ملخص
تقليص نطاق التدريبات ونقل موقعها إلى عمق بيلاروس وانشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، كلها معطيات تدل على الطبيعة الدفاعية لهذه المناورات التي لا تشكل أي تهديد عسكري.
ولكن قبيل بدء هذه المناورات، قررت بولندا إغلاق حدودها البرية بالكامل مع بيلاروس، خوفاً من تكرار السيناريو الأوكراني على أراضيها، إذ بدأ الاجتياح الروسي الشامل للأراضي الأوكرانية في أعقاب مناورات عسكرية روسية - بيلاروسية مماثلة بعنوان "زاباد - 2021"، خلال فبراير عام 2022.
أقلقت المناورات العسكرية الروسية - البيلاروسية المشتركة، التي تستضيفها بيلاروس خلال الفترة من الـ12 إلى الـ16 من سبتمبر (أيلول) الجاري بعنوان "الغرب - 2025"، حلف شمال الأطلسي (الناتو) والغرب عامة وبولندا على وجه الخصوص، لأنها انطلقت بعد يوم واحد من استطلاع الجيش الروسي بالنار مدى استعداد القوات الأطلسية وراداراتها لاكتشاف عشرات الطائرات المسيرة التي أطلقها من دون سابق إنذار فوق بولندا، وقدرتها على إسقاطها والتصدي لها.
ومثل اختراق عدد من الطائرات المسيرة الروسية للمجال الجوي البولندي ليل الخميس خلال الـ10 من سبتمبر الجاري، وتفعيل آليات الرد العسكري والسياسي لحلف شمال الأطلسي، لحظة تصعيد كادت تتجاوز كونها مجرد حادثة حدودية عابرة، إذ نقلت هذه الحادثة الصراع من إطار الحرب بالوكالة الدائرة على الأراضي الأوكرانية بين روسيا والتكتل الغربي بقيادة الولايات المتحدة، إلى بوابة مرحلة الاشتباك المباشر - وإن بنسق محدود ومضبوط هذه المرة - مع البنية الأمنية والعسكرية لـ"الناتو" في جناحه الأوروبي.
مناورات تتضمن أسلحة نووية
الفرضية الأكثر ترجيحاً أن حادثة اختراق المسيرات الروسية للأجواء البولندية لم تكن مقدمة لعمل عدائي واسع، بقدر ما كانت اختباراً استراتيجياً روسياً متعدد الأوجه لقياس الجاهزية العملياتية لقوات "الناتو" في أوروبا الشرقية، وجمع معلومات استخباراتية إلكترونية وعملياتية حول شبكة الدفاع الجوي المتكاملة للحلف في واحدة من أكثر نقاطه قرباً من الأراضي الروسية. ولا شك في أن موسكو تابعت سرعة استجابة الرادارات الأرضية والجوية، ووقتاً استغرقه إصدار الأوامر للمقاتلات للتحرك من القواعد العسكرية عبر أوروبا، قبل ساعات من بدء مناوراتها المشتركة مع بيلاروس على هذه الجبهة تحديداً، وعلى بعد عشرات الكيلومترات فقط من القواعد التي ترابط فيها قوات "الناتو" في بولندا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا.
ووفقاً لتقارير رسمية، يتدرب الجيشان الروسي والبيلاروسي في "مناورات الغرب - 2025" على "صد الغارات الجوية ومواجهة مجموعات التخريب المعادية"، إضافة إلى استخدام الأسلحة النووية. وقبيل بدء هذه المناورات، قررت بولندا إغلاق حدودها البرية بالكامل مع بيلاروس، خوفاً من تكرار السيناريو الأوكراني على أراضيها، إذ بدأ الاجتياح الروسي الشامل للأراضي الأوكرانية في أعقاب مناورات عسكرية روسية - بيلاروسية مماثلة بعنوان "زاباد – 2021" خلال فبراير (شباط) عام 2022.
وتدرب عسكريو روسيا وبيلاروس خلال هذه المناورات على تخطيط استخدام الأسلحة النووية وأنظمة صواريخ "أوريشنيك" الروسية الجديدة، المقرر نشرها في بيلاروس بحلول نهاية عام 2025 الجاري.
ويقول دميتري ستيفانوفيتش الباحث في مركز الأمن الدولي التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، إن ما يميز التدريبات الحالية هو ارتباطها بنشر أسلحة نووية روسية غير استراتيجية في بيلاروس واحتمالات ظهور صواريخ متوسطة المدى هناك. وأضاف المتخصص "إضافة إلى ذلك، تؤخذ تجربة إجراء ’عملية عسكرية خاصة‘ على أراضي أوكرانيا في الاعتبار بالتأكيد، لا سيما في ما يتعلق باستخدام الطائرات المسيرة والحماية منها". وتابع "شهدنا بالفعل تجربة مماثلة خلال تدريبات منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي اختتمت أخيراً في بيلاروس. والأهم من ذلك، أن التدريبات تجرى في ظل عمليات قتالية شديدة الوطأة على مقربة من بعضها بعضاً".
ورفع منسوب قلق "الناتو" ما صرح به وزير الدفاع البيلاروسي فيكتور خرينين خلال الـ13 من أغسطس (آب) الماضي حين أعلن أن هذه المناورات "عنصر مهم من عناصر الردع الاستراتيجي بالنسبة إلينا. وكما يطالب رئيس الدولة، يجب أن نكون على أهبة الاستعداد لأي شيء. نراقب الوضع على حدودنا الغربية والشمالية، ولا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام العسكرة والنشاط العسكري. نظهر انفتاحنا وسلامنا، ولكن يجب أن نبقي أسلحتنا دائماً على أهبة الاستعداد".
أوضح نائبه الأول رئيس هيئة الأركان العامة بافيل مورافيكو لاحقاً أن الأمر يتعلق بالتخطيط فحسب، ولن يستخدم الجيش الأسلحة النووية. وقال "في إطار التدريبات، يجري التخطيط لاستخدام جميع أنواع الأسلحة. لكن الاستخدام - حسناً، معذرة، لا يمكننا استخدام شيء يشكل، على سبيل المثال، تهديداً للعالم أجمع وللأمن العالمي. وسنتعلم كيفية التخطيط لذلك".
وتُنظم مناورات (زاباد) -أي الغرب- الروسية البيلاروسية كل أربعة أعوام منذ عام 2009. وموضوع المناورات الحالية هو "استخدام مجموعات القوات لضمان الأمن العسكري لدولة الاتحاد" بين البلدين، والهدف هو التحقق من قدرة روسيا وبيلاروس على ضمان الأمن العسكري لدولة الاتحاد، ومدى جاهزيتهما لصد أي عدوان غربي محتمل. وأعلن أن 13 ألف عسكري فقط يشاركون فيها، فيما شارك 200 ألف ضابط وجندي في مناورات "زاباد - 2021" التي سبقت الهجوم الشامل على أوكرانيا.
مناورات هادفة
على رغم تأكيد موسكو أن مناورات "زاباد - 2025" مخطط لها سابقاً، وأنها ليست موجهة ضد دول ثالثة، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف للصحافيين خلال الـ11 من سبتمبر الجاري "نحن نتحدث عن استمرار التعاون العسكري وممارسة التفاعل بين حليفين استراتيجيين". وقدم مساعد وزير الدفاع البيلاروسي رئيس إدارة التعاون العسكري الدولي التابعة للإدارة العسكرية للجمهورية فاليري ريفينكو تفاصيل التدريبات للصحافيين، موضحاً أنها تهدف للتدريب على تحقيق المهام التالية:
• صد الضربات الجوية للعدو.
• خوض معركة دفاعية وهزيمة العدو الذي اخترق الدفاع وخلق الظروف لاستعادة وحدة أراضي البلاد.
• الدعم الجوي للقوات.
• مكافحة الجماعات المسلحة غير الشرعية والمخربين.
وذكرت مينسك أن هذه المناورات "مفتوحة وشفافة إلى أقصى حد". ولتحقيق هذه الغاية، ووفقاً لوثيقة فيينا لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي تنظم تبادل المعلومات والبيانات العسكرية حول المناورات، دعت بيلاروس "جميع الدول المشاركة في وثيقة فيينا من دون استثناء"، أي 56 دولة من دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (باستثناء روسيا المشاركة في المناورات)، لمراقبة مناورات "زاباد".
خلفيات وأسباب القلق
انطلقت هذه المناورات الحالية على خلفية اختراق 19 طائرة روسية من دون طيار بولندا ليلة الـ10 من سبتمبر الجاري، وانتهاكها الحدود الجوية للبلاد من دون سابق إنذار أو حادثة محددة استدعت ذلك، رفع من وتيرة قلق "الناتو" وبولندا التي سارعت للطلب من حلفائها في الأطلسي توفير أنظمة دفاع جوي إضافية وأنظمة مضادة للطائرات من دون طيار خوفاً من شن غارات جوية جديدة على أراضيها، خلال هذه المناورات التي يشارك فيها سلاح الطيران الروسي والبيلاروسي.
وفيما وصف رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك الحادثة بأنها "استفزاز واسع النطاق"، سارعت دول عدة أوروبية وأطلسية للإعراب عن استعدادها لمساعدة بولندا بالمعدات العسكرية والذخائر.
ويعتقد المتخصصون أن إطلاق هذا العدد الكبير من الطائرات الروسية المسيرة كان متعمداً. ووفقاً لرئيس الوزراء البولندي توسك، دخل عدد كبير من الطائرات الروسية المسيرة بولندا آتية من بيلاروس. ويرى محللون في المعهد الأميركي لدراسة الحرب (ISW) أن روسيا ربما تجري "استعدادات متعددة المستويات" لحرب محتملة مع حلف الناتو. ووفقاً لخبير العلوم السياسية إيفان بريوبرازينسكي فإن وصول الطائرات الروسية المسيرة إلى بولندا ليس استفزازاً متعمداً، كما يزعم حلف "الناتو"، بل تمرين هجوم روسي على إحدى دول الحلف.
تزايد التهديدات الهجينة
سبق أن حدثت استفزازات عندما حلقت صواريخ وطائرات مسيرة قيل إنها انطلقت من طريق الخطأ فوق بولندا وليتوانيا. لكن هذا كان عملاً مستهدفاً، إذ عطلت طائرات روسية مسيرة عمل عدد من المطارات البولندية. علاوة على ذلك، تزامن ذلك مع وصول كيث كيلوغ، الممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى بولندا. إذا كان من الممكن للمرء أن يتخيل أن زيارته تزامنت من طريق الخطأ مع عمل مخطط له مسبقاً، فإن كل شيء آخر لا يبدو عرضياً. تستكشف روسيا احتمالات تفاقم التهديد الهجين في المنطقة. خلال عام 2022، أجمعت آراء الخبراء على أن المجال الجوي في منطقة دول البلطيق وبولندا هو أكثر النقاط عرضة للخطر في أوروبا.
يعود ذلك إلى خضوع هذا المجال لسيطرة الدفاع الجوي الروسي والبيلاروسي من جيب كالينينغراد في أقصى غرب البلاد ومن أراضي بيلاروس. ومنذ بدء "العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا"، ظهر هناك عدد إضافي من أنظمة الصواريخ والأنظمة المضادة للطائرات ونظام تشويش مراقبة الملاحة الجوية الأميركي "جي بي أس"، وهذه قوة هائلة قادرة على تغطية المنطقة في أية لحظة، مما يسمح للطيران الروسي أو الطائرات الروسية المسيرة بالتحرك بحرية في المجال الجوي لبولندا ودول البلطيق. بالتالي، أصبح من الأسهل بكثير السيطرة على ما يسمى ممر "سووالكي" الاستراتيجي جواً. وكما أظهر اختراق الطائرات المسيرة الروسية لبولندا أخيراً، سيكون من الصعب جداً على الغرب وصف هذا بأنه عدوان من جانب روسيا.
لماذا تقلق التدريبات الغرب؟
أعربت الدول الغربية مراراً وتكراراً عن قلقها إزاء هذه المناورات التي تعدها ضمناً أنها موجهة ضدها. وفي يونيو (حزيران) الماضي، صرح الأمين العام لحلف "الناتو" مارك روته معلقاً على مناورات "زاباد 2025"، بأن الحلف "يراقب من كثب الأنشطة العسكرية الروسية، بما في ذلك المناورات"، واتهم موسكو بانعدام الشفافية. وقال آنذاك في إشارة غير مباشرة للهجوم الروسي على أوكرانيا "تجاوز مستوى التدريب ونطاق مناورات ’زاباد‘ السابقة بكثير ما أعلنته روسيا".
في ظل هذه الظروف، أعلنت مينسك أنها ستقلص نطاق التدريبات وتنقلها من حدودها الغربية والجنوبية إلى مركز الجمهورية. ووفقاً لرئيس البلاد ألكسندر لوكاشينكو، فقد اتخذ هذا القرار لمنع الغرب من اتهام بيلاروس "بالتحضير لقطع ممر سووالكي (المنطقة الواقعة على حدود ليتوانيا وبولندا، والتي تتصل من خلالها دول البلطيق ببقية دول الاتحاد الأوروبي)، بهدف الاستيلاء على جمهوريات البلطيق الثلاث في المرحلة الأولى، ثم بولندا".
وقال لوكاشينكو في مقابلة مع مجلة "تايم" خلال أغسطس "لقد أثبتنا للجميع أننا لن نهاجمكم هناك، وأننا سنجري التدريبات في قلب بيلاروس. حتى لا يكون لديكم مبرر لمواصلة اتهامنا بالاعتداء، أو بالتخطيط لمهاجمة دول أوروبا الشرقية الأطلسية في الأقل، بولندا ودول البلطيق وبخاصة أوكرانيا". ودعا رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال مورافيكو إلى عدم اعتبار هذا القرار "ضعفاً أو ولاءً أو استجابة لبعض الادعاءات". وأكد خلال يوليو (تموز) قائلاً إن "هذه إحدى الخطوات الوحيدة لتحقيق الاستقرار وتهدئة المجتمع الدولي".
مع ذلك، اتخذت دول أوروبا الشرقية تدابير أمنية إضافية قبل المناورات. ووصف رئيس الوزراء البولندي توسك التدريبات الروسية - البيلاروسية بأنها "عدوانية للغاية". وخلال الـ10 من سبتمبر الجاري، أعلنت وزارة الداخلية البولندية أن "سلامة البولنديين هي أولويتنا. سنفتح نقاط التفتيش عندما نتأكد من أن الوضع لا يشكل تهديداً لنا".
في الوقت نفسه، بدأت مناورات "المدافع الحديدي 2025" العسكرية في بولندا خلال الأول من سبتمبر الجاري. وأصبحت هذه المناورات الأكبر في تاريخ البلاد، إذ يشارك فيها وفقاً لوزارة الدفاع في الجمهورية أكثر من 30 ألف جندي من دول عدة في حلف شمال الأطلسي، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، مزودين بنحو 600 وحدة من المعدات العسكرية.
وأكدت وزارة الدفاع البولندية أن "الهدف الرئيس ليس فقط تعزيز القدرات الدفاعية لبولندا وحلف ’الناتو‘، بل أيضاً إظهار الجاهزية للدفاع الجماعي وردع أي عدو محتمل في ظل التحديات الجيوسياسية المعاصرة"، مشيرة إلى أن هذه المناورات ليست موجهة ضد أية دولة. في الوقت نفسه، أوضح وزير دفاع البولندي فلاديسلاف كوسينياك كاميش أن مناورات "المدافع الحديدي" تأتي رداً على التدريبات الروسية - البيلاروسية. وصرح للصحافيين على هامش قمة حلف "الناتو" في لاهاي خلال يوليو 2025 "في الوقت نفسه، يجري الجانب الروسي تدريبات في بيلاروس، لذا من الضروري إظهار قوة التحالف وقدرات الجيش البولندي بوضوح".
ووصفت مينسك مناورات حلف شمال الأطلسي بأنها خطوة أخرى من جانب وارسو "نحو تصعيد الوضع في المنطقة". وفي ظل هذه الظروف، قال مورافيكو إن بيلاروس تحتفظ بحقها في نقل وحداتها العسكرية إلى منطقتي غرودنو وبيلوفيجسكايا بوشا غرب البلاد خلال المناورات.
رأي الصحافة الغربية بالمناورات
تابعت وسائل الإعلام العالمية من كثب التدريبات الروسية - البيلاروسية المشتركة "زاباد - 2025" التي انطلقت الجمعة الماضي، وعدت أنها تظهر قوة روسيا وبيلاروس وتثير قلق حلف شمال الأطلسي والدول الأوروبية. وأثارت المناورات اهتماماً كبيراً، إذ اعتبرتها بولندا وليتوانيا جارتا بيلاروس، تهديداً لأمنهما، على رغم طبيعتها العلنية ودعوة عدد من المراقبين. واعتمد عشرات الصحافيين لتغطية المناورات الروسية - البيلاروسية، وجزء كبير منهم يمثل وسائل إعلام غربية.
تحت عنوان "المناورات الروسية تزيد من قلق حلف شمال الأطلسي" أوردت وكالة "بلومبيرغ" أن المسؤولين الغربيين أكدوا مراراً وتكراراً أنهم لا يتوقعون تهديداً خطراً أو خططاً خفية محتملة لهجوم من خلال هذه التدريبات. وأشارت الوكالة إلى أن "الناتو" سيتمكن من التركيز على المعدات والقوات والجاهزية الروسية.
وفي الوقت نفسه، أشارت الوكالة إلى أن الغرب سيحاول إظهار قدرته على صد "الأعمال العدوانية المزعومة لموسكو".
ورأت صحيفة "اندبندنت" البريطانية بطبعتها الإنجليزية أن "تدريبات زاباد 2025، التي تعد استعراضاً للقوة من جانب روسيا وحليفها الوثيق، تجري في لحظة متوترة للغاية في الصراع بين روسيا وأوكرانيا".
وكتبت صحيفة "بوانت" الفرنسية أن مناورات "زاباد" تنظم بانتظام منذ عام 2009 "تحت إشراف دقيق من قبل مراقبين من بلدان عدة"، كإظهار للقوة العسكرية الروسية.
وعدت صحيفة "فانغارديا" الإسبانية أن "بدء المناورات العسكرية الروسية - البيلاروسية على أراضي بيلاروس وضع بولندا في حال تأهب، فأغلقت حدودها مع بيلاروس وقيدت الرحلات الجوية إلى المناطق الشرقية بسبب ذلك. وتثير هذه المناورات قلق وارسو".
وتشير صحيفة "ديلي ميل" البريطانية إلى أن الدول الغربية نظمت أيضاً تدريبات هذا الشهر يمكن اعتبارها "رداً" مسبقاً على مناورات "زاباد - 2025".
وتكتب مجلة "فوربس" أنه في كل مرة تجرى فيها مناورات "زاباد" في الدول الغربية، تشتعل المناقشات الصاخبة حول التهديدات الروسية المحتملة المزعومة، ومع ذلك، "لم تصدق هذه التنبؤات ولم تتحقق هذه التهديدات أبداً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استعراض للقوة في لحظة توتر
بحسب مراقبين، لا تشكل مناورات "زاباد - 2025" تهديداً عسكرياً حقيقياً، كما تروج لها وسائل الإعلام الغربية. بل هي بالأحرى جزء من لعبة نفسية مختلطة، كما يتضح من تحليل بسيط للبيانات المتاحة.
ويعد إجراء مناورات "زاباد" تقليداً يعود إلى الحقبة السوفياتية. أجريت أولى المناورات العسكرية الكبرى عام 1973 لمحاكاة هجوم على حلف شمال الأطلسي. ومنذ عام 2009، تنظم كل أربعة أعوام بمشاركة روسيا وبيلاروس، وأحياناً حلفاء آخرين من منظمة معاهدة الأمن الجماعي. ووجهت انتقادات للمناورات السابقة، "زاباد 2017" و"زاباد 2021"، لافتقارها إلى الشفافية واحتمال استخدامها لإخفاء عدوان مقبل. لكن هذه المناورات الأخيرة، سبقها في الواقع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا خلال فبراير 2022.
وتثير المناورات العسكرية بين روسيا وبيلاروس قلقاً كبيراً في بولندا بخاصة والغرب عامة، وفقاً لصحيفة "أن دي بي"، ومع ذلك، لا تشكل مناورات "زاباد - 2025" تهديداً عسكرياً حقيقياً، في خضم الصراع الدائر داخل أوكرانيا. فعلى رغم أنها تثير عادة مخاوف حلفاء "الناتو"، لا سيما على الجناح الشرقي، من بولندا إلى دول البلطيق، فإنه وخلافاً للروايات الدعائية الغربية، فإن هذه المناورات لا تشكل تهديداً عسكرياً حقيقياً. إنها جزء من لعبة نفسية هجينة، وليست عملاً عدوانياً.
وفي هذا السياق، يطرح السؤال التالي هل تشكل مناورات "الغرب 2025" تهديداً حقيقياً لبولندا والجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي، أم أنها مجرد استعراض للقوة على مرمى حجر من انتشار قوات "الناتو"؟
لا أحد من المفكرين الاستراتيجيين في العلوم العسكرية يتوقع أن تكون المناورات العسكرية الروسية - البيلاروسية تحضيراً لهجوم مبيت. ومن الواضح أن المناورات نفسها تجري بصورة أكثر هدوءاً من هجوم الطائرات المسيرة على بولندا. ولن يستخدم أحد الأسلحة النووية ضد الدول الأوروبية.
ويؤكد المتخصص إيفان بريوبرازينسكي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يهدف من وراء هذه المناورات التي أتت عقب اختراق المسيرات الروسية لأجواء بولندا، إلى جذب أقصى قدر من انتباه دول "الناتو" وترهيب أقرب جيران روسيا.
وفقاً لستيفانوفيتش الباحث في مركز الأمن الدولي التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، تسعى روسيا، وبخاصة بيلاروس، إلى تخفيف حدة التوتر. وأضاف المتخصص "مع ذلك، في ظل الظروف الراهنة، من غير المرجح القيام بأي شيء سوى عقد جلسات إحاطة ونقل التدريب العملي لحلقات التدريبات بعيداً من الحدود (بالمناسبة، اقترحت روسيا تطبيق هذه الممارسة بالمثل مع حلف شمال الأطلسي في بداية العقد الحالي) ودعوة مراقبين".
والجدير ذكره أن الصيغ الأمنية متعددة الأطراف، مثل معاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا ومعاهدة الأجواء المفتوحة، ووثيقة فيينا، "في حال جمود أو حتى احتضار". ولخص ستيفانوفيتش هذا الأمر قائلاً "خلال الوقت نفسه، يجب ألا ننسى التأثير الرادع للتدريبات الاستراتيجية، ويبدو أنه ينبغي على موسكو ومينسك تطوير مناهج مشتركة لتحقيق التوازن بين الشفافية والغموض في سياق الأحداث".
مخاوف افتراضية
من ناحية نظرية، تثير هذه المناورات العسكرية مخاوف طبيعية بالنسبة إلى بولندا، التي تمتد حدودها مع بيلاروس بطول 418 كيلومتراً، لا سيما بعد حوادث "هجينة" كضغط الهجرة خلال عام 2021. مع ذلك، لا ينبغي أن تخيف مناورات "الغرب 2025" البولنديين، لأنها تجرى بعيداً من الحدود، وهذا لا يعني بالضرورة نشراً سريعاً للقوة. ويؤكد خبراء من معهد أوروبا الوسطى في لوبلين أن نقل التدريبات إلى عمق بيلاروس يعد "تأكيداً الاستعداد للحوار وخفضاً للتوتر".
لكن رئيس الوزراء البولندي اعتبر أن مناورات "زاباد 2025" على خلفية هجوم المسيرات الروسية لبلاده، جعل الغرب وروسيا "أقرب إلى حرب مباشرة أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية"، ودعا إلى اجتماع طارئ لحلفاء "الناتو" بغرض التشاور، ولكنه طمأن مواطنيه ألا داعي للذعر، مضيفاً "يمكنني القول إن هذا الاختبار الأول لجيشنا وحلفائنا، والإجراءات المعدة لمثل هذا الهجوم اجتيزت بنجاح، وتبين أن خطط الاستجابة تعمل جيداً".
هذا العام، ومع مرور أكثر من ثلاثة أعوام على الصراع في أوكرانيا، ينصب اهتمام روسيا الرئيس على الحفاظ على خطوط المواجهة. لذا، يمكن القول بثقة إن الكرملين لم يتمكن من إرسال قوات كبيرة للمشاركة في التدريبات، لأن ذلك سيضعف موقفه على الجبهة.
أما بيلاروس، الحليف العسكري للكرملين، فلا يتجاوز عدد جنود جيشها 60 ألف جندي، وهو مجهز في معظمه بمعدات قديمة من الحقبة السوفياتية. في هذا السياق، لا يمكن اعتبار "زاباد - 2025" تحضيراً لهجوم واسع النطاق، بل محاولة لاستعراض القوة، وهو أمر لا يشكل تهديداً حقيقياً.
ثم إن روسيا ملتزمة جدياً بالعمليات العسكرية في أوكرانيا، وليس لديها فائض قوات احتياطة لنشرها بأعداد كبيرة على أراضي بيلاروس. خلال الوقت نفسه، يعد الجيش البيلاروسي جزءاً لا يتجزأ من القوات المسلحة الروسية، لكنه لا يمتلك قدرات هجومية مستقلة كافية.
كما أن دعوة المراقبين بما في ذلك مراقبون غربيون، ومن بولندا بالذات، تسمح بالتحقق وتؤكد شفافية هذه التدريبات، بحسب متخصصين في الشأن العسكري.
لذا، فإن هذه الحقائق بدءاً من تقليص نطاق التدريبات ومروراً بنقل موقعها إلى عمق البلاد وانشغال روسيا بحربها داخل أوكرانيا، كلها معطيات تدل على الطبيعة الدفاعية لهذه المناورات التي لا تشكل أي تهديد عسكري في الواقع. لكن بالنسبة إلى والجناح الشرقي لحلف "الناتو"، يمكن اتخاذ هذا الأمر مبرراً لتعزيز دفاعهما، وليس سبباً للذعر. في عصر الحروب الهجينة، لا يكمن الخطر الحقيقي في الدبابات بل في الروايات، وهنا يجب ألا يكون حلف "الناتو" أقل فاعلية من خصومه المحتملين.
مهما يكن من أمر المناورات الروسية - البيلاروسية ومن اختبار اختراق المسيرات الروسية لأجواء بلد عضو في "الناتو"، فإن التقييم السياسي الذي خرجت به موسكو من ردود الفعل الأوروبية، يؤكد "مجدداً أن الدول الأوروبية مجتمعة أعجز من أن تدافع عن نفسها، لأن هذه الحوادث الأخيرة كشفت عن مركزية الدور الأميركي كضامن أمن نهائي لأوروبا، إذ إن شبكات القيادة والسيطرة والاستخبارات التي أدارت عملية الاعتراض تعتمد بصورة كبيرة على الأصول العسكرية الأميركية المنتشرة عبر القارة".
يقول عالم السياسة أرتيم شرايبمان إن "حجم هذه المناورات، وفقاً لأجهزة الاستخبارات الغربية، ليس بالأمر المثير للدهشة. لذلك، لا أرى أية تهديدات وشيكة هنا. الهدف الرئيس من التدريبات المنتظمة هو التدريب واستعراض القوة على مرأى من ’الناتو‘. من الواضح الآن أن بعض التصريحات الاستفزازية، مثل التصريح في شأن الأسلحة النووية، تضاف إليها بعض الإشارات الموجهة إلى الغرب، زادت من منسوب القلق. لكن هذه التدريبات كانت ستجرى حتى من دون الحرب الدائرة في أوكرانيا".
خلال الأعوام الأخيرة، أعربت روسيا عن قلقها من نشاط غير مسبوق لحلف "الناتو" قرب حدودها الغربية. ويوسع "الناتو" نطاق مبادراته، واصفاً إياها بـ"احتواء العدوان الروسي". وقد أبدت موسكو مراراً تخوفاً إزاء تعزيز التحالف لقواته في أوروبا. وأكد الكرملين أن روسيا لا تهدد أحداً، لكنها لن تتجاهل أية إجراءات قد تشكل خطراً على مصالحها، وهذه المناورات يمكن اعتبارها رداً ضمنياً على طموحات حلف الأطلسي "غزو" حدائقها الخلفية والتمدد في جغرافيا إمبراطوريتها السابقة، وهذا أمر يهدد مصالح روسيا فعلياً وجدياً وليس افتراضياً.