ملخص
في عام 1968 قررت دول "أوبك" أن تقوم الدول الأعضاء بزيادة حصة الحكومات في الشركات المنتجة ومشاركتها في قرارات الإنتاج وغيرها، ونتج من ذلك تأميم النفط في بعض البلاد مثل العراق وليبيا، بينما قامت دول أخرى بشراء حصص تدريجاً حتى تمكنت من السيطرة الكاملة على مواردها الطبيعية مثل ما حصل في دول الخليج، وهذا مهد لاحقاً لتبني الحصص الإنتاجية في عام 1982.
صادف يوم الأحد الماضي، الـ14 من سبتمبر (أيلول) الجاري، الذكرى الـ65 لتأسيس منظمة الأقطار المصدر للنفط (أوبك) في بغداد. وكان الهدف الأساس هو تنسيق السياسات النفطية بين الدول الأعضاء وحماية مصالحها الاقتصادية لمواجهة شركات النفط العالمية المدعومة من حكوماتها، التي كانت تسيطر على احتياطات النفط في الدول الأعضاء من خلال امتيازات طويلة المدة.
وعلى رغم أن التأسيس يبدو على أنه رد فعل مباشر على خفض الشركات لأسعار النفط مرتين في عام 1959، تشير الأدلة التاريخية إلى أن الفكرة أقدم من ذلك بنحو 12 عاماً، وأكبر من الأسعار. فقد هدف المؤسسان الشيخ عبدالله الطريقي (سعودي)، والدكتور خوان ببلو بيريز الفونسو (فنزويلي)، إلى تحقيق تنمية اقتصادية في الدول الأعضاء عن طريق استخدام واردات النفط ووقف اعتماد هذه الدول على إيرادات النفط، بعيداً من المؤسسات المالية العالمية التي تحمل أجندات غربية.
ولضمان أفضل الأسعار، يجري تغيير المعروض باستمرار ليوافق الطلب على النفط. وبنظرة سريعة إلى تاريخ الدول الأعضاء الخمسة المؤسسين، ثم الدول التي انضمت لها لاحقاً، تبين العودة للأهداف الأساسية، وهي تحقيق تنمية اقتصادية وتنويع مصادر الدخل، وتغيير المعروض ليوافق الطلب لتحقيق أفضل الأسعار مع ظهور رؤية 2030 في السعودية. وما نراه الآن من اجتماعات وقرارات شهرية من مجموعة الثمانية في "أوبك+"، هو تأكيد للأصول التي بنيت عليها "أوبك".
وعند الحديث عن تغير المعروض ليوافق الطلب في كل الأوقات فإن هذا يتضمن أهدافاً عدة، منها تأمين إمدادات نفطية منتظمة ومستدامة للدول المستهلكة، مع الحفاظ على مصالح الدول المنتجة، ومنها خفض التقلبات الكبيرة في الأسواق وتحقيق الاستقرار في السوق، وهذا يمنع الإضرار بالاقتصاد العالمي.
تغيير الإنتاج لمقابلة الطلب على النفط لتحقيق الاستقرار في الأسعار فسره بعضهم بصورة خاطئة بأنه تصرف احتكاري هدفه التأثير في الأسعار، النفط مصدر طبيعي ناضب واقتصادات الموارد الطبيعية تختلف تماماً عن اقتصادات المنتجات الصناعية، كما أن أسواق الموارد الطبيعية تختلف تماماً عن أسواق المنتجات الصناعية، لهذا نجد أنه حتى في الجامعات هناك تخصص لاقتصاديات الموارد الطبيعية، يختلف تماماً عما يدرس في مبادئ الاقتصاد، مثل اقتصاديات النفط والفحم والمعادن.
وكل الأدلة التاريخية تشير إلى أن أسواق النفط تحتاج إلى إدارة، وأن أفضل الفترات في أسواق النفط كانت في فترات جرت فيها إدارة السوق، وأسوأ الفترات كانت عندما تركت الأسواق من دون إدارة، وما يجعل النفط مختلفاً عن المنتجات الصناعية أن التكاليف الثابتة كبيرة مقارنة بالتكاليف المتغيرة أو التشغيلية.
وإذا انخفضت الأسعار فإن المنتجين سيستمرون في الإنتاج ما دام أنهم يغطون التكاليف المتغيرة. وبما أن التكاليف المتغيرة صغيرة، فإن الاستمرار بالإنتاج يعني خسائر ضخمة للصناعة مع انخفاض في الكفاءة وزيادة الهدر، وإدارة السوق تتطلب خفض الإنتاج وهذا يؤدي إلى زيادة الربحية وزيادة الكفاءة وانخفاض الهدر.
وقد يظن بعضهم أن انخفاض الأسعار مفيد للمستهلكين، ولكن هذه نظرة خاطئة وتؤكد ذلك البيانات التاريخية، فالانخفاض الكبير في أسعار النفط يؤدي إلى انخفاض الاستثمار، الذي يؤدي لاحقاً إلى انخفاض الإنتاج بصورة كبيرة، وارتفاع الأسعار بصورة كبيرة أيضاً. وهنا يتضرر المستهلك من زيادة الذبذبة من جهة، وارتفاع الأسعار من جهة أخرى، لهذا نجد أن إدارة "أوبك+" للإنتاج مفيدة للمستهلكين أيضاً.
إنجازات "أوبك"
منذ نحو أربعة أعوام كتبت مقالة في منصة الطاقة المتخصصة فصلت فيها أهم أنجازات "أوبك" في الستينيات، التي شكلت القاعدة التي تقوم عليها صناعة النفط في الدول الأعضاء. مختصر الموضوع أن الخطوات التي اتخذتها "أوبك" المتعلقة بـ"تنفيق الريع" و"تأسيس شركات نفط وطنية" كان من أهم الإنجازات التاريخية للمنظمة.
والريع هو العائد الذي يحصل عليه مالك المصدر الطبيعي في مقابل السماح لآخرين باستخراج هذا المصدر، وكانت الشركات العالمية وقت سيطرتها على احتياطات النفط من خلال الامتيازات تعتبر الريع من ضمن الضرائب والأرباح التي تحصل عليها الحكومات. إلا أنه محاسبياً، بخاصة في الولايات المتحدة، كان الريع يحسب ضمن التكاليف فكان من أهم انجازات "أوبك" في الستينيات هو "تنفيق الريع"، حيث أجبرت الشركات على جعل الريع جزءاً من النفقات، وهذا زاد من إيرادات هذه الدول بصورة كبيرة.
في عام 1968 قررت دول "أوبك" أن تقوم الدول الأعضاء بزيادة حصة الحكومات في الشركات المنتجة ومشاركتها في قرارات الإنتاج وغيرها، ونتج من ذلك تأميم النفط في بعض البلاد مثل العراق وليبيا، بينما قامت دول أخرى بشراء حصص تدريجاً، حتى تمكنت من السيطرة الكاملة على مواردها الطبيعية مثل ما حصل في دول الخليج، وهذا مهد لاحقاً لتبني الحصص الإنتاجية في عام 1982.
مرحلة "أوبك+"
التحول إلى "أوبك+" تطور طبيعي لسببين، الأول هو انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق مثل كازاخستان وأذربيجان كقوى سوقية فاعلة بعد انفتاحها على الأسواق الغربية واعتماد أوروبا عليها، والثاني هو اكتشافات نفطية كبيرة في دول خارج "أوبك". لهذا نجد أن من أهم الإنجازات الكبيرة لـ"أوبك" هو توسعها من خلال "أوبك+"، إذ ضمت دولة منتجة كبيرة مثل وروسيا وكازاخستان والبرازيل.
وكان واضحاً من هبوط أسعار النفط في 2015 أنه لا جدوى من قيام دول "أوبك" بتحمل أعباء خفض الإنتاج لرفع الأسعار وحدها، ولا بد من مشاركة الدول الأخرى، وهذا ما حصل من خلال "أوبك+". ومن أهم المنجزات في السنوات الأخيرة هو نجاح فكرة أن الجميع في قارب واحد، إما ينجو الجميع أو يغرق الجميع، ورأينا ذلك في التخفيضات الكبيرة في فترة إغلاقات كورونا، ثم العودة التدريجية الحذرة للإمدادات، ورأيناه أيضاً في التخفيضات الطوعية لمجموعة الثماني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن التطور الكبير الذي حصل منذ عام 2020 هو المرونة والبراغماتية للتحالف، الذي عززه أمران، الاجتماعات الشهرية، وقيادة وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان آل سعود لهذه الجهود. ونتج من ذلك خفض تقلبات السوق بصورة كبيرة وتعزيز كبير لسمعة المجموعة وصدقيتها. وحقيقة الأمر، وأقولها لأنها حقيقة يمكن إثباتها بالأدلة، أن من حمى صناعة النفط العالمية من الانهيار هي جهود الأمير عبدالعزيز بن سلمان آل سعود من خلال "أوبك+"، التي تابع فيها موضوع تخفيضات الإنتاج بصورة تكاد تكون يومية. ولولا هذه التخفيضات والمتابعة المستمرة لانهارت أسعار النفط إلى الثلاثينيات في عام 2023، وكانت الأسعار نصف ما كانت عليه في عام 2024.
"أوبك" والإعلام
من الانتقادات التي وجهت لمنظمة "أوبك" تاريخياً هو موقفها الحيادي من الهجوم المستمر عليها من هيئات مختلفة ووسائل الإعلام، ولكن هذه الأمور تغيرت جذرياً مع قدوم الأمين العام الحالي هيثم الغيص، الذي ركز بصورة كبيرة على الدفاع عن مصالح الدولة النفطية، وكشف عن عدد من المغالطات التي تنشرها وكالة الطاقة الدولية وعدد كبير من وسائل الإعلام سواء من طريق محاضراته وكلماته في المؤتمرات الدولية أم المقالات التي يكتبها.
كما عزز التعاون بين المنظمة ووسائل الإعلام من جهة، وبين المنظمة والمؤثرين في أسواق الطاقة في وسائل التواصل الاجتماعي. وكان من النتائج غيرالمتوقعة لهذه الجهود أن بعض المتخصصين والمؤثرين لم يكونوا على جرأة كافية بالكشف عن آرائهم بصورة صريحة، ولكن توجهات "أوبك" الأخيرة جعلتهم يدافعون عن صناعة النفط ودول "أوبك"، كما عزز ذلك من صدقية بياناتها وتوقعاتها. وعلى خلاف وكالة الطاقة الدولية، تبنت المنظمة مبدأ الشفافية في البيانات والتوقعات، بدلاً من مبدأ السردية الموجهة التي تتبناها وكالة الطاقة الدولية.
خلاصة القول إن عصارة تجارب 65 سنة بدأت بالظهور في السنوات الأخيرة، سواء بإدارة الإنتاج وحماية مصالح الدول المنتجة، أم في التعامل مع الإعلام، وأعداء النفط والدول النفطية.