكبر، والصين المناوئ الأحدث، ذلك أنه وقبل الصعود إلى سطحه، كانت هناك أبحاث ودراسات خاصة بالقمر، بل رسم علماء أميركيون بعض المشروعات التي يمكن وصفها بالجنون لو تحدث أحدهم عنها في الوقت الراهن.
هل أتاكم حديث المشروع A119؟
عرف أيضاً هذا المشروع باسم دراسة رحلات البحث القمرية، وهو خطة سرية للغاية وضعتها القوات الجوية الأميركية عام 1958. كان الهدف من المشروع تفجير قنبلة نووية على سطح القمر، مما سيساعد في حل بعض الألغاز الخاصة بعلم الفلك الكوكبي والجيولوجيا الفلكية.
لكن غالب الأمر، هو أن الهدف لم يكن علمياً بالدرجة الأولى، بقدر ما كان مشروعاً استعراضياً للقوة، مما قد يؤدي إلى تعزيز الروح المعنوية المحلية للولايات المتحدة، وهي دفعة كانت ضرورية بعد أن حقق الاتحاد السوفياتي تقدماً مبكراً في سباق الفضاء.
لم ينفذ المشروع قط، فقد ألغي بعد أن قرر مسؤولو القوات الجوية الأميركية أن أخطاره تفوق فوائده، ولأن الهبوط على القمر كان بلا شك إنجازاً أكثر شعبية في نظر الرأي العام الأميركي والدولي على حد سواء، وفي الوقت نفسه كانت هناك خشية من اعتبار المشروع بداية لعسكرة الفضاء.
المثير أنه في الوقت عينه، قام الاتحاد السوفياتي بإلغاء مماثل، والغريب أنه حتى عام 2000، لم يكن أحد يدري شيئاً عن هذا المشروع، إلى أن كشف عنه ليوناردو ريفيل المدير التنفيذي السابق في الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء "ناسا"، والذي قاد المشروع في عام 1958. في ذلك الوقت، كان العالم والفلكي الأميركي الشهير، باحثاً شاباً، وجزءاً من الفريق المسؤول عن التنبؤ بآثار الانفجار النووي في الفراغ وانخفاض الجاذبية، وتقييم القيمة العلمية للمشروع.
ظلت الوثائق ذات الصلة بهذا المشروع سرية لما يقرب من خمسة عقود، لكن على رغم الكشف عنها من جانب ريفيل، فإن حكومة الولايات المتحدة لم تقر أبداً رسمياً بوجودها.
هل تغير الزمان وجاءت واشنطن اليوم لتعلن للعالم أجمع عن نواياها الجديدة لجهة القمر؟ وماذا عن تلك النوايا؟
مفاعل نووي فوق سطح القمر
في الرابع من أغسطس (آب) الماضي، أعلن وزير النقل الأميركي، المدير الموقت لوكالة ناسا، شون دافي، عن عزم الولايات المتحدة بناء مفاعل نووي على القمر، وهي خطوة تتماشى مع تركيز إدارة ترمب على رحلات الفضاء المأهولة. وقد اقترح البيت الأبيض موازنة من شأنها زيادة تمويل رحلات الفضاء المأهولة لعام 2026، مع أنه يدعو إلى تخفيضات كبيرة في برامج أخرى، بما في ذلك خفض 50 في المئة تقريباً للبعثات العلمية.
هل هذه الخطوة هي بداية الطريق إلى ما يطلق عليه "السباق الفضائي الثاني"؟.
غالب الظن أن ذلك كذلك، لا سيما في ضوء تسارع الخطى الصينية والروسية لتفعيل برامجهما منفردين أول الأمر، ومتعاونين ثنائياً تالياً، في الفضاء الخارجي، وبما يتجاوز سطح القمر.
في تقرير مطول لها تشير صحيفة "تليغراف" البريطانية، إلى أنها اطلعت على وثائق مكتوبة لوكالة ناسا، تحمل توجيهات تؤكد أن المفاعل بات أمراً ضرورياً لمنع القوى العظمى المتنافسة من استعمار القمر بشكل فعال وإنشاء مناطق "منع دخول" أميركية.
يبدو الأمر بالفعل وكأنه خطوة استباقية في مواجهة روسيا وبكين اللتين أعلنتا من قبل عن جهد مشترك لوضع مفاعل نووي على القمر بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما قدم دافي توجيهاً بتسريع استبدال محطة الفضاء الدولية، وهو هدف آخر لناسا، ويمكن أن تسهم هاتان الخطوتان في تسريع الجهود الأميركية للوصول إلى القمر والمريخ، وهو ما تسعى إليه الصين بنوع خاص.
وتضيف الوثائق التي تحصلت عليها "تليغراف" أن "ناسا بحاجة إلى التحرك بسرعة" من أجل "دعم اقتصاد القمر المستقبلي"، وتعزيز الأمن القومي الأميركي في الفضاء.
يلزم التوجيه الذي يتحدث عنه دافي وكالة ناسا بتعيين قائد للمشروع، والحصول على آراء القائمين على صناعة هذا المفاعل خلال 60 يوماً، وتسعى الوكالة إلى استقطاب شركات قادرة على إطلاق المفاعل بحلول عام 2030، أي بالتزامن مع نية الصين إرسال أول رائد فضاء لها إلى القمر.
وتعني المبادرة النووية أن وكالة ناسا ستستمر في المساهمة في التطوير النووي حتى بعد إلغاء البنتاغون أخيراً لبرنامج مشترك في شأن محركات الصواريخ التي تعمل بالطاقة النووية.
لكن علامة الاستفهام المطروحة في هذا السياق "ما هي مواصفات هذا المفاعل والغرض الحقيقي منه لا سيما في مثل هذا التوقيت المثير والذي تحتدم فيه فكرة المنافسة القطبية بين واشنطن من جهة، وموسكو وبكين من جهة ثانية، لا سيما أنه من الواضح أن ناسا تمضي بسرعة شديدة في تنفيذ مشروع المفاعل، في ضوء تخطيطها لمنح عقد لشركتين على الأقل خلال ستة أشهر من طلب الوكالة لتقديم عروض، مع فكرة إنشاء محطة فضائية جديدة بحلول عام 2030"؟.
برنامج أرتميس هو أصل الابتكارات
ربما تصعب الإحاطة بفكرة المفاعل النووي الأميركي فوق سطح القمر، من غير أن تكون لدينا رؤية ولو عابرة عن الرحم الذي تتوالد من خلاله جميع أفكار الاستثمار على القمر، وصولاً إلى طرح استعماره.
الحديث هنا يدور عن البرنامج المسمى "أرتميس" (الاسم يعود لأحد أهم وأقوى الآلهة الإغريقية في جبال الأوليمب).
برنامج أرتميس هو برنامج لاستكشاف القمر، تقوده وكالة ناسا، وقد أنشئ رسمياً عام 2017، بموجب التوجيه رقم 1 لسياسة الفضاء الأميركية.
يهدف البرنامج، على المدى الطويل، إلى إنشاء قاعدة دائمة على القمر لتسهيل إرسال بعثات بشرية إلى المريخ. ويهدف إلى إعادة ترسيخ الوجود البشري على سطح القمر للمرة الأولى منذ مهمة أبولو عام 1972، ومواصلة الاستكشاف المباشر للمريخ الذي بدأ ببيانات من مسبار "مارينز 9" في العام نفسه.
يشتق عنصران رئيسان من برنامج أرتميس من برنامج كونسيلتشن الذي ألغي الآن: مركبة أوريون الفضائية ومعززات الصواريخ الصلبة لنظام الإطلاق الفضائي.
وهناك عناصر أخرى من البرنامج، مثل محطة الفضاء "بوابة القمر"، ونظام الهبوط البشري، وهي قيد التطوير من قبل وكالات فضاء حكومية وشركات رحلات فضائية خاصة، وتعاون مرتبط باتفاقيات أرتميس والعقود الحكومية.
يشكل نظام الإطلاق الفضائي، ومركبة أوريون الفضائية، ونظام الهبوط البشري البنية التحتية الرئيسة لرحلات الفضاء لبرنامج أرتميس، بينما تلعب بوابة القمر دوراً داعماً في سكن البشر. تشمل البنى التحتية الداعمة لبرنامج أرتميس خدمات الحمولة القمرية التجارية، وتطوير البنى التحتية الأرضية، ومعسكر قاعدة أرتميس على القمر، ومركبات القمر الجوالة، والبدلات الفضائية. وقد وجهت انتقادات لبعض جوانب البرنامج، مثل استخدام مدار هالة شبه مستقيم، واستدامة البرنامج.
واجه البرنامج أكبر تهديد وجودي له مع بدء تغير اقتصادات تكاليف الإطلاق بشكل جذري نتيجة لمركبات الإطلاق القابلة لإعادة الاستخدام في أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين. وبعد مناقشة جدوى البرنامج في جلسات متعددة في الكونغرس، تم تمويله في النهاية بإقرار قانون "مشروع قانون واحد كبير وجميل"، لعام 2025، ما يعني أن هناك نية حقيقية لتجاوز أي عقبات مالية في طريق بسط النفوذ الأميركي على القمر، لكن يبقى حديث المفاعل النووي في حاجة إلى مزيد من الضوء.
مواصفات مفاعل القمر النووي
أدركت ناسا منذ زمن طويل الأهمية الاستراتيجية لمصدر طاقة نووية على القمر. وتمثل هذه الخطة الجديدة نقلة نوعية عن الأبحاث السابقة في "إطار مشروع الطاقة الانشطارية السطحية".
في وقت سابق، كانت ناسا تسعى إلى الحصول على مفاعل أصغر بقدرة 40 كيلوواط، وهي الوحدة التي ذكرت الوكالة أنها قادرة على توفير الطاقة لـ33 أسرة لنشرها على القمر في أوائل ثلاثينيات القرن الـ21.
وبحسب ما ورد، فإن الخطة تدعو إلى جدول زمني أكثر طموحاً، وتسعى إلى الحصول على مقترحات لبناء مفاعل بقوة 100 كيلوواط يتم إعداده للإطلاق بحلول عام 2030.
وبحسب ما أوردته مجلة "بولتيكو" الأميركية الشهيرة، سيتم تصميم المفاعل للعمل في بيئة مختلفة تماماً عن بيئة الأرض، بيئة لا تحتوي على غلاف جوي، مع تقلبات شديدة في درجات الحرارة، وفترات طويلة من الضوء والظلام.
وعلى النقيض من مجموعات الطاقة الشمسية التي قد تعوقها ليالي القمر التي تستمر لمدة أسبوعين، فإن المفاعل النووي القائم على الانشطار يمكن أن يوفر طاقة مستمرة وموثوقة لتزويد أنظمة دعم الحياة والتجارب العلمية والعمليات الصناعية مثل التعدين وإنتاج الوقود.
ماذا عن تصميم ذلك المفاعل؟
التصميم الأكثر ترجيحاً هو مفاعل انشطار مدمج يستخدم وقود اليورانيوم، محمي بدروع كثيفة لحماية رواد الفضاء من الإشعاع. يقوم هذا المفاعل بتحويل الحرارة الناتجة من الانشطار النووي إلى كهرباء باستخدام محركات سترلينغ أو غيرها من أنظمة تحويل الحرارة إلى طاقة. يمكن دفن الوحدة تحت طبقة الريغولت القمرية (طبقة من المواد الصلبة غير المتماسكة تغطي صخور القمر أو الكوكب)، لتقليل التعرض للإشعاع بشكل أكبر وتنظيم درجة الحرارة، مع أنظمة تحكم عن بعد ومراقبة تسمح بالتشغيل الذاتي عندما لا يكون البشر بالقرب.
في أبريل (نيسان) عام 2024، قال سيمون ميدلبيرغ، الباحث في معهد المستقبل النووي بجامعة بانغور في المملكة المتحدة، للإذاعة البريطانية "الحقيقة هي أن الطاقة النووية هي الخيار الوحيد لتزويد قاعدة قمرية بالطاقة".
ويضيف "لا يمكننا نقل الوقود إلى هناك، كذلك فإن الألواح الشمسية لن تعمل، ومولدات الديزل لن تعمل، ومولدات الطاقة الحرارية الراديوية القديمة ليست كبيرة بما يكفي لتحدث فرقاً كبيراً".
على أن علامة الاستفهام محل التساؤل "هل المفاعلات النووية آمنة في الفضاء؟". تبدو هذه نازلة من النوازل غير المسبوقة، ذلك أنه في حين أن الطاقة النووية تقنية مثبتة في الفضاء، إذ استخدمت في مسابير الفضاء العميق مثل فوياجر وكيريوسيتي، إلا أن نشرها على القمر يطرح تحديات فريدة، تشمل هذه التحديات إطلاق المواد النووية بأمان من الأرض، وضمان استقرار المفاعلات في ظروف الجاذبية المنخفضة، وإدارة الحرارة المهدرة.
هل يمكن فهم فكرة المفاعل النووي الأميركي على سطح القمر، من غير رؤية ولو مبسطة عن مشروع "الطاقة السطحية الانشطارية" التابع لوكالة ناسا؟
طاقة انشطارية فوق سطح القمر
القصة من دون الدخول في عمق أفكار الفيزياء النووية، تقوم على تطوير تصاميم مفاهيمية لمفاعل انشطار نووي صغير لتوليد الكهرباء يمكن استخدامه خلال عرض مستقبلي على القمر ولإبلاغ التصاميم المستقبلية للمريخ.
منحت وكالة ناسا ثلاثة عقود بقيمة خمسة ملايين دولار في عام 2022، حيث كلفت كل شريك تجاري بتطوير تصميم أولي يتضمن المفاعل وتحويل الطاقة ورفض الحرارة وأنظمة إدارة الطاقة وتوزيعها، والتكاليف التقديرية، وجدول التطوير الذي يمكن أن يمهد الطريق لتوفير الطاقة لوجود بشري على سطح القمر لمدة 10 سنوات على الأقل.
في حديثها عن هذا النوع الجديد من الطاقة، تقول ترودي كورتيس، مديرة برنامج البعثات التجريبية التكنولوجية في مديرية بعثات تكنولوجيا الفضاء التابعة لناسا بمقرها الرئيس في واشنطن، "يتطلب عرض مصدر طاقة نووية على القمر إثبات أنه خيار آمن ونظيف وموثوق". وأضافت "تشكل ليلة القمر تحدياً تقنياً، لذا فإن وجود مصدر طاقة كهذا المفاعل النووي الذي يعمل بشكل مستقل عن الشمس، يمثل خياراً ممكناً للاستكشافات والجهود العلمية طويلة الأمد على القمر".
وعلى رغم أن أنظمة الطاقة الشمسية لها حدود على القمر، فإنه من الممكن وضع مفاعل نووي في مناطق مظللة بشكل دائم (حيث قد يكون هناك جليد مائي) أو توليد الطاقة بشكل مستمر خلال الليالي القمرية، والتي تبلغ مدتها 14 يوماً ونصف اليوم على الأرض.
أما ليندسي كالدون، مديرة مشروع طاقة الانشطار السطحي في مركز جلين للأبحاث التابع لوكالة ناسا في كليفلاند، فترى أنه "كان هناك تنوع كبير في المناهج، وكانت جميعها فريدة من نوعها". وتضيف "لم نفرض عليهم كثيراً من المتطلبات عمداً، لأننا أجبرناهم أن يفكروا خارج الصندوق".
ومع ذلك، حددت ناسا أن المفاعل يجب أن يكون أقل من ستة أطنان مترية، وأن يكون قادراً على إنتاج 40 كيلوواط من الطاقة الكهربائية، مما يضمن ما يكفي لأغراض العرض، وطاقة إضافية متاحة لتشغيل المساكن القمرية والمركبات الفضائية، وشبكات الطاقة الاحتياطية، أو التجارب العلمية.
هل الحديث عن المفاعل النووي على سطح القمر، هو خطوة ضمن مبادرة أوسع وأشمل الهدف الرئيس منها هو الوصول إلى المريخ وليس محاولة اكتشاف القمر فحسب؟
مبادرة ابتكار سطح القمر LSII
من خلال ما يعرف بـ"مبادرة ابتكار سطح القمر LSII" تعمل وكالة ناسا على تطوير التقنيات والأساليب الأساسية اللازمة لإنجاز مهام أرتميس على القمر استعداداً لاستكشاف المريخ.
تعد أنشطة LSII رصيداً بالغ الأهمية لناسا، إذ تحفز الابتكار وتقلل الأخطار في تطوير نظام سطح القمر، وقد أنشئت هذه المبادرة لجمع رواد العالم في هذا المجال لتنمية أفكار جديدة، وتقديم حلول فعالة، وتعزيز التطوير المتكامل للقدرات اللازمة للاستكشاف المثمر لبيئة القمر القاسية.
هل من هدف رئيس لهذه المبادرة المرتبطة جذرياً بفكرة المفاعل النووي وغيرها من الأفكار؟
الثابت أنه بالنظر إلى المستقبل، ومع انطلاق ناسا في استكشافات ثورية في نظامنا الشمسي، تجسد مبادرة سطح القمر المبتكرة القدرات التكنولوجية اللازمة لمهام الاستكشاف البشري المستدامة على القمر، والتي يمكن أن تتطور لمساعدة البشرية على فهم واستكشاف بيئات أخرى صعبة في الفضاء السحيق، بما في ذلك المريخ.
لكن لماذا القمر تحديداً؟
ببساطة لأنه من منظور تطوير التكنولوجيا، يعد القمر أرضاً مثالية لاختيار البعثات المعقدة على الكوكب الأحمر، كما يدعم حاجات البعثات العلمية القمرية الحالية وتلك المخطط لها في المستقبل القريب. وبينما يعمل العلماء الأميركيون على تعزيز الفهم للبيئة القمرية الصعبة، تسهم المعرفة والفرص الجديدة الناتجة من هذه المساعي في تطوير التكنولوجيا التي ترشد الخطط اللازمة لاستكشاف المريخ والكواكب والأجرام السماوية الأخرى، مع نقل تطبيقات تكنولوجية تحسن الحياة اليومية على كوكب الأرض.
هنا يعد جمع ومعالجة وتخزين واستخدام المواد الموجودة أو المصنعة على سطح القمر، مثل الجليد المائي لتحويله إلى أوكسجين صالح للتنفس أو المعادن المستخدمة في بناء البنية التحتية، عناصر أساسية لنجاح مهام الاستكشاف طويلة الأمد على القمر والمريخ.
كما يعد توفير الطاقة المحلية المستمرة طوال الليل والنهار القمري، أمراً ضرورياً لمهام الطاقم والروبوتات الإنتاجية على سطح القمر. ويمكن تصنيف التقنيات المطلوبة إلى ثلاث فئات: توليد الطاقة، وإدارة الطاقة وتوزيعها، وتخزين الطاقة.
كما تمكن التقنيات التي تسهل التصنيع أو البناء المستقل وبأسعار معقولة، إضافة إلى صيانة النظام على المدى الطويل، وكالة ناسا وشركاتها من تنفيذ مجموعة متنوعة من المهام في وقت واحد، بعد استخراج مواد الريغولت من تحت سطح القمر والقدرة على السفر لمسافات طويلة عبر تضاريس غير مستوية من مجالات التطوير المهمة.
هل قصة المفاعل النووي على القمر، مجردة عن تعاون وكالة ناسا مع وكالات أميركية أخرى أقل شهرة، لكنها تعد صلب الصناعات الأميركية العسكرية بنوع خاص؟ أي هل قصة هذا المفاعل منفصلة عن إشكالية أوسع؟
عسكرة القمر محاولات أميركية مستمرة
المؤكد أن هناك علاقة عضوية بين وكالة أبحاث الفضاء الأميركية (ناسا)، وبين واحدة من أهم الوكالات الأميركية ذات الصبغة العلمية العسكرية، ونعني بها وكالة مشاريع البحوث المتطورة DARPA، فقد لاقت ثلاث مبادرات استباقية لتطوير تقنيات للاستخدام على القمر ترحيباً واسعاً.
لعل أفضل من تحدث في هذا السياق، ليوناردو ديفيد، كاتب العمود الأشهر في مجلة "ناشونال جيوغرافيك"، وأفضل من كتب في شؤون الفضاء في الصحافة الأميركية بشكل عام.
يخبرنا ليوناردو أنه في عام 2021، أطلقت الوكالة برنامجها "تصنيع القمر المداري الجديد"، والتصميم الفعال للكتلة، ثم لاحقاً أضافت الوكالة بعضاً من المنطق إلى هذا البرنامج من خلال "اتحاد إرشادات التشغيل القمري للبيئة التحتية" كما أطلقت الوكالة دراسة قدرات هندسة القمر التي تمتد لعشر سنوات لتحفيز تطوير بنية تحتية قمرية مستقبلية متكاملة للاستخدام السلمي في الولايات المتحدة والعالم.
لكن ذلك لا يعني أن "داربا" لا تقوم بالفعل بمساعدة "ناسا" في الإعداد لعسكرة الفضاء، والدليل المؤكد على صدقية هذا التوجه، العمل معاً على أهم مشروع يشغل بال ومآل الولايات المتحدة في الوقت الراهن، ونعني به "القبة الذهبية"، والتي هي نسخة متطورة من برنامج حرب الكواكب أو النجوم، الذي أرسى أساسه الرئيس الجمهوري رونالد ريغان في عام 1983.
لم يعد سراً أن "داربا" هي التي تقود برامج العسكرة الأميركية، وهي تفعل ذلك من منطلق الحفاظ على الأسبقية والأفضلية الأميركية على الروس الذين يعاودون برامجهم لتسليح الفضاء، وقد كان لهم السبق في ارتياده قبل الأميركيين في النصف الثاني من القرن الماضي.
أما الأمر الأشد خطورة في تقدير الدولة الأميركية العميقة، لا سيما في جانب المجمع الصناعي العسكري فيها، فموصول بما تقوم به الصين وسعيها المتسارع نحو القمر، لا من منطلق علمي مجرد، بل مدفوعة بحسابات استراتيجية تتشكل من خلال الضرورات المتشابكة للوصول إلى الموارد، والتفوق التكنولوجي، وترسيخ سيطرة سياسية طويلة الأمد.
والثابت أنه داخل ناسا، ينظر إلى الزخم الصيني المتنامي على أنه ليس تهديداً خارجياً، بل صرخة استنفار. وقد كرر المسؤولون من الإدارات الجمهورية والديمقراطية، على حد سواء، وصف برنامج أرتميس بأنه أساسي للفوز بسباق الفضاء الجديد مع الصين.
ولعله من نافلة القول إن حديث الصراع المثلث الأضلاع، أي روسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية، يستدعي تساؤلاً معمقاً عن عواقب هذا التنافس على الكرة الأرضية وسكانها... ماذا عن هذا؟
البشر ما بين الأرض والفضاء
في كتابه الجديد "مستقبل الجغرافيا... كيف ستغير القوة والسياسة في الفضاء عالمنا"، يكشف المؤلف تيم مارشال الحقائق الجيوسياسية ليظهر كيف وصلنا إلى هنا وإلى أين نحن ذاهبون. يعتبر مارشال أن الفضاء أصبح الآن أكثر من أي وقت مضى امتداداً لجغرافيا الأرض، حيث يأخذ البشر الدول القومية والشركات والتاريخ والسياسات، بل والصراعات، إلى ما هو أعلى بكثير من مستواهم الحالي.
كان سباق الفضاء خلال الحرب الباردة يدور حول النهوض والانطلاق، أما الآن، فإن كثيراً من الدول تتجه إلى الفضاء في محاولة لا تخفى عن العيون، بهدف الامتلاك والسيطرة والعسكرة.
لماذا حديث الفضاء بات مهماً لإنسان القرن الـ21؟
باختصار غير مخل، لأن كثيراً من أساسات الحياة على الأرض، تدور في الفضاء الذي بات محورياً في الاتصالات والاقتصاد والاستراتيجيات العسكرية، وهذا يخلق من دون أدنى شك مناطق نفوذ في ما وراء الأرض، وحتى مطالبات بالأراضي، مع امتداد التنافسات والتحالفات والصراعات على الأرض إلى الفضاء.
ولعل الأزمات المحتملة في قصة الفضاء، مرتبطة بفكرة من يمول الرحلات إلى هناك، ومن يقيم المشروعات، فعلى رغم أنه لا يزال التمويل الحكومي يمثل المصدر الرئيس لإيرادات الشركات الكبرى التي تنشئ المشاريع في الفضاء، فإن ذلك لا يمنع من نشوء وارتقاء صراعات بين شركات خاصة، ولكل منها منافعها وأهدافها بل وأغراضها، وهذا ما يمكن رؤيته بجلاء واضح في شركة "سبايس إكس" لصاحبها إيلون ماسك.
هل يعني ذلك أن الفضاء الخارجي، قد يتحول عما قريب من صراع دول إلى صراع كارتلات شركاتية عابرة للقارات، يمكن أن تكون لها مصالح على الضد من مصالح دول بعينها؟
الجواب ربما يأخذنا إلى منطقة من مناطق الحروب الرمادية والهجينة، والتي سبق أن تناولنا خطورتها في قراءات سابقة، لكن كل الخوف أنها ستكون هذه المرة من مدى بعيد يمكن أن يتهدد مستقبل الكرة الأرضية وساكنيها مرة وإلى الأبد؟
ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟
فكرة أكثر جنوناً، تقودنا إلى السؤال: هل عسكرة الفضاء يمكن أن تستدعي كائنات فضائية عاقلة أو غير عاقلة خارج المجرة، للتواصل أو للتعدي على البشر خوفاً من تلويثهم للكون الواسع نووياً؟